یستهل الإمام(علیه السلام) خطبته بتحذیر الجمیع من الدنیا والالتفات إلى سرعة زوالها والهدف من خلق الإنسان فیها، والاستغراق فی الغایة التی ینبغی أن ینشدها فی هذه الحیاة. فقد قال(علیه السلام): «فاتّقوا اللّه عباد اللّه» کل مالدیکم من اللّه وقد أمطرکم بوابل نعمه وآلائه فانتم عباده ولا یصح لکم الخروج على أوامره وعصیانه. أما التأکید على التقوى فی هذه الخطبة وسائر الخطب مما لایحتاج إلى أدنى إیضاح کون التقوى تشکل اللبنة الأساس للمؤمن والعمل الصالح، الأمر الذی ورد التأکید علیه کراراً فی القرآن حتى عد الوسیلة للتفاضل (إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ)( 1) وهى خیر الزاد (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزّادِ التَّقْوى)(2). ثم قال(علیه السلام): «و بادروا آجالکم بأع مالکم»، وکأنّ السباق قد بلغ ذروته بین الإنسان والموت، فلو طبع حیاته بالعمل الصالح فانّه سیصل غایته قبل أن یحل به الموت فیحول دون بلوغ تلک الغایة. والواقع أن غایة الإنسان تتمثل بالعسادة والسمو والتکامل والقرب الإلهی; الاُمور التی یمکن للإنسان بلوغها إذا تحلى بالورع والتقوى والعمل الصالح قبل حلول أجله وانتهاء عمره، وإلاّ سیفاجئه الموت دون الظفر بغایته وهذا ما عبر عنه القرآن الکریم: (وَأَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَ أَحَدَکُمُ المَوْتُ فَیَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِی إِلى أَجَل قَرِیب فَأَصَّـدَّقَ وَأَکُنْ مِنَ الصّالِحِـینَ)(3) ثم اتبع ذلک بالقول: «و لن یؤخّر اللّه نفساً إذا جاء أجله» أی لیست هناک من استجابة لمثل هذه الطلبات هناک. ثم قال(علیه السلام):«و ابتاعوا ما یبقى لکم بما یزول عنکم» فالدنیا ومتاعها ونعمها إلى زوال وتبدل وعدم إستقرار، بینما تتصف نعم الآخرة بالدوام والخلود، فهل من عاقل یتردد فی مثل هذه الصفقة وذلک بان یشتری ذلک المتاع الخالد بهذا المتاع الفانی؟ ابتاعوا من مادة ابتیاع بمعنى الشراء، وهو ما أشار إلیه القرآن الکریم فی عدة آیات، منها (إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ المُـؤْمِنِـینَ أَنْفُسَـهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّـةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِـیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقّـاً فِی التَّـوْراةِ وَالإِنْجِـیلِ وَالقُرآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ وَذلِکَ هُـوَ الفَوْزُ العَظِـیمُ)(4)، فهذه الآیة ـ التی شرحت المقایضة المعنویة والإلهیة للناس مع اللّه باروع بیان وضمن عشرة تأکیدات ـ إنّما تشمل کافة میادین الحیاة البشریة وإن وردت بشأن الجهاد; لأنّ الجهاد جزء من مفردات هذه الحیاة، وقد جاء شبیه هذا المعنى فی الآیة العاشرة من سورة الصف (یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّـکُمْ عَلى تِجارَة تُنْجِـیکُمْ مِنْ عَذاب أَلِـیم...)فهل هناک أعظم وأربح من هذه التجارة التی یمثل طرف الإنسان فیها اللّه سبحانه الکریم الغفور الرحیم من جانب، ومن جانب آخر یرضى اللّه بهذه المعاملة لأن یبادل الإنسان بهذا المتاع الفانی والزائل الذی یفقده الإنسان شاء أم أبى بذلک المتاع الخالد الذی یأبى الزوال والفناء؟! ثم قال(علیه السلام):«و ترحّلو(5)فقد جدّ(6) بکم» فی إشارة إلى أنّ الرحیل من الدنیا لیس بالهزل ولا السهل الیسیر، بل أمر جدی بالغ الصعوبة فلسان حال کافة أعضائنا الباطنیة والظاهریة هو الرحیل، ویعاضد ذلک إستزاف القوى الجسمانیة، إلى جانب الآفات والأحداث والبلاءات وأنواع الأمراض التی تدفع بالإنسان إلى الرحیل.
