خاض الإمام(علیه السلام) ـ فی هذا المقطع من الخطبة وقد أشرفنا على نهایتها ـ فی أمر مهم آخر وهو خلق الإنسان ومتابعته منذ کونه جنیناً حتى إختتام عمره ومفارقته للدنیا وبعثه فی یوم القیامة، اتماماً للأبحاث السابقة حول مکائد الشیطان وضرورة إعداد العدّة والتحلی بالورع والتقوى، وبعبارة اُخرى لیکون الإنسان على حیطة وحذر فیمارس وظائفه الرئیسیة ویجتنب وساوس الشیطان. فقد قال(علیه السلام): «أم( 1) هذا الّذی أنشأه فی ظلمات الاْرحام، وشغف(2)
الاْستار، نطفةً دهاقاً،(3) وعلقةً محاقاً،(4)جنیناً وراضعاً، وولیداً ویافع(5)». فالواقع هو أنّ الإمام(علیه السلام)أشار إلى ستة مراحل من حیاة الإنسان، ترتبط ثلاث منها بالفترة التی یکون فیها جنین وقبل الولادة، وثلاث أخرى تتعلق بما بعد الولادة. وهى المراحل التی تطوى سریعاً وتحتفظ کل واحدة منها بمیزاتها، فبعضها عجیب للغایة والبعض الآخر ینطوی على الدروس والعبر، فاللّه سبحانه وبقدرته یعد من ماء الرجل الذی یفتقر إلى الصورة والشکل بعد أنّ یتکامل فی ظلمات المشیمة والرحم وبطن الاُم إلى علقة فمضغة وعظاماً ولحماً جنیناً ذا حیاة، لیخرج إلى الدنیا، ثم یطوی مراحل الهدایة والتکامل لیبدأ مسیرته إلى الحق. ثم أشار الإمام(علیه السلام) إلى ما زود به هذا المخلوق من وسائل وأدوات: «ثمّ منحه قلباً حافظاً، ولساناً لافظاً، وبصراً لاحظاً، لیفهم معتبراً،یقصّر مزدجر» فقد منحه اللّه العقل لیمیز به الحسن من القبیح، واللسان لیستغله فی فتح صنادیق کنوز العلم بالسؤال والبحث، والعین لیدرک بها الحقائق الحسیة، ویصل إلى أهدافه النهائیة من خلال هذه النعم الثلاثة، ثم یستفیدها فی إدراک الأحکام الإلهیة ویعتبر بما حوله ویبتعد عما لایلیق بشأنه. فالواقع هو أن مصادر المعرفة الثلاث: العقل واللسان والعین والتی تمثل إدراک وإستیعاب المواضیع الفکریة والنقلیة والعینیة والحسیة قد جمعت فی هذه العبارة القصیرة، وبالتالی فقد أمر الإنسان باعتماده للفوز بالسعادة والرضوان.
ثم قال(علیه السلام): «حتّى إذا قام اعتداله، واستوى مثاله، نفر مستکبراً، وخبط سادر»(6) طبعاً لیس جمیع الناس کذلک، إلاّ أنّ کلام الإمام(علیه السلام) إنّما یتناول الأغلبیة العظمى التی تشاهد فی المجتمعات البشریة والتی تولی ظهرها لکل شئ إذا ما شعرت بالقوة والاقتدار ونالت بعض المناصب، کما تشکل تحذیرا لأهل الإیمان من ضرورة مراقبة النفس والسعی لأداء الشکر والتحلی بالتقوى. ثم قال(علیه السلام) «ماتح(7) فی غرب(8) هواه» فهم یشقون على أنفهسم من أجل الحصول على الدنیا ویسعون جاهدین للتمتع بلذاتها، ولا یقتدح فی ذهنهم شیئاً من أهوائهم النفسیة الا أتوه: «کادح(9) سعیاً لدنیاه، فی لذّات طربه، وبدوات(10) أربه(11)» فهذه العبارات إشارة إلى أولئک الجهال الذین یوظفون کافة إمکاناتهم ویستفرغون ما بوسعهم من أجل الحصول على مال الدنیا وحطامها والتنعم بلذاتها الفانیة وأشباع أهوائهم ورغباتهم الجامحة، وکأن هذا هو الهدف الذی خلقوا من أجله، والحال أنّهم یرون بأم أعینهم مصائب الدنیا ومحنها وأمراضها بالتالی الموت الذی یزیلیها، فکیف تکون هدفا وهذا حالها. إلاّ أنّهم وکما یصفهم الإمام(علیه السلام): «ثمّ لا یحتسب رزیّةً،(12) ولا یخشع تقیّةً،(13) فمات فی فتنته غریراً،(14) وعاش فی هفوته(15) یسیراً لم یفد عوضاً ولم یقض مفترض» ویالها من حالة خطیرة لمن أصیب بمثل هذا الغرور والغفلة; فقد ضحى بعمره من أجل التلذذ بضعة أیام، أی لذة، تلک المشوبة بالألم والهم والغم، حتى ودع الدنیا خالی الیدین وقدم على ربّه بذلک السجل الذی یفضحه فی محکمة العدل الإلهی.