مرّ علینا فی الخطبة الاولى من نهج البلاغة ما أورده الإمام(علیه السلام)بشأن خلق الأرض فقال: ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشق الأرجاء، وسکائک الهواء، فأجرى فیها ماء متلاطماً تیاره، متراکماً زخاره، حمله على متن الریح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده... فسوى منه سبع سموات.
وقد أشار الإمام(علیه السلام) هنا فی هذا الموضع من الخطبة إلى ذلک الأمر الذی ذکره سابقاً فی أطار عرضه لخلق الأرض بعبارات جدیدة رائعة فقال(علیه السلام): «کبس(1)الأرض على مور(2) أمواج مستفلحة(3)، ولجج بحار زاخرة(4) تلتطم أو اذی(5) أمواجه، وتصطفق(6) متقاذفات(7)أثباجه(8) وترغو(9) زبداً کالفحول عند هیاجها»، ولعل هذه العبارات من قبیل الأمواج والبحار وأمثال ذلک ممّا کان موجوداً قبل بدایة الخلق، أی فی ذلک الزمان الذی لم یکن فیه الماء، بل حتى اللیل والنهار، إشارة إلى المواد المذابة التی کانت موجودة قبیل انبثاق الخلیقة وقد تلاطمت وتلاشت إثر وقوع الانفجارات العظیمة، فظهرت الرغوات الواسعة على هذه المواد المذابة ثم قذفت فی الفضاء لتکون الأرض والکواکب والسیارات، ثم أشار الإمام(علیه السلام) إلى مرحلة اُخرى من مراحل ظهور العالم فقال: «فخضع جماح(10) الماء المتلاطم لثقل حملها، وسکن هیج ارتمائه إذ وطئته بکلکله(11)، وذل مستخذیا إذ تمعکت(12) علیه بکواهله(13)»، ثم أردف الإمام(علیه السلام) ذلک بقوله: «فاصبح بعد اصطخاب(14) أمواجه، ساجی(15) مقهوراً، وفی حکمة(16) الذل منقادا أسیراً»، فالذی یستفاد من هذه العبارات أنّ ظهور الأرض (وسائر الکرات السماویة) على المادة المذابة الاولى کان سببا لاستقرارها بالتدریج وکبح جماحها واضطرابها. کما یحتمل أن تکون هذه العبارات إشارة إلى الأمطار والسیول فی بدایة ظهور الکرة الأرضیة، بحیث شکلت محیطات متلاطمة، إلاّ أنّ هذه الأمواج أخذت بالاستقرار نسبیاً على سطح المحیطات بفعل الجاذبیة الأرضیة. حتى أخذت تظهر الیابسة، من هنا قال لاحقابان الأرض قرت وظهرت یبوستها شیئاً فشیئاً وحد من حرکات الماء حتى سکن وقر فی مکانه «وسکنت الأرض مدحوة(17) فی لجة تیاره، وردت من نخوة بأوه(18) واعتلائه، وشموخ(19) أنقه، وسمو غلوائه(20) وکعمته(21) على کظة(22) جریته(23) فهمد(24) بعد نزقاته(25)، ولبد(26)بعد زیفان(27) وثباته(28)»، وهکذا خمدت العواصف الاولى وقطعت الأمطار والسیول ثم هدأت تلک الامواج، فتأهبت الأرض لتقبل الحیاة علیها، وهذا ما أشار إلیه الإمام(علیه السلام) فی المقطع القادم. وهنا لابدّ من القول بانّ بعض شرّاح نهج البلاغة ذهبوا إلى أنّ الماء قد وجد قبل خلق الکرة الأرضیة، إلاّ أنّه کما أشیر سابقاً أنّ التعبیر بالماء یمکن أن یکون إشارة إلى المواد المذابة السیالة التی وجدت قبل ظهور السماء والأرض.