أشار الإمام(علیه السلام) هذا الربانی الرائد للأخلاق فی عالم البشریة وملهمها فی هذا المقطع من الخطبة إلى ذلک الیوم الذی یغمض فیه الإنسان عینیه ویودع هذه الدنیا، فلیس هنالک من یدفع عنه هذا الموت، ولا تحل مشکلته ببکاء أقربائه وعویلهم، فیستفهم الإمام(علیه السلام) على سبیل الانکار قائل: «فهل دفعت الأرقاب، أو نفعت النواحب،( 1) وقد غودر(2) فی محلة الأموات رهیناً، وفى ضیق المضجع وحید» وکأنّ جداراً سمکه آلاف الامتار قد ضرب بینه وبین قرابته ولا یمکن تخطی ذلک الجدار، ولایسع البکاء والعویل أن یقدم من شئ سوى التخفیف من ألم الفراق ولوعة الاشتیاق، بینما لایعود بأی نفع على المیت. ثم یبین مصیر جسم الإنسان وروحه بعد الموت بعشر عبارات قصیرة فقال(علیه السلام): «وقد هتکت الهوام(3) جلدته، وابلت النواهک(4) جدته،(5) وعفت العواصف(6) آثاره، ومحا الحدثان(7) معالمه، وصارت الاجساد شحبة(8) بعد بضتها، والعظام نخرة(9) بعد قوتها، والارواح مرتهنة بثقل اعبائها،(10) موقنة بغیب أنبائها، لاتستزاد من صالح عملها، ولا تستعتب من سیئ زلله» حقاً لیس هنالک تعبیر أجمع وأکمل وأبلغ من هذا التعبیر الذی صور وضع جسم الإنسان وروحه بعد الموت، فسرعان ما یتفسخ هذا الجسم ویکون لقمة سائغة للحشرات، وتذهب زلاقة لسانه وحدة ذکائه أدراج الریاح ولن یتبقى منه سوى حفنة من العظام النخرة، والقبور المهدمة. والأنکى من کل ذلک غلق صحیفة الأعمال، فلا من زیادة للحسنات ولا نقصان للسیئات، آنذاک لم یعد هنالک من مجال لتلک القطرة من الدمع التی یمکنها إطفاء بحار من نیران الذنوب، إن أفرزتها حالة الندم والتوبة والانابة إلى اللّه. کما ذهبت فرصة القول «لا اله الا اللّه» التی ثوابها شجرة فی الجنّة، فلا سبیل إلى العودة، ولا طریق إلى العمل وقد ختمت صحیفة الأعمال. ثم قال(علیه السلام): «أو لستم أبناء القوم والآباء وا خوانهم والأقرباء؟» فالآباء عادة ما یموتون قبل أولادهم، کما یمکن أن یتوفى الأبناء قبل آبائهم، وربّما یموت بعض الاخوة قبل غیرهم، وعلیه فلیس هنالک من زمان معین لدى الإنسان لحلول أجله وإختتام عمره، والکل سواسیة أمام الموت ولیس هنالک من یرجح عیشه لساعة على آخر أو یضمن أنّه سیعیش لساعة. ثم قال(علیه السلام)موضحاً المعنى المذکور: «تحتذون أمثلتهم، وترکبون قدتهم،(11) وتطؤون جادتهم» لعل الإمام(علیه السلام) أراد توبیخهم بهذه العبارة فی أنّکم رأیتم مصیر من سبقکم فلم تعتبروا بهم، فاقتفیتم آثارهم وأتیتم بأعمالهم وقارفتم ما قارفوه من الذنوب والمعاصی، والحال کان ینبغی أن تتعظوا بهم وتعتبروا بمصیرهم وعاقبتهم. ثم یخلص الإمام(علیه السلام) إلى نتیجة یبیّن من خلالها علة مشاهدة الناس لکل هذه الدروس والعبر دون الاعتبار فقال: «فالقلوب قاسیةٌ عن حظّها، لاهیةٌ عن رشدها، سالکةٌ فی غیرم ضمارها! کأنّ المعنیّ سواها، وکأنّ الرّشد فی إحراز دنیاه». جاء فی نهج البلاغة أنّ الإمام(علیه السلام) تبع جنازة فسمع رجلاً یضحک فقال: «کأنّ الموت فیها على غیرها کتب، وکأنّ الحق فیها على غیرنا وجب، وکأنّ الذی نرى من الأموات سفر عما قلیل إلینا راجعون»(12) نعم إذا قسى قلب الإنسان وسیطرت الظلمة والغفلة على روحه أعمته عن کل هذه الحقائق التی من شأنها إیقاظ کافة البشریة; فما ظنک بهذه الحقائق التی تطالعنا کل یوم! القرآن أشار إلى هؤلاء الأفراد بقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُـکُمْ مِنْ بَعْدِ ذ لِکَ فَهِیَ کَالحِجارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما یَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما یَـشَّـقَّـقُ فَیَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَما یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ وَما اللّهُ بِغافِل عَمّا تَعْمَلُونَ).(13)
نعم فالرکون إلى الدنیا یقسى القلب، فاذا قسى قلب الإنسان ضل طریق السعادة وسار على غیر هدى، بینما یمر على الآیات مر الکرام لیرى المعنی بالوعید غیره، وهو المعنی بالصالحین الفائزین برضوان اللّه.