خاض الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة فی کیفیة خلق الموجودات على أنّ اللّه سبحانه وتعالى خلقها من دون حاجة إلى التفکیر، أو غریزة مستترة فی الباطن، إلى جانب الغنى عن تجارب الماضى وسالف الدهور، وبالتالی دون الحاجة إلى عضید وشریک «المنشى أصناف الأشیاء بلا رویة فکر آل إلیها، ولا قریحة(1) غریزة أضمر علیها، ولا تجربة أفادها من حوادث الدهور، ولا شریک أعانه على ابتداع عجائب الأمور».
فالواقع هو أنّ أُسس علمنا ومعرفتنا بالحقائق إنّما تستند إلى أحد أربع: الفکر والتروی، أو الالهام الباطنی الذی یصطلح علیه بالغریزة، أوالتجربة التی یحصل علیها الإنسان من خلال تکرار الحوادث، و أخیرا العون الذی یحصل علیه من الاستعانة الخارجیة لأصحاب الفکر الذین یعینونه فی القیام ببعض الأعمال والابداعات. وبالطبع فانّ الحق سبحانه وتعالى لیس بحاجة لأی من هذه الاُسس والمصادر فهو العالم بکل الأشیاء، وهى حاضرة عنده، ولیس هنالک من حقیقة خارجة عن دائرة علمه المطلق. فالفکر إنّما یستفیده من کان له معلومات ومجهولات، یروم توظیف معلوماته لکشف أسرار هذه المجهولات. والالهام الغریزی إنّما یعتمده من غابت عنه الحقائق ولاتتضح له إلاّ من خلال هذا الالهام. وأمّا التجربة وتکرار العمل للوقوف على النتائج فانما ترتبط بمن یجهل نتائج الاُمور وأخیراً فان الاستعانة بافکار الآخرین إنّما یختص بضعف الأفراد وعجزهم إلى جانب قصور فکرهم; فما حاجة الذات المطلقة لمثل هذه الاُمور وهى بتلک الخصائص والصفات؟
وبغض النظر عما سبق فانّ العبارات بدورها ترشد الإنسان الجاهل إلى الظفر بمصادر المعرفة، وأنّ هذه المصادر الأربعة تمکننا من حل المشاکل التی تواجهنا فی حیاتنا الیومیة. ثم أشار الإمام(علیه السلام) إلى نقطة اُخرى بهذا الشأن وهى قطعیة حاکمیة قوانین الخلق على کافة الکائنات: «فتم خلقه بأمره وأذعن لطاعته، وأجاب إلى دعوته، لم یعترض دونه ریث(2)المبطئ، ولا أناة(3) المتلکی»(4).
فهذا الموضوع إشارة أیضاً إلى قدرة اللّه ونظامه الرصین فی عالم الخلق، حیث تسیر کافة هذه الموجودات على ضوء قوانین معینة وهى مؤتمرة بأمره، فهى لا تتخلف عن هذه القوانین ولا تتقدم علیها. فقد صرح القرآن الکریم بهذا الخصوص قائلاً: (ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّماءِ وَهِىَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلاَْرْضِ ائْتِـیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قالَتا أَتَیْنا طائِعِـینَ)(5).
أضف إلى ذلک فهى تشتمل على رسالة واضحة لکافة الناس فی الانسجام وعالم الخلق وتبعیة هذه القوانین الإلهیة، دون التقدم علیها أو التخلف عنها، بهدف بلوغ الغایة والظفر بالفلاح والسعادة.
ثم اختتم(علیه السلام) کلامه بالاشارة إلى خمسة اُمور جدیرة بالتأمل بشأن نظام الخلق وأسرار عالم الخلقة، الأول: استواء هذه الموجودات دون أى اعوجاج او انحراف: «فأقام من الأشیاء أودها»(6) الثانی: أنّه عین لها المسار الذی ینبغی لها أن تسلکه «ونهج حدودها». الثالث: تألیفه بین الأشیاء المتضادة بقدرته «ولاءم یقدرته بین متضادها». الرابع: ربطها مع نظائرهأ«ووصل أسباب قرائنها». والخامس: تقسیمها إلى أنواع مختلفة على أساس الحدود والأجناس والمقادیر والغرائز والاشکال والهیئات «وفرقها أجناسا مختلفات فی الحدود والأقدار والغرائز والهیئات» وهکذا تمّ نظام الخلق وتکامل من جمیع الجهات لیقوم بوظائفه على اختلاف أنواعه وأجناسه کوحدة واحدة ضمن قانون واحد. وأبعد من ذلک تعاضدت وتعاونت حتى الأشیاء المتضادة لتفرز نتائج باهرة، کما إتصلت الأشباه والنظائر، لتشکل بالتالى مجموعة بدیعة عجیبة تشیر إلى مدى قدرته المطلقة سبحانه وعلمه التام.
ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بالقرائن فی العبارة هى نفوس البشر التی أقرها اللّه فی الأبدان، حیث یبدو فی الظاهر أنّ هناک تضاد بین البدن الذی ینتمى إلى عالم المادة والنفس التی تنتمی إلى عالم المجردات.
طبعاً وان کان أحد معانی القرینه (وجمعها قرائن) فی اللغة هو النفس الإنسانیة إلاّ أننا لا نمتلک الدلیل الذی یجعلنا نصرف المعنى المذکور لیقتصر على هذه النفس: بل الهدف هو بیان جمع الأضداد ووصل القرائن والأشباه فی جمیع أنحاء عالم الوجود والذی یعد الوجود الإنسانی أحد مصادیقه، وأنّ أصل إطلاق القرینة على نفس الإنسان إنّما یعزى لاقترانها ببدنه.
ثم إختتم(علیه السلام) کلامه بالقول على أساس الخلوص إلى نتیجة واضحة: «بدایا خلائق أحکم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها»(7).