کما أشرنا فی السابق ـ نظرة إلى الخطبة ـ إلى أنّ الهدف من هذه الخطبة هو حث أهل العراق لمواجهة معاویة وأهل الشام. فقد استهل الإمام(علیه السلام) خطبته بأنّ إمهال الظالم مدة من الزمان لایعنی خلاصه من المؤاخذة والعقاب: «ولئن أمهل الظالم فلن یفوت أخذه».
فقد کمن له سبحانه بالمرصاد، وإذا شاء منعه ابتلاع ریقه: «وهو له بالمرصاد على مجاز طریقه، وبموضع الشج(1) من مساغ(2) ریقه(3)» لعل هذه العبارات إشارة إلى معاویة وأهل الشام، حذراً من تسرب الشک والریب إلى قلوب أصحابه بسبب إمهال الله لهم، کما لایشکوا بأحقیة الإمام(علیه السلام) وبطلان معاویة، فالواقع أنّ الإمام(علیه السلام) رام رافع معنویات جیشه بالفات نظره إلى هذه الحقائق. کما یحتمل أن یکون المراد بالظالم ذلک الجیش المتمرد، فالواقع عبارته تهدید لهم بأنّکم إن أمهلتم عدّة أیام فلایغرنکم ذلک أنّکم ستفلتون من العذاب والمؤاخذة بسبب هذا العصیان والتمرد، ویبدو التفسیر الأول أنسب.
على کل حال، هذا هو الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم کراراً بقوله: (وَلا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا أَ نَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِـیَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِـینٌ)(4). وقال فی موضع آخر (إِنَّ رَبَّک َ لَبِالْمِرْصادِ)(5).
ولا یصدق هذا الموضوع أو یقتصر على ظلمة الشام أو مردة العراق فحسب، بل هو درس وعبرة لنا جمیعاً، بأنّ المهلة الإلهیة لاینبغی أن تقود إلى الغفلة والغرور.
ورد فی حدیث عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: أنّ الله تبارک وتعالى أهبط ملکا إلى الأرض، فلبث فیها دهراً طویلاً، ثم عرج إلى السماء، فقیل له: مارأیت؟ قال: رأیت عجایب کثیرة، وأعجب مارأیت أنی رأیت عبدا متقلباً فی نعمتک، یأکل رزقک، ویدعی الربوبیة، فعجبت من جرئته علیک ومن حلمک عنه. فقال الله جل جلاله: فمن حلمی عجبت؟ قال: نعم.
قال: قد أمهلته أربعمائة سنة لایضرب علیه عرق، ولایرید من الدنیا شیئاً إلاّ ناله، ولایتغیر علیه فیها مطعم ولا مشرب.(6)
وبالطبع فانّ کل ذلک اختبار له وللعباد.
ثم تکهن الإمام(علیه السلام) بمستقبل هؤلاء القوم إزاء عدوهم الطامع قائل: «أمّا والذی نفسی بیده، لیظهرن هؤلاء القوم علیکم، لیس لأنهم أولى بالحق منکم، ولکن لاسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائکم عن حقی».
فالواقع هو أنّ الإمام(علیه السلام) أشار إلى نقطة مهمّة هنا وهى أنّ هؤلاء القوم سیتغلبون علیکم آخر الأمر، ولکن لاتظنوا أنّ هذه الغلبة نابعة من کونهم على الحق.فلا ینبغی أن یعتقد أحد بأنّهم على الحق فیؤدی به ذلک إلى الضلال. قطعاً أنّهم على باطل، إلاّ أنّهم راسخون فی هذا الباطل عاقدون العزم علیه وهم آذان صاغیة لمعاویة; أمّا أنتم وإن کنتم على حق، إلاّ أنّکم ضعفاء، لیس لکم من عزم أو ارادة، ولا تعیرون زعیمکم اذناً صاغیة، فدرجتم على التمرد والعصیان، فاذا جمعت هذه الصفات فی شخص أو أمة مهما کانت فسوف لن یکون مصیرها سوى الهزیمة والفشل.
فقد روى أبو مخنف فی قصة یوم الحرة: أنّ مسلم بن عقبة رکب فرساً فأخذ یسیر فی أهل الشام ویحرضهم ویقول: یا أهل الشام أنّکم لستم بأفضل العرب فی أحسابها ولا أنسابها، ولا أکثرها عدداً ولا أوسعها بلداً، ولم یخصصکم الله بالذی خصکم به من النصر على أعدائکم، وحسن المنزلة عند أئمتکم إلاّ بطاعتکم واستقامتکم.(7)
ثم أشار(علیه السلام) إلى نقطة مهمّة بهذا الشأن: «ولقد أصبحت الاُمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعیتی».
