الآیة التاسعة تذمّ الیهود والنصارى لکونهم جعلوا من علمائهم ورهبانهم آلهة من دون الله الواحد: ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللهِ )(1).
وقد جعلوا من المسیح بن مریم معبوداً لهم أیضاً: (والمَسِیحَ ابْنَ مَریْمَ )فی حین: (وَمَا «رهبان» جمع «راهب» وقال البعض: إنّ هذه الکلمة لها معنى المفرد والجمع وتعنی فی الأصل الشخص الذی یتّصف بخوف الله ویظهر ذلک على أعماله، وتطلق عادةً على مجموعة (التارکین للدنیا) من النصارى وهی مجموعة هجرت الحیاة والإکتساب والعمل بل والزواج أیضاً واشتغلوا بالعبادة فی الدیر (مفردات الراغب، العین، نهایة ابن الأثیر، وتفاسیر المیزان، الکبیر، روح المعانی; وروح البیان; والمراغی).
اُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِدَاً لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا یُشْرِکُونَ) ومن المسلّم به أنّ الیهود والنصارى لم یعتقدوا باُلوهیة علمائهم ورهبانهم ولم یعبدوهم کما نعبد الله تعالى أبداً، فلماذا إذن استعمل القرآن الکریم کلمة (ربّ) و (إله) فیهم؟!
وردت الإجابة عن ذلک فی روایة عن الإمام الباقر (علیه السلام) والإمام الصادق(علیه السلام): «أما والله ما صاموا لهم ولا صلّوا ولکنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا علیهم حلالا فاتّبعوهم وعبدوهم من حیث لا یشعرون»(2).
وقد ورد هذا الحدیث بطرق متعدّدة اُخرى فی المصادر الشیعیة والسنّیة ومنها ما نقرأه فی کتب عدیدة: «عن عَدی بن حاتم قال: أتیت رسول الله (صلى الله علیه وآله) وفی عنقی صلیب من ذهب فقال: یاعدی: اطرح عنک هذا الوثن وسمعته یقرأ آیة: اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. فقلت له: یارسول الله لم یکونوا یعبدونهم فقال: ألیس یحرّمون ما أحلّ الله تعالى فیحرّمونه ویحلّون ما حرّم الله فیستحلّونه؟ فقلت: بلى، قال: ذلک عبادتهم»(3).
وبهذا یتّضح أنّ اتّباع وإطاعة أشخاص یأمرون على خلاف حکم الله یکون لوناً من الشرک.
الآیة العاشرة والأخیرة تخاطب جمیع البشر: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَیْکُم یَابَنِى آدَمَ أَنْ لاَ تَعبُدُوا الشَّیْطَانَ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌ مُّبِینٌ )( وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِیمٌ).
ومن المسلّم به أنّه لا أحد یعبد الشیطان بمعنى الرکوع والسجود والصلاة والصیام، فما هی العبادة التی نُهی عنها؟ هل هی شیء غیر الطاعة؟ أجل، إنّهم حینما یستسلمون لما یریده الشیطان ویقدّمون أمره على أمر الله فانّهم مشرکون وعبّاد الشیطان، والشرک هنا بمعنى طاعة الأمر لا الرکوع والسجود.
أین أخذ الله تعالى هذا العهد من بنی آدم؟ فسّره البعض بأنّه (عالم الذرّ) وفسّره بعض أنّه وصایا الأنبیاء لأقوامهم، ولکن الظاهر أنّ الآیة تشیر إلى الوصایا التی تشبه العهد الذی کان لله تعالى عند هبوط آدم مع أولاده إلى الأرض، وقد قامت هذه الآیة بتبیان ذلک: ( یَابَنِى آدَمَ لاَ یَفَتِنَنَّکُمُ الشَّیْطَانُ کَمَا أَخرَجَ أبَوَیکُم مِّنَ الجَنَّةِ ). (الاعراف / 27)
وهکذا فی خطابها لآدم وزوجته بقولها (اِنَّ الشَّیْطَانَ لَکُمَا عَدُوٌّ مُّبِینٌ). (الاعراف/22)
والآیة 117 من سورة طه تخاطب آدم(علیه السلام): ( فَقُلنَا یَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدوٌّ لَّکَ وَلِزَوجِکَ ).
ومن المسلّم به أنّ مثل هذا العدو یکون عدوّاً لأبنائه أیضاً، لأنّ مخالفته لم تکن مع آدم فقط بل مع جمیع نسله، ولذا أقسم من البدایة: ( قَالَ أَرَأَیْتَکَ هَذَا الَّذِى کَرَّمتَ عَلَىَّ لَئِن أَخَّرتَنِ اِلى یَومِ القِیَامَةِ لاََحتَنِکَنَّ ذُرِّیَّتَهُ إِلاَّ قَلِیل). (الاسراء / 62)
وقوله الله تعالى: ( قَالَ فَبِعِزَّتِکَ لاَُغوِیَنَّهُم أَجمَعِینَ * إِلاَّ عِبَادَکَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِینَ).(ص/ 82 ـ 83)