ومن تجلیات اخلاص النیّة، بذل الجاه والمکانة الاجتماعیة والسمعة فی سبیل الله، فربّما یتحدّث الشخص أو یکتب عن التعالیم الإسلامیة والمدینة الفاضلة وقدرة الدین على إدارة المجتمع الإسلامی وینتقد النظریات المادیة والوضعیة والأفکار الشرقیة والغربیة، ولکنّه فی مقام العمل غیر مستعد لأن یضحی بشخصیته العلمیة والحوزویة اطلاقاً ولا مستعد لأن یبذل قطرة واحدة من ماء وجهه ویتحمل أنواع الاتهامات وأشکال السخریة والاستهزاء فی هذا السبیل، أو یکون مستعداً للخروج من قوقعته والتحرر من اطار الدروس العلمیة الجامدة والمباحث الأکادیمیة والفلسفیة إلى أجواء العالم الخارجی وللارتباط المباشر مع جیل الشباب والتعرف على إشکالاتهم وأسئلتهم وما یدور فی أذهانهم عن المدارس الفکریة والثقافات المعاصرة وتکون لدیهم رؤیة جامعة ومنسجمة لتعالیم الدین وقدرته على الإجابة عن علامات الاستفهام والإشکالیات التی یفرضها الواقع المعاصر.
کل هذه من أجل أنّ الإجابة عن الشبهات والمعضلات التی یعیشها الشباب المعاصر والتعرف على مقتضیات الزمان والمکان تقترن بصعوبات کثیرة وتجعل الشخص فی معرض التهمة من قبل المغرضین وقوى الانحراف، فهذه الحالة لا تتحقق فی واقع الإنسان إلاّ من کان ذا حظ وافر من الاخلاص والعشق للدین والدفاع عن حدود الشریعة السماویة، وهذه الحالة نجدها متجسدة لدى استاذنا من قدیم الأیّام حیث لا یبخل بشیء فی هذا السبیل ولا یأبه ببذل سمعته ومکانته العلمیة والحوزویة من أجل الدفاع عن الدین والمحافظة على عنصر الإیمان لدى الناس، وعلى هذا الأساس خرج سماحة الاستاذ من إطار الجو السائد فی الحوزة وتجاوز مقولة الشؤونات الحوزویة واستطاع أن یکتب أکثر من مائة وعشرین کتاباً تهتم برفع إشکالات الشباب وتربیة الجیل الصاعد.
إنّ ما تقدّم آنفاً کان یدور فی ما یتعلق بشؤون الحوزة وفی إطار الأجواء المدرسیة، وأمّا خارج دائرة الحوزة، أی فی واقع المجتمع، فنرى أیضاً أنّ سماحة الاستاذ یعیش الشهامة والفتوة فی روحه من خلال استعراض إجمالی لمسیرة التحوّلات والحوادث الواقعة قبل الثورة وبعدها وفی ما یتعلق ببعض الأشخاص أو التیارات الفکریة المنحرفة، إنّ هذه التیارات الفکریة وبسبب امتدادها فی عواطف الناس والشباب والمثقفین خاصة، وأحیاناً لدى بعض العامة من الناس یحتاج التصدی لها ومواجهتها إلى شیء من المخاطرة بالوجاهة والسمعة الاجتماعیة، وبالطبع فانّ مقتضى الاحتیاط وسیاسة المحافظة وحمایة المکانة الاجتماعیة أن یسکت الإنسان ویتخذ موقف الصمت والتقیة وبدوافع من وساوس شیطانیة: (لاَُزَیِّنَنَّ لَهُمْ)(1) وأوهام تلبس ثوب العقل أو الحکم الشرعی بلزوم المحافظة على حریم الشأنیة والمکانة الاجتماعیة، وبالتالی یؤدّی هذا الموقف المتماهی مع خط الانحراف إلى کتمان الحقیقة وعدم التصدی إلى البدع والانحرافات فی الأجواء الثقافیة والاجتماعیة ویکون مصداق: (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَیِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْکِتَابِ، أُوْلَئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)(2).
إنّ وجدان الاستاذ الیقظ وروح الاخلاص فیه وعشقه للدفاع عن حریم الدین أدّى به إلى الاقدام فی میادین التبلیغ والارشاد وهدایة الجیل الحاضر ونجاته من براثن قوى الانحراف وأهل الضلال بالرغم من تعرضه لأنواع التهم والسخریة للمغرضین، إلاّ أنّه لم یکن یبخل بأی شیء من وجاهته واعتباره وشخصیته فی سبیل تحکیم مواقف الدین وهدایة المسترشدین.
ولا شک فی أنّ هذه الجرأة والشهامة وعدم الخشیة من افرازات الموقف یعتبر فضیلة وملکة ثانیة لا ینالها إلاّ ذو حظ عظیم: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ مَن یَرْتَدَّ... وَلاَ یَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذَلِکَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَن یَشَآءُ)(3).
1. سورة الحجر، الآیة 39.
2. سورة البقرة، الآیة 159.
3. سورة المائدة، الآیة 54.
