المقام الرابع: فی أنّ الکمّیات الثلاث هل کلّها اُصول؟
هل هذه الاُمور الثلاثة ـ الأثر، والعدد، والزمان ـ کلّها اُصول، أو بعضها أصل، وبعضها الآخر دلیل وأمارة علیه؟
ونتیجة هذا البحث: أنّه لو کان جمیعها اُصولا، کفى حصول واحد منها وإن علم بانتفاء الآخرین، وأمّا لو کان أحدها أصلا فلا، مثلا لو کان الأثر أصلا، والآخرین دلیلا علیه، فلا یکفی حصول العدد أو الزمان; لو علم بعدم حصول الأثر أصلا.
وعلى کلّ حال: ففی المسألة أقوال:
الأوّل: أنّ کلّ واحد أصل برأسه، ذکر فی «المسالک»: «أنّه ظاهر المصنّف» أی المحقّق و«الأکثر»(1).
الثانی: أنّ الأصل هو العدد، والباقیان إنّما یعتبران عند عدم انضباطه، حکاه فی «المسالک» عن الشیخ(2).
الثالث: أنّ الأصل هو الأثر، والباقیان أمارة علیه، اختاره فی «کشف اللثام»(3)وتبعه علیه بعض آخر.
والإنصاف: أنّ ظاهر أخبار هذه الأبواب هو الأخیر، وهی على طائفتین:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على حصر طریق الرضاع المحرّم فی إنبات اللحم، وشدّ العظم، أو إنبات اللحم والدم:
منها: ما رواه حمّاد بن عثمان، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «لا یحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم والدم»(4).
ومنها: ما رواه عبدالله بن سنان، قال: سمعت أباعبدالله(علیه السلام) یقول: «لا یحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم، وشدّ العظم»(5).
ومنها: ما رواه مسعدة بن زیاد العبدی، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «لا یحرم من الرضاع إلاّ ما شدّ العظم، وأنبت اللحم...»(6).
ومنها: ما رواه أیضاً مسعدة، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «لا یحرم من الرضاع إلاّ ما شدّ العظم، وأنبت اللحم...»(7).
ولکن یمکن أن تعارض هذه الروایات، بما ورد نظیره فی العدد أو الأثر:
مثل ما رواه زیاد بن سوقة، قال: قلت لأبی جعفر(علیه السلام): هل للرضاع حدّ یؤخذ به؟ فقال: «لا یحرم الرضاع أقلّ من یوم ولیلة، أو خمس عشرة رضعة متوالیات»(8).
ومثل ما رواه الصدوق(قدس سره) فی «المقنع» قال: وروی «لا یحرم من الرضاع إلاّ رضاع خمسة عشر یوماً ولیالیهنّ; لیس بینهنّ، رضاع»(9).
بناءً على حملها على خمس عشرة رضعة. ومن هنا یعلم أنّ الحصر فیها إضافی; ولیس بمعنى نفی الغیر مطلقاً.
الطائفة الثانیة: ـ وهی العمدة ـ ما جعل الأصل فیها الأثر، ثمّ جعل حدّه ـ أی الأمارة علیه ـ العدد، أو الزمان:
مثل: ما عن علی بن رئاب، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قلت: ما یحرم من الرضاع؟ قال: «ما أنبت اللحم، وشدّ العظم» قلت: فیحرم عشر رضعات؟ قال: «لا; لأنّه لا تنبت اللحم ولا تشدّ العظم عشر رضعات»(10).
وما عن الصدوق فی «المقنع» قال: «لا یحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم، وشدّ العظم» قال: وسئل الصادق(علیه السلام): هل لذلک حدّ؟ فقال: «لا یحرم من الرضاع إلاّ رضاع یوم ولیلة، أو خمس عشرة رضعة متوالیات; لا یفصل بینهنّ»(11).
وما عن عبید بن زرارة ـ فی حدیث عن أبی عبدالله(علیه السلام) ـ قال: فما الذی یحرم من الرضاع؟ فقال: «ما أنبت اللحم والدم» فقلت: وما الذی ینبت اللحم والدم؟ فقال: «کان یقال: عشر رضعات» قلت: فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال: «دع ذا»(12).
وما عن عبید بن زرارة، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن الرضاع ما أدنى ما یحرم منه؟ قال: «ما ینبت اللحم والدم» ثمّ قال: «أترى واحدة تنبته؟!» فقلت: اثنتان، أصلحک الله؟ فقال: «لا» فلم أزل أعدّ علیه، حتّى بلغت عشر رضعات(13).
وما عن عبدالله بن سنان، عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: قلت له: یحرم من الرضاع الرضعة، والرضعتان، والثلاثة؟ قال: «لا; إلاّ ما اشتدّ علیه العظم، ونبت اللحم»(14).
أضف إلى ذلک: أنّ حکمة الحکم أیضاً تؤیّد کون الأثر أصلا، والباقیین طریقاً إلیه; فإنّ إنبات لحم الولد واشتداد عظمه، سبب لاتّحاده مع أولاد المرضعة من حیث الجسم الموجب للمحرمیة.
وکذا فإنّ قوله(صلى الله علیه وآله): «الرضاع لحمة کلحمة النسب» المذکور فی کتب الفتاوى والتفسیر ـ وإن لم نجده فی کتب الحدیث ـ أیضاً مؤیّد له; فإنّ «اللحمة» إمّا بمعنى القرابة، وإمّا بمعنى لحمة الثوب المقابلة لسداه، کما ورد فی کتب اللغة، وکلاهما فرع أثر اللبن فی إنبات اللحم، وشدّ العظم، والله العالم.