فی الآیة الثالثة مقالة تفوّه بها فرعون فی هذا الشأن، وهی توضّح أفکار الشعب المصری آنئذ، فقد ألقى هذه المقالة فی عصر کان لإسم موسى وانتصاره على السحرة صداه فی مصر بأسرها، ولمّا شعر فرعون بخیبة أمل شدیدة رأى أن یعمل شیئاً یصرف به أنظار الناس عن موسى(علیه السلام) ومعجزاته: (وَقَالَ فِرعَونُ یَاأَیُّهَا المَلاَُ مَا عَلِمتُ لَکُم مِّن إِلَه غَیرِى )(1)، ولذا أرى أنّ دعوة موسى إلى ربّ السماء والأرض خاطئة، وبما أنّی من أهل التحقیق، فقد خطر ببالی شیء یظهر به صدق موسى أو کذبه، قم یاهامان: ( فَاَوقِدْ لِى یَاهَامَانَ عَلَى الطِّینِ فَاجْعَلْ لِّى صَرْحاً لَّعلّى أَطَّلعُ إِلَى إِلَهِ مُوسى )(2)، ( وَإِنِّى لاََظُنُّهُ مِنَ الکَاذِبِینَ ).
ولا شکّ أنّ فرعون کان شدید المکر والدهاء وهو یدرک هذه القضایا الواضحة وهی أنّه لیس إلهاً، وأنّ مایقصده موسى من إله السماء، هو خالقه لا أنّ الله یسکن السماء حقیقة، ولو تجاوزنا هذا الأمر وافترضنا أنّ الله یسکن السماء فإنّه لا یمکن الوصول إلیه ببناء برج عال، فمنظر السماء من على قمم الجبال فی العالم هو المنظر الذی یشاهد من فوق سطح الأرض، ولم تخف هذه القضایا على فرعون.
ولکن فرعون کان یفکّر فی مخطّط آخر وأراد صرف الرأی العامّ الذی مال إلى موسى بشدّة وذلک بطرح هذه القضیّة المثیرة، کما أرادَ أن یشغل مجموعة من الناس ولمدّة طویلة ببناء برج عال جدّاً، وفی النهایة یصعد إلى أعلى البرج لیحرّک نفسه ویقول: إنّی بحثت عن إله موسى(علیه السلام) فی السماء فلم أجد له أثراً!
إنَّ هذه القضیّة توضّح أمراً مهمّاً وهو إنّ مستوى التفکیر العامّ فی مصر کان بسیطاً إلى حدّ أنّهم لم یکونوا لیصدقوا إلاّ بإله محسوس، وبالتالی یصدقون فرعون بادّعائه الاُلوهیة وتوقّعوا أن یکون إله موسى جسماً فی أعالی السماء! وفی مثل هذه الأجواء تشیع روح الصنمیة وعبادة الأصنام قطعاً!
الآیة الرابعة تنقل أقوال المشرکین واحتجاجاتهم المتنوّعة والغریبة حیث طرح کلّ واحد اقتراحاً على النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) وتمسّک بحجّة معیّنة حیث تقول الآیة: (وَقَالُوا لَن نُّؤمِنَ لَکَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ یَنبُوعاً )(3)، وقد تمسّک البعض الآخر بحجج اُخرى وقالوا أخیراً: ( أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ کَمَا زَعَمْتَ عَلَینَا کِسَفاً أَو تَأتِىَ بِاللهِ وَالمَلاَئِکَةِ قَبِیلا )(4).
والمطالبة الأخیرة توضّح جیّداً أنّهم تصوّروا أنّ الله والملائکة ذوو أجسام وموجودات جسمانیة، ولم یتحمّلوا تصوّر وجود خارج عن إطار عالم الجسم والطبیعة، ویعتقد بعض المفسّرین بأنّ مرادهم من الإتیان بالملائکة هو أن تأتی لتعیّن الله!(5) أو تشهد على اُلوهیته، وتشیر هذه کلّها إلى المستوى الفکری المتخلف لاُولئک القوم المعاندین.