یثنی الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة على اللّه سبحانه بثلاث من صفاته: «اللّهمّ داحی( 1)المدحوّات، وداعم(2) المسموکات،(3) وجابل(4) القلوب على فطرتها: شقیّها وسعیده» فالعبارة الاولى إشارة إلى بدایة خلق السموات والأرض، حیث تشیر النظریات إلى أنّ الکون والکرات والأجرام السماویة کانت کتلة واحدة ثم انفصلت عن بعضها لعدّة عوامل حتى إتسعت إلى ما هى علیه الیوم. کما کانت الأرض مطمورة تحت الماء، ثم ظهرت الیابسة شیئا فشیئا بعد أن نفذت المیاه إلى المناطق العمیقة والشقوق الأرضیة، ثم إتسعت بمرور الزمان، حتى تکونت المناطق الیابسة والبحار، وأخیراً أصبحت الأرض أکثر إتساعاً بفعل جاذبیة الأحجار السماویة، فقد صرح القرآن بهذا لاشأن قائلاً: (وَالسَّماءَ بَنَیْناها بِأَیْد وَإِنّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُونَ)(5). والعبارة «داعم المسموکات» تعنی حافظ السموات بما فیها السیارات والثوابت والمجرات بواسطة القوى الجاذبیة اللامرئیة; وهى القوى التی تحفظها بحیث لا تتغیر المسافة بین کرات المنظومة الشمسیة رغم مرور ملایین السنین; الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم: (وَإِنْ مِنْ شَیء إِلاّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلـکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ إِنَّهُ کانَ حَلِیماً غَفُور)(6). أما العبارة «و جـابل القلوب» فهى إشارة إلى العلوم الفطریة والإلهیة والغرائز والرغبات النافعة التی أودعها اللّه باطن الإنسان; العلوم والغرائز والرغبات التی تمثل الوسائل التی یوظفها الإنسان فی مسیرته نحو السمو والتکامل والسیر إلى اللّه إلى جانب الرقی المادی والمعنوی. ولعل هنالک من یعتقد أن اللّه أودع الشقاء والسعادة ذات الإنسان، بحیث هناک السعداء ذاتاً والأشقیاء ذاتاً، والحال لاتفید العبارة الواردة فی الخطبة مثل هذا المعنى، بل تصرح العبارة بأنّ اللّه أودع هذه العلوم کافة أفراد البشر من آل أمره إلى السعادة أو الشقاء، وان إعتمدها البعض ووظفها من أجل السعادة وتجاهلها البعض الآخر لیزج بنفسه فی وادی البؤس والشقاء; ولعل الحدیث المعروف «کلّ مولود یولد على الفطرة...»(7) یشیر إلى هذا المعنى. فمن الواضح أنّ السعادة والشقاء لو کانا ذاتیین وکل فرد مجبر على سلوک السبیل الذی عین له سبقاً، أن یکون من العبث بعث الأنبیاء وانزال الکتب السماویة والتکالیف والمسؤولیات والأحکام الشرعیة والثواب والعقاب، وبکلمة واحدة کافة المسائل المرتبطة بالتربیة والتعلیم وآثارها ومعطیاتها; الأمر الذی لایقره العقل ولا الشرع. قال القرآن: (إِنّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمّا شاکِراً وَإِمّا کَفُور)(8). کما قال فی موضع آخر: (وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواه)(9). فالواقع هو أن الحق سبحانه أرشد الإنسان إلى طرق السعادة والشقاء دون أنّ یجبره على شئ، فهو مختار فی أی سبیل سلک، ومن هنا کان مسؤولا أمام اللّه وضمیره.