لقد وقفنا على الصورة الرائعة التی رسمها الإمام(علیه السلام) للعصر الجاهلی بتلک العبارات المشحوتة بالفصاحة والبلاغة. وبالطبع فقد أشرنا إلى جانب من ممیزات ذلک العصر فی الخطبة الثانیة من المجلد الأول والخطبة السادسة والعشرین من المجلد الثانی. غیر أنّه لایمکن الوقوف على عظمة جهود النبی(صلى الله علیه وآله) فی هدایة تلک الأقوام ما لم یتامل الإنسان بعض تفاصیل حیاة العرب فی العصر الجاهلی من حیث الحروب والسلام والتقالید والأعراف والخرافات والأباطیل التی کانت تنظم شؤون حیاتهم. والمهم هنا هو أنّ هذه الجاهلیة إنّما ترتدی الیوم حلة جدیدة فی مجتمعاتنا المعاصرة بینما تشترک فی ممیزاتها وخصائصها والجاهلیة الاولى. فقد کانت القیم الحقة مغیبة فی العصر الجاهلی، ودماء الأبریاء العزل تسفک بسهولة، ودیدنه غارات الأموال والثروات ونهبها، ولایفرق هذا مع الجاهلیة المعاصرة التی لاتفکر سوى فی الحصول على الأموال وبارخص الأسالیب، أدناها بیع أسلحة الدمار الشامل والتجارة بالمحدرات وشن الحروب من أجل الاستیلاء على مصادر الطاقة. وان شهد العصر الجاهلی وأد بعض البنات، فالقانون الیوم یبرر للناس حالة الإسقاط والإجهاض، کما شنت الحرب العالمیة التی أودت بحیاة الالاف المؤلفة من البنین والبنات، فقد ذکر أنّ عدد قتلى الحرب العالمیة الاولى والثانیة لیفوق بکثیر کافة ضحایاً الحروب التی شهدتها البشریة طیلة التأریخ، بل کان قتلى مدینتین فی الیابان من جراء قنبلتین نوویتین أکثر من کافة قتلى العصر الجاهلی! وإن کانت بعض النساء من ذوات الأعلام فی الجاهلیة، فبعض النسوة الیوم تجاوزت تلک الأعلام لتعلن عن فجورها وفسادها فی أغلب صحف العالم وتنظم لنفسها بعض الاعلانات داعیة الآخرین إلیها; الأمر الذی دفع بالدول والحکومات إلى فرض بعض الضرائب علیهن، وهذا ما أدى بالتالی إلى توفیر الدعم القانونی لهن. بیع البنین والبنات ما زال متواصلاً حیث یقدم الأوربیون والأمریکان على شراء الصبیة من المناطق المعدمة ویبیعونهم إلى الغرب; وهذا ما ینشر فی الصحف والمجلات. أمّا الأخلاق فحدث ولاحرج فقد محتها أمواج الفساد والبغی والدعارة، ولو إستعرضنا بعض الجرائم والانحرافات لأدرکنا أنّ الجاهلیة المعاصرة أرهب وأرعب بکثیر من تلک الجاهلیة. ولعل الآیة 33 من سورة الأحزاب ناظرة إلى الجاهلیة المعاصرة حین خاطبت نساء النبی(صلى الله علیه وآله) بالقول: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَـرُّجَ الجاهِلِـیَّةِ الأُولى).
فالتعبیر بالجاهلیة الاولى یفید أنّ هناک جاهلیة أخرى.