فالاُمم والشعوب طیلة التأریخ إنّما تشکو ظلم وجور حکوماتها المستبدة الطاغیة، بحیث أصبح هذا أمرا طبیعیاً، بینما انقلبت هذه المسألة بالنسبة للإمام(علیه السلام) فهى على العکس تماماً! لم یکن هناک من یخشى ظلمه(علیه السلام)، فلم یکن للظلم والجور من سبیل إلى وجوده(علیه السلام)، فی حین کان هو(علیه السلام) یعیش حالة القلق والاضطراب من غدر أصحابه ومکائدهم وما شاکل ذلک; والحق أنّ مثل هؤلاء الأفراد إنّما یبتلون عاقبة الأمر بالطغاة فیذیقوهم أنواع الظلم، وهذا ماحدث بالفعل، ثم تطرق(علیه السلام) إلى نقاط ضعف أهل الکوفة والعراق آنذاک فقال: «استنفرتکم للجهاد فلم تنفروا، واسمعتکم فلم تسمعوا، ودعوتکم سرا وجهرا فلم تستجیبوا، ونصحت لکم فلم تقبلوا».
والسؤال المطروح: هل کان جیش العراق یشعر بالخطر، إلاّ أنّ الضعف والتقاعس یثبطه بعدم مواجهة العدو؟ أم أنّه لم یکن یشعر بخطر من معاویة وأهل الشام؟ الاحتمالان قائمان، إلى جانب الخوف والجبن والجهل والاختلافات القبلیة.
انذاک خاطبهم(علیه السلام) بعبارات عنیفة ـ تثیر غیرة من کان له أدنى غیرة ورجولة ـ بغیة آثارتهم ودفعهم للنهوض والحرکة، فقال(علیه السلام): «أشهود کغیاب، وعبید کأریاب، أتلو علیکم الحکم فتنفرون منها، وأعظکم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثکم على جهاد أهل البغی فما آتی على آخر قولی حتى أراکم متفرقین أیادی سبا».
«أیادی سبا» وبعبارة اُخرى «مثل أیادی سبا» إشارة إلى مثل معروف بین العرب یضرب للمتفرقین، وقیل أنّ سبأ هو أبو عرب الیمن کان له عشرة أولاد، جعل منهم ستة یمیناً له، وأربعة شمالاً تشبیها لهم بالیدین، ثم تفرق اُولئک الأولاد أشد التفرق.(8)
على کل حال فانّ عبارات الإمام(علیه السلام) تفید أنّه(علیه السلام) نصحهم بأدنى الأمر بکلمات حکیمة ومواعظ حسنة، وقد بالغ فی مداراتهم، وما ورد من کلمات عنیفة وحادة تضمنتها بعض عبارات الخطبة فإنّما کانت عقب تلک الکلمات التی تضمنت الوعظ والنصح، هذا فی الوقت الذی کان الطرف الآخر یمتاز بالفضاضة واللجاجة بحیث لا تجعلهم یفیقون من غفلتهم إلاّ کلمات الذم والتوبیخ والعتاب.
ثم قال(علیه السلام): «ترجعون إلى مجالسکم، وتتخادعون عن مواعظکم، أقومکم غدوة، وترجعون إلى عشیة، کظهر الحنیة(9)، عجز المقوم، وأعضل(10) المقوم».
فالعبارة تنطوی على نقطة مهمّة وهى کثرة المنافقین آنذاک بین أهل العراق، وکانوا یسعون للالتفاف على کلام الإمام(علیه السلام)، فکانوا یتأثرون بأخلاق الإمام(علیه السلام) ومواعظه حین یأتوه، ویقتنعون بضرورة الاستعداد والتأهب لقتال العدو، فاذا رجعوا إلى مجالسهم الخاصة والعامة نفثوا سمومهم الشیطانیة وشوشوا الأفکار وسعوا لاضعاف الارادات وتصدیع عرى الاتحاد والاخوة وبث بذور الشقاق والفرقة.
قال نافع بن کلیب: دخلت الکوفة للتسلیم على علی(علیه السلام) فانی لجالس تحت منبره وعلیه عمامة سوداء ـ إلى أن قال ـ ثم نزل تدمع عیناه فقال (إنالله وإنا إلیه راجعون) أقومهم والله غدوة ویرجعون إلى عشیة مثل ظهر الحنیة، حتى متى وإلى متى(11)؟