یتطرق الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة إلى نهایة عمر هذا الإنسان الغافل المغرور وکیف یقضی لحظاته الاخیرة ساعة الاحتضار بین قرابته وبطانته، وقد رسم(علیه السلام) صورة تهز النفس البشریة وترعبها من جراء ذلک المشهد، فقال: «دهمته( 1) فجعات المنیّة فی غبّر(2)جماحه(3) وسنن(4) مراحه(5)، فظلّ سادراً،(6) وبات ساهراً، فی غمرات الاْلام، وطوارق الاْوجاع والاْسقام» وقد تم هذا الأمر الذی یشهده هذا المحتضر وهو: «بین أخ شقیق، ووالد شفیق، وداعیة بالویل جزعاً، ولادمة(7) للصّدر قلق». نعم فقد یأس أهله وأقرباؤه من حیاته
وأخذوا بالبکاء وا لعویل علیه; وأنّ هذا الصراخ والعویل یقض مضجعه کلما خفت علیه غصص الموت وأفاق إلى نفسه، فیتطلع إلى الموت الذی یراه بعینه وهى تدور یمیناً وشمالاً من الخوف والرعب: «و المرء فی سکرة ملهثة،(8) وغمرة کارثة،(9) وأنّة موجعة، وجذبة مکربة،(10) وسوقة(11) متعبة». حقاً أنّ الاحتضار وسکرات الموت حالة عجیبة! فهذا الإنسان الذی کان متربعاً بالأمس على عرش السلطة وقد زود بکافة الإمکانات وثمل من کأس الغرور وتفاخر على سائر الکائنات، هو الیوم أسیر الأمراض وقد صعبت حالته حتى یئس منه من حوله فتعالت أصواتهم بالبکاء والصراخ، ولکن ما عسى ذلک أن یجیده نفعاً. وقد شحن التأریخ بالدروس والعبر بما تضمنه من قصص أصحاب القدرة حین طرحوا على فراش الموت واستسلموا له.
فقد روی أنّ المأمون لما أثقل قال: أخرجونی أشرف على عسکری، وانظر إلى رجالی، وأتبین ملکی، وذلک فی اللیل، فاخرج فاشرف على الخیم والجیش وانتشاره وکثرته وما قد أوقد من النیران، فقال: یا من لایزول ملکه، ارحم من قد زال ملکه، ثم رد إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلاً یشهده لما ثقل، فرفع الرجل صوته لیقولها، فقال له ابن ماسویه: لاتصح فواللّه مایفرق بین ربّه وبین مانی فی هذا الوقت، ففتح المأمون عینیه من ساعته، وبهما من العظم والکبر الأحمرار ما لم یر مثله قط، وأقبل یحاول البطش بیدیه بابن ماسویه، ورام مخاطبته، فعجز عن ذلک، فرمى بطرفه نحو السماء، وقد إمتلأت عیناه دموعاً، فانطلق لسانه من ساعته، وقال: یا من لایموت ارحم من یموت، وقضى من ساعته، وحمل إلى طوس فدفن فیها.(12) وفیه قال الشاعر:
هل رأیت النجوم أغنت عن المأ *** مون شیئاً وملکه المأنوس
خلفوه بعرصتی طرسوس *** مثل ما خلفوا أباه بطوس