یتطرق الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من خطبته الغراء إلى بعض مواقف الآخرة وأهوالها، وقد شحذ الاُمّة لتتأهب لذلک الیوم وتعد نفسها للعبور من مزالقها الخطیرة. فقال(علیه السلام): «و اعلموا أنّ مجازکم( 1) على الصّراط، ومزالق(2) دحضه،(3)أهاویل(4) زلله، وتارات(5) أهواله». یعتبر الصراط أحد مزالق القیامة الذی ورد التأکید علیه والاشارة إلیه فی القرآن وآیاته، کما صرحت به الروایات الإسلامیة على وجه التفصیل والذی یستفاد من الروایات هو أنّ الصراط قنطرة على النار وهى آخر ما یقطعه الإنسان وصولاً إلى الجنّة وأنّ الناس جمیعاً کافرهم ومؤمنهم إنّما یردون ذلک الصراط، أمّا المؤمنون الصالحون فیمرون علیه کالبرق ویدخلون الجنّة، بینما یتعذر على الکافر عبوره فیسقطون فی نار جهنم. فاجتیاز هذا الصراط إنّما یتوقف على إیمان الإنسان وعمله، حتى أنّ سرعة جوازه تتناسب وتقوى الإنسان وعمله. وبالطبع فان الصراط یتجسم بأشکال اُخرى فی الدنیا، بعبارة اُخرى الصراط فی القیامة هو تجسم صراط الدنیا; وذلک لأنّه وصف بأنّه: «أدق من الشعر، وأحد من السیف»(6) مما لاشک فیه أنّ الحد الفاصل بین الحق والباطل والإیمان والکفر والاخلاص والریاء هو قصد القربة واتباع الهوى وهو على درجة من الدقة والخطورة بحیث یتعذر جوازه الأعلى المخلصین الصالحین، وهذا ما سنعرض له فی البحث القادم. على کل حال فان هذا الصراط الحاد ینطوی على عدة عقبات لایمکن إجتیازها دون التأهب والتزود، ومن هنا واصل الإمام(علیه السلام) کلامه قائل: «فاتّقوا اللّه عباد اللّه تقیّة ذی لبّ شغل التّفکّر قلبه، وأنصب(7) الخوف بدنه، وأسهر(8) التّهجّد غرار(9) نومه، وأظمأ الرّجاء هواجر(10) یومه، وظلف(11) الزّهد شهواته».
نعم فالتفکر من أول لوازم التقوى التی تسهل جواز الإنسان على الصراط، حیث یحیى هذا التفکر قلب الإنسان ویجعله یستعشر خشیة اللّه وبالتالی یقوده إلى التهجد وإحیاء الیل وصوم أیام الصیف الحارة والتحلی بالزهد والتواضع. التقوى التی تأخذ بید الإنسان إلى شاطئ الأمان وتجعله یمر کالبرق على ذلک الصراط.
ثم واصل الإمام(علیه السلام) کلامه بشأن التقوى ومعطیاتها فقال: «وأوجف(12) الذّکر بلسانه، وقدّم الخوف لاِمانِهِ، وتنکّب(13) المخالِج(14) عن وضحِ(15) السّبِیلِ، وسلک أقصد المسالِکِ إِلى النّهج المطلوب; ولم تفتله(16) فاتلات الغرور، ولم تعم علیه مشتبهات الاْمور» فقد أشار(علیه السلام) إلى عشرة من أوصاف المتقین ـ إلى جانب التفکر الدائم ـ التی تستبطن کل واحدة منها عالم من المعانی والتی تجعل الإنسان إذا تحلى بها قدوة یحتذى بها وتمنحه العزة والرفعة فی الدنیا والآخرة وتحقیق النجاحات الباهرة فی سیره إلى اللّه سبحانه وتعالى. وقد إتصفت هذه العبارات بتشبیهات لطیفة وکنایات بلیغة بعیدة المعنى بحیث تنفذ إلى أعماق النفس. نعم فالمتقون لایخدعون بالوساس الشیطانیة ولایسیرون حیارى على الطریق، بل ویسلکون أقرب السبل إلى اللّه سبحانه، کما أنّ خوف اللّه ولهج ألسنتهم بذکر اللّه یحول دون إنحرافهم عن السبیل القویم. ثم خاض الإمام(علیه السلام) فی جانب من نتائج هذه الصفات فی الدنیا والآخرة فقال: «ظافراً بفرحة البشرى، وراحة النّعمى،(17) فی أنعم نومه، وآمن یومه، قد عبر معبرالعاجلة حمیداً، وقدّم زاد الاْجلة سعید» فالواقع هو أن السبب الذی یقف وراء راحتهم وسکینتهم واستقرار أفکارهم إنّما یکمن فی إجتیازهم لعقبة الدنیا وتزودهم للدار الآخرة. والشئ المهم هو أن یتمالک الإنسان نفسه حیال هذه المظاهر الکاذبة والخادعة والفساد والانحراف ویبقى على نهجه فی سلوک الصراط المستقیم. ثم أشار(علیه السلام) إلى ست صفات أخرى من صفات المتقین فقال: «و بادر من وجل، وأکمش(18) فی مهل، ورغب فی طلب، وذهب عن هرب، وراقب فی یومه غده، ونظر قدماً أمامه» فهو یستثمر کافة فرص العمر من أجل الفوز بسعادة الدار الآخرة، فهو یقبل على ما ینبغی الاقبال علیه، ویبتعد عن کل ما من شأنه إبعاده عن سبیل السعادة والفلاح. أجل هذه هى الصفات التی تنطوی علیها التقوى والتی ینبغی للعباد أن یجعلوها نصب أعینهم ویسعون جاهدین لاکتسابها. ثم یختتم الإمام(علیه السلام) هذه المقطع من الخطبة بالإشارة إلى النتیجة التی تترتب على التقوى أو عدمه: «فکفى بالجنّة ثواباً ونوالاً، وکفى بالنّار عقاباً ووبالاً، وکفى باللّه منتقماً ونصیراً!کفى بالکتاب حجیجاً وخصیم» حقاً أنّ الإمام(علیه السلام)لمعجز فی عباراته القصیرة التی تناولت التقوى بالشکل الذی لم یسمع نظیره من أحد، وهى العبارات التی تسوق أضعف الأفراد إلى العمل والسعی والحرکة، فما أحراها أن سمیت بالخطبة الغراء.