تعتبر مسألة (الجبر والإختیار) من أقدم المسائل المبحوثة بین أوساط العلماء، فبعضهم یرى حریة اختیار الإنسان، ومنهم من یرى بأنّ الإنسان مجبور فی أعماله، وکلّ منهما یمتلک جملة من الأدلة التی أوصلته لما یرى.
ومن اللطیف أنّ کلا الفریقین، یقبلون عملیاً بأنّ الإنسان مختار فی أفعاله.
وبعبارة اُخرى: إنّ البحث والنقاش الدائر بین العلماء لا یتعدى دائرة البحث العلمی، أمّا على الصعید العملی فالکل متفقون على حریة الاختیار للإنسان.
وهذا یظهر لنا بوضوح بأنّ أصل حریة الإرادة والاختیار من الاُصول التی انطوت علیها الفطرة الإنسانیة، ولولا الوساوس المختلفة لاتفق الجمیع على حقیقة حریة الإرادة فی الإنسان.
إنّ الوجدان النوعی والفطرة الإنسانیة عموماً من أوضح أدلة الاختیار، وقد تجلّت بصور متنوعة فی حیاة الإنسان.
وعلیه... فإذا کان الإنسان لا یقبل بالإختیار ویعتبر نفسه مجبوراً فی أعماله فلماذا إذن:
1ـ یندم على بعض الأعمال التی یقوم بها أو لم ینجزها، ویضع تجربته کعبرة لیعتبر به مستقبلاً، فإذا لم یکن مختاراً، فلماذا الندم؟!
2ـ لماذا یلام ویُوبّخ کلّ مَن یسیء، إن کان مجبوراً فی فعله؟!
3ـ یُمدح ویحترم صاحب العمل الصالح.
4ـ یسعى الناس جاهدین لتربیة وتعلیم أبنائهم لیضمنوا لهم مستقبلاً زاهراً، وإذا کانت الأعمال جبریة، فلماذا هذا التعلیم؟
5ـ یسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقی فی المجتمع.
6ـ یتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب، و هل للجبر مِن توبة؟!
7ـ یتحسر الإنسان على تقصیره فیما یطلب منه.
8ـ یحاکم المجرمون والمنحرفون فی کل دول العالم، ویحقق معهم حسب قوانینهم.
9ـ تضع جمیع الاُمم (المؤمنة أم الکافرة) العقوبات للمجرمین.
10ـ مَن یقول بالجبر یصرخ فی وجه المحاکم لمعاقبة مَن اعتدى علیه.
والخلاصة: إن لم یکن للإنسان اختیار، فما معنى الندم؟ ولماذا یلام ویوبخ؟ أمِن العقل أن یلام الإنسان على فعل فعله قهراً؟! ثمّ لماذا یمدح أهل الخیر والصلاح؟ فإن کان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجیعهم.
والقبول بوجود تأثیر للتربیة والتعلیم على سلوک الإنسان یفقد (الجبر) معناه تماماً، وکذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقیة، فلا مفهوم لها بدون الإعتراف أولاً بحریة الإنسان...
ثمّ إن کنّا قد جعلنا على أعمالنا جبراً، فهل یبق للتوبة من معنى؟! ولِمَ الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاکمة الظالم ظلم واضح، والأکثر ظلماً معاقبته؟!!
وکلّ ما ذکر یدلل على أنّ حریة الإرادة وعدم الجبر أصل تحکم به الفطرة الإنسانیة، وهو ما ینسجم تماماً والوجدان البشری العام، والکل یعمل على ضوء هذا الأصل، ولا فرق فی ذلک بین عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة، ولا یستثنى من ذلک حتى الجبریین أنفسهم، وکما قیل فی هذا الجانب: (الجبریون اختیاریون من حیث لا یعلمون).
والقرآن الکریم حافل بما یؤکّد هذه الحقیقة، ونظراً لکثرة الآیات التی تؤکّد على حریة إرادة الإنسان ـ مضافاً إلى الآیة المبحوثة: (فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآب) ـ سنکتفی بذکر ثلاث آیات من القرآن الحکیم.
ففی الآیة 3 من سورة الدهر: (إنّا هدیناه السبیل إمّا شاکراً وإمّا کفور).
وفی الآیة 29 من سورة الکهف، یقول تعالى: (فمن شاء فلیؤمن ومَن شاء فلیکفر).
وجاء فی الآیة 29 من سورة الدهر أیضاً: (إنّ هذه تذکرة فمن شاء اتّّخذ إلى ربّه سبیل).
الحدیث حول (الجبر والتفویض) طویل جدّاً، وقد کتبت فی ذلک کتب ومقالات عدیدة، وما ذکرناه لا یتعدى کونه إلقاء نظرة سریعة ومختصرة على ضوء (القرآن) و(الوجدان)، ونختم الحدیث بذکر ملاحظة مهمّة وهی: إنّ الدوافع النفسیة والاجتماعیة قد اختلطت مع الاستدلال الفلسفی عند الکثیرین ممن یقولون بالجبر.
فکثیر ممن اعتقدوا بالجبر، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبری إنّما توسلوا به للفرار من المسؤولیة، أو أنّهم جعلوها غطاءً لفشلهم الناتج عن تقصیرهم وتساهلهم فی أداء وظائفهم، أو جعلوها مبرراً لإتباع أهوائهم ونزواتهم الشیطانیة.
استغل المستعمر ـ فی بعض الأحیان ـ هذه المقولة، وجدّ على نشر وتأکید هذه العقیدة
الباطلة لتحکیم سیطرته على الرقاب، بعد أن یوهم الناس بأنّهم مجبورون من قبل اللّه على أن یعیشوا تحت سطوة الحاکم الموجود قضاءً وقدراً لیأمن المستعمِر من المقاومة، ویکسب رضاهم وتسلیمهم له!
فالإعتقاد بهذا الرأی... یعنی تبریر کلّ ما یقوم به الطغاة والجناة، وتبریر جمیع ذنوب المذنبین، وبالنتیجة: لا یبقى فرق بعد بین الصالح والطالح، والمطیع والعاصی!!...
اللّهمّ! قِنا من السقوط فی زلل العقائد المنحرفة..
اللّهمّ! أنت المأمول والمرتجى یوم تکون جهنّم للطاغین مرصاداً، والجنّة للمتقین مفازاً...
اللّهمّ! یا واسع المغفرة، لا تخیبنا یوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا..
آمین یا ربّ العالمین
نهایة سورة النبأ
