یتضح من خلال تامل الأقسام المختلفة لهذه الخطبة العجیبة أنّ الإمام(علیه السلام) قد اختط مساراً دقیقاً فی معرفة الله، ومن ثم التعرف على هذا العالم مرورا بمعرفة الإنسان وتربیته، بعبارات رائعة تأخذ بید الإنسان نحو هذاالمسار الطویل و تقوده نحو الهدف، یعنی یسلک به سبیل السمو والتکامل.
فقد تحدث الإمام(علیه السلام) فی السابق عن خلق الأرض ومصادر الحیاة ومن ثم خلق آدم وقصته مع الجنّة و ما تضمنته من عبر ومن ثم هبوطه إلى الأرض، وتقسیم الأرزاق وتعیین الاجال. ولما فرغ من ذلک واصل حدیثه فی هذا المقطع من الخطبة عن علم الله سبحانه بکل شیء وکل شخص وفی کل زمان ومکان، والعالم بکافة الخفایا والاسرار. فقد أورد الإمام(علیه السلام)ذلک بعبارات دقیقة رائعة، مؤکداً على تفاصیل هذه الاُمور، بحیث یشعر الإنسان بکل کیانه أنّ العالم برمته حاضر لدى الله بکل حرکاته وسکناته; و هو الشعور الذی یلعب دورا، حیویاً فی تربیة الإنسان وسوقه نحو الخیر والاحسان.
فقال(علیه السلام): «عالم السر من ضمائر المضمرین، ونجوى المتخافتین وخواطر رجم الظنون، وعقد عزیمات الیقین».
فالعبارة تفید علمه سبحانه بکل شیء: ما یقتدح فی الأذهان، وما یمثل فی الواقع، وما یجری فی الأوهام والظنون، والشک والتردید، وما یجول فی باطنه ونجواه وهمسه مع الاخرین، ثم قال(علیه السلام): «ومسارق(1) إیماض(2) الجفون،(3) وما ضمنته أکنان القلوب، وغیابات الغیوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ(4) الأسماع»، ولما کانت أهم مصادر علم الإنسان تکمن فی قلبه (عقله) وعینه واذنه، کما صرح بذلک القرآن الکریم: (وَاللّهُ أَخْرَجَکُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِکُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئاً وَجَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ)(5) والله محیط بجمیع هذه المصادر; فهو علیم بکافة خفایا الإنسان وأسراره. ثم تجاوز (علیه السلام)خفایا الإنسان وما تنطوی علیه جوانحه لیتجه صوب أصغر الکائنات، لیکشف عن علمه سبحانه وتعالى بخفایا وأوکار الهوام والحشرات وآهات الالم واصوات الحزن ووقع الاقدام: «ومصائف(6) الذر،ومشاتی(7)الهوام(8) ورجع الحنین(9) من المولهات(10) وهَمْسِ(11) الاقدام».
ثم واصل(علیه السلام) کلامه بالاشارة إلى اُمور اُخرى لطیفة وظریفة وخفیة ومکتومة، لیکشف النقاب عن إحاطة العلم الإلهی المطلق بها من خلال عبارات غایة فی الروعة والدقة فقال(علیه السلام): «ومنفسح(12) الثمرة من ولائج(13) غلف(14) الاکمام(15)، ومنقمع(16) الوحوش من غیران(17) الجبال وأودیتها، مختباء البعوض بین سوق(18) الاشجار والحیته(19)، ومغرز(20) الاوراق من الافنان(21)، ومحط الامشاج(22) من مسارب(23) الأصلاب»، العبارة «لامنفسح» بمعنى المکان الفسیح الواسع إشارة إلى أنّ الله سبحانه خلق مکاناً واسعاً فی جوف البراعم لنمو الثمار. والعبارة: «منقمع الوحوش» تفید لجوء الحیوانات الصحراویة إلى الغیران والکهوف بغیة حفظ أنفسها من سائر الحیوانات الوحشیة المفترسة و تخرج حین الحاجة أو صید سائر الحیوانات. و التعبیر «مغرز الأوراق...» لا إشارة إلى الأوراق و لا الأغصان، بل إشارة إلى موضع خاص تلتصق فیه الورقة بالغصن و تنطلق جذورها فی أعماقه فتحفظه من الریح و العواصف.
و التعبیر «محط الأمشاج...» إشارة إلى حرکة نطفة الرجل من غدده الداخلیة و تختلط مع نطفة المرأة حین نزولها فی الرحم حتى تنمو و تتحول إلى إنسان کامل. فالله سبحانه یعلم بهذا المسار و کیفیة الترکب و موضع النزول، و یمکن أن تکون «أمشاج» إشارة إلى ترکیب نطفة الرجل من میاه مختلفة و الذی أثبته العلم الحدیث، حیث لکل منها هدف معین عند إختلاطه مع الآخر و التی تشکل نطفة الرجل، ثم تتحرک نحو الرحم. ثم تطرق الإمام(علیه السلام)إلى تفاصیل دقیقة لعالم الخلقة والحوادث المبرمجة، لیکشف عن علمه سبحانه برقیق السحب التی تظهر فی السماء وتتصل مع بعضها البعض الآخر، إلى جانب هطول قطرات المطر من تلک السحب والریاح التی تحیط بها وتبعث بها هنا وهناک: «وناشئة الغیوم ومتلاحهمها، ودرور قطر السحاب فی متراکمها، وما تسفی(24) الاعاصیر(25) بذیولها، وتعفو(26) الأمطار بسیولها، وعوم(27) بنات الأرض فی کثبان(28) الرمال».
نعم فهو عالم بتمام دقائق عالم الوجود وجزئیات الکائنات الحیة والجمادات فی السموات والأرض; وهو محیط بظهورها وحرکاتها وسکناتها. فکیف بنا وهو الخبیر بما فی أعماقنا ویجول فی أذهاننا وخواطرنا.