ثم أمر الإمام(علیه السلام) واستناد لما مر بالتجهز والتأهب فقال: «واستعدّوا للموت فقد أظلّکم» وبالطبع لیس المراد بالتأهب والاستعداد للموت أن یکف الإنسان عن السعی والعمل ویقاطع الدنیا ویقبع فی زاویة من داره ینتظر الموت، بل المراد الاکثار من الأعمال الصالحة وتهذیب النفس وتزکیتها والتحلی بالفضائل ومکارم الأخلاق والمسارعة فی «الباقیات الصالحات»، وبعبارة اُخرى التزود للدار الآخرة والقدوم علیها بما ینجی الإنسان من عقباتها. أمّا العبارة «فقد أظلّکم» فهى تفید قرب الموت; لأنّ الأشیاء القریبة فقط هى التی تظل الإنسان. والواقع لیست هنالک من مسافة بین الإنسان والموت، فقد یستسلم للموت أقوى الأقویاء إثر حادثة بسیطة تحیل کیانه عظاماً ولحماً خاویاً، کما قد یموت رغم عنفوان شبابه بفعل سکتة قلبیة، بل قد تخنقه اللقمة الصغیرة فتمیته، وزبدة القول لولا الغفلة التی طغت على الناس بتناسی الموت لما استطاع البشر ممارسة الحیاة بهدوء وسکینة ولو للحظات. ثم قال(علیه السلام):«و کونوا قوماً صیح بهم فانتبهوا، وعلموا أنّ الدّنیا لیست لهم بدار فاستبدلو».(7)
ولعل المراد بمن یصیح فی الناس ویوقظهم من نوم الغفلة، هو ذلک الملک الذی أشار إلیه الإمام الباقر(علیه السلام) مرویاً عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام):
«له ملکٌ ینادی کلّ یوم! *** لدوا للموت وابنوا للخراب!»(8)
أو المراد به العناصر الداخلیة فی جسم الإنسان والتی تؤدی بالتدریج إلى ضعف الجسم وکأنّها تهتف به إلى الرحیل. وقد وردت عدة أشعار فی الدیوان المنسوب للإمام(علیه السلام)بهذا الشأن، نرى من الجفاء عدم التعرض لها، فقد قال:
إلى م تجّر أذیال التّصابی *** و شیبک قد نضا برد الشّباب
بلاَل الشّیب فی فَودَیکَ نَادَى *** بأَعلَى الصّوت حَىَّ عَلَى الذّهَاب
خلقت من التّراب وعن قریب *** تغیب تحت أطباق التّراب
طمعت إقامةً فی دار ظعن *** فلاَ تَطمَع فَرجلکَ فی الرّکَاب
و أرخیت الحجاب فسوف یأتی *** رسولٌ لیس یحجب بالحجاب
أعامر قصرک المرفوع؟ أقصر! *** فإنّک ساکن القبر الخراب!(9)
وأخیرا إختتم کلامه الذی أشار فیه إلى الدنیا وتقلب أحوالها وضرورة الاستعداد فیها إلى سفر الآخرة بعبارة أوردها بمنزلة الدلیل والبرهان على ما قال: «فإنّ اللّه سبحانه لم یخلقکم عبثاً، ولم یترککم سدًى»(10) والعبارة فی الواقع إشارة إلى برهان المعاد المعروف (برهان الحکمة) الذی یصرح بأنّ هدف خلق الإنسان إذا إقتصر على هذه الحیاة القصیرة وما یکتنفها من أیام المطعم والملبس والنوم فانما هو العبث بعینه، فلا یمکن أن یکون هذا هو الهدف من هذا الخلق العظیم وهذه السموات والأرضیین وما یکتنفهما من العجائب والغرائب وهذه البنیة العجیبة لخلقة الإنسان بهذا التعقید والدقة والنظام، فجمیع القرائن الموجودة فی عالم خلقة الإنسان والأکوان تشیر إلى عظم الهدف الذی قام من أجله الخلق، وهو الهدف العظیم الذی خلق الحکیم من أجله الإنسان والعالم، والذی یکمن فی تکامل الإنسان وقربه من اللّه ونیله سعادة الدارین.