لقد إستفاضت الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة التی کشفت النقاب عن غدر الدنیا وتقلب أحوالها. وما أورع الصورة التی رسمها القرآن لهذه الدنیا حین شبهها بماء المطر: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَیاةِ الدُّنْیا کَماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ فَأَصْبَحَ هَشِـیماً تَذرُوهُ الرِّیاحُ وَکانَ اللّهُ عَلى کُلِّ شَیء مُقْتَدِر)( 1). الخطبة التی نحن بصددها هى الاُخرى رسمت صورة ناصعة لتفاهة الدنیا بحیث تهز عباراتها ضمیر أهل الغفلة لتلفت إنتباههم إلى الآخرة، وکثیرة هى خطب نهج البلاغة التی وردت بشأن الدنیا، ولعل السبب الذی یکمن وراء کل هذه التأکیدات هو أنّ العصر الذی عاشه الإمام(علیه السلام) قد أعقب تلک الفتوحات الإسلامیة والتی جرت ثروات طائلة على البلاد الإسلامیة، حتى کانت آثار السلاطین والملوک النفسیة من بین الغنائم التی کان تحصل علیها الجیوش الإسلامیة; الأمر الذی شد أنظار أغلب الأفراد إلى الدنیا، وهذا ما أدى بالتالی إلى فساد المجتمع الإسلامی. فما کان من الإمام(علیه السلام) وبغیة إعادة الاُمّة إلى مسارها الإسلامی الصحیح الذی رسمه رسول اللّه(صلى الله علیه وآله)إلاّ أنّ یعتمد تلک الحیاة الزاهدة المتواضعة من جهة، ویلقی بکلماته الروحیة لیوقظ تلک القلوب الغافلة من جهة أخرى. الادباء والشعراء على مر العصور أنشدوا الشعر فی تصویر غدر الدنیا وعدم وفائها.
والعجیب فی الأمر أنّ کل هذه الآیات والروایات إلى جانب النظم الأدبی البدیع لم تتمکن من إیقاظ أهل الدنیا وسلخهم عنها، فواصلوا بکل قوة مسارهم المنحرف دون الإکتراث لهذا الواعظ أو ذاک. نعم فالمؤمنون إنّما یتعظون بهذه العبر وینتفعون بها لیجدوا ویجتهدوا فی إصلاح أنفسهم ومعادهم.