هذه الآیات کما ذکرنا هی أوّل ما نزل على رسول اللّه(صلى الله علیه وآله) على ما ذهب إلیه أغلب المفسّرین أو جمیعهم، وبذلک بدأ فصل جدید فی تاریخ البشریة، وأضحت الإنسانیة مشمولة بأعظم الألطاف الإلهیّة وبأکمل الأدیان وخاتمها. واستمرّ نزول الوحی حتى اکتمل التشریع الإلهی بمصداق قوله سبحانه:
(الیوم أکملت لکم دینکم واتممت علیکم نعمتی ورضیت لکم الإسلام دین)(1)، وبذلک أتمّ اللّه نعمته على الأجیال البشریة المتعاقبة حتى یرث اللّه الأرض ومن علیها.
والمهمّ فی الإمر أنّ هذه الآیات نزلت على نبیّ اُمی لم یتعلم القراءة والکتابة وفی بیئة اجتماعیة تسودها الاُمیة والجهل لتتحدث أوّل ما تتحدث عن العلم وعن القلم مباشرة بعد ذکر نعمة الخلق!
هذه الآیات تتحدث فی الواقع أوّلاً عن تکامل «جسم» الإنسان من موجود تافه هو «العلقة»، ثمّ عن تکامل «روحه» بواسطة التعلیم والتعلّم خاصّة عن طریق القلم.
حین نزلت هذه الآیات لم تکن بیئة الحجاز وحدها بل کان العالم المتحضر فی ذلک العصر أیضاً لا یعیر أهمّیة تذکر للقلم.
أمّا الیوم فإنّنا نعلم أنّ القلم محور کل الحضارات والعلوم، وکلّ تقدم فی أی مجال من المجالات، ونعلم تفوق أهمّیة «مداد العلماء» على «دماء الشهداء»، لأنّ هذا المداد هو الذی یکون الأساس القویم لدماء الشهداء والسند المتین له، ولا نکون مغالین إذا قلنا أنّ مصیر المجتمعات البشریة مرتبط بما تفرزه الأقلام.
إصلاح المجتمعات البشریة یبدأ من الأقلام الملتزمة المؤمنة، وفساد المجتمعات أیضاً ینطلق من الأقلام المسمومة.
ولأهمّیة القلم یقسم القرآن به وبما یفرزه، أی بآلة الکتابة وبمحصولها: (ن والقلم وما یسطرون)(2).
نعلم أنّ حیاة البشریة تقسم على مرحلتین:
عصر التاریخ.
وعصر ما قبل التاریخ.
وعصر التاریخ یبدأ من استعمال القلم والکتابة والقراءة... من زمن اقتدار الإنسان على أن یکتب بالقلم، وأن یخلف تراثاً للأجیال، من هنا فتاریخ البشریة مقرون بتاریخ ظهور القلم والخط.
وحول دور القلم فی حیاة البشریة کان لنا وقفة طویلة فی بدایة تفسیر سورة القلم.
من هنا فإنّ أساس الإسلام أقیم منذ البدایة على أساس العلم والقلم... ولذلک استطاع قوم متخلفون أن یتقدموا فی العلم والمعرفة حتى تأهّلوا ـ باعتراف الأعداء والأصدقاء ـ لتصدیر علومهم إلى العالم! إن علم المسلمین ومعارفهم هو الذی مزّق ظلام القرون الوسطى فی أوروبا وأدخلها عصر الحضارة. وهذا ما یعترف به علماء أوروبا أنفسهم فیما کتبوه فی حقل تاریخ الحضارة الإسلامیة وفی تراث الإسلام.
وما أبشع وأفظع أن تکون أخلاق اُمّة کتلک تمتلک بین ظهرانیها دیناً کهذا متخلفة فی میادین العلم والمعرفة ومحتاجة إلى الآخرین بل وتابعة لهم!!
1. المائدة، 3.
2. القلم، 1.
