سبق أنْ قرأنا حکایة النبی ابراهیم(علیه السلام) محطّم الاصنام فی البحوث السابقة وعرفنا أنَّ القرآن الکریم یرى أنَّ ابراهیم(علیه السلام)لم یحز مرتبة الامامة الاّ بعد نیله مرتبة النّبوة والرّسالة وأداء امتحانات کبرى، ففی الآیة 124 من سورة البقرة یقول:

(وإذِ ابْتَلى إبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنّی جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إمام).

هنالک قرائن قرآنیة وتاریخیة مختلفة تؤکد أنَّه نال مرتبة الإمامة بعد أنْ حارب عبدة الاصنام فی بابل، وبعد هجرته الى الشام، وبنائه الکعبة، وأخذ إبنه اسماعیل لیذبحه قرباناً لله.

فاذا کانت النّبوة والرسالة من جانب الله، فمن الأولى أنْ یکون تعیین مقام الامامة ـ الذى یعتبر أعلى مراحل التکامل فی قیادة الامة ـ من جانب الله أیضاً فهو لیس من الأمور التی یمکن أنْ یوکل تنفیذها الى الناس. ولذلک فإنَّ الله یقول مخاطباً ابراهیم(علیه السلام):

(إنِّی جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إمام).

کذلک یقول القرآن فی الآیة 73 من سورة الانبیاء وهو یتحدث عن جمع من الانبیاء العظام: ابراهیم ولوط واسحاق ویعقوب(علیهم السلام):

(وَجَعَلْناهُم أئِمَّةً یَهْدُونَ بِأمْرِن).

وفی القرآن آیات اُخرى شبیهة بهذه تدلّ کلها على أنَّ هذا المنصب الهی وأنَّ الله هو الذی یعین من یشاء لهذا المقام.

کما إنَّنا فی الآیة نفسها التی ینال فیها ابراهیم مقام الإمامة، نقرأ أنَّ ابراهیم(علیه السلام)طلب هذا المنصب لذریته، ولکن جواب الله کان (لا یَنَالَ عَهْدِی الظّالِمینَ)، أی أنْ طلبک قد اُجیب إلاّ فیما یخص الظالمین من ذریّتک، فانَّهم لن یصلوا الى هذا المقام الرفیع.

فاذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مفردة «ظالم» فی اللغة عموماً وفی لغة القرآن تشمل مساحة واسعة من المعانی، بما فیها الذنوب کالشرک الظاهر والخفی وکل ظلم للنفس وللآخرین، واذا أخذنا أیضاً بنظر الاعتبار أن معرفة هذه الحالات معرفة تامّة لا تتأتى لاحد سوى الله، لأنَّه هو وحده العالم ببواطن الناس ونیاتهم، یتبین لنا جلیّاً أنْ تعیین الإمام لمقام الإمامة لا یکون إلاّ بأمر من الله.