إنّ حراسة سماحة الاستاذ لحدود العقیدة والدین وصلت إلى غایة العمق والأهمیّة عندما تجاوزت حدود الحراسة الفردیة وارتقت إلى مستوى الحراسة الجماعیة، وبتعبیر أفضل: «مستوى تربیة حراس المذهب»، أی أنّ سماحته تحرک على مستوى تشکیل لجان مختلفة فی شتى المواضیع الدینیة لتربیة القوى الإنسانیة والطاقات الشابة والفاعلة لغرض الإجابة عن الشبهات والمعضلات العقائدیة والأخلاقیة، حیث تحدّث سماحته فی ما یتعلق بهذا المجال وبقوله:
«من جملة الدروس التی شرعنا بها فی الحوزة العلمیة فی قم هو درس العقائد والکلام الجدید، ومقصودی من الکلام الجدید هو ما نراه فی العصر الحاضر من تیارات ومذاهب فکریة وعقائدیة مختلفة، فهناک مذاهب لم تکن موجودة فی السابق أو کانت ضعیفة جدّاً ومن جملتها المذاهب الالحادیة والمادیة، وبعبارة اُخرى: هؤلاء الذین لا یقبلون أی دین ومذهب وحتى ینکرون وجود عالم ما وراء الطبیعة مضافاً إلى وجود مذاهب مصطنعة ومدارس فکریة مجعولة حیث نعلم أنّ الکثیر منها تمثل ثمرة وجود الاستعمار فی عالمنا الإسلامی من أجل حفظ منافعه اللامشروعة، ومع الالتفات إلى أنّ الإنسان یعیش فی أعماق نفسه المیل الفطری للدین والالتزام الدینی من جهة، ومن جهة اُخرى فانّ الأدیان السماویة الحقة تقف ضد منافع المستکبرین، فهؤلاء یتحرکون وراء إیجاد مذهب ومدرسة فکریة بإمکانها إشباع هذه الغریزة الفطریة فی الإنسان إشباعاً کاذباً وفی نفس الوقت تلتقی مع منافع المستکبرین، ومن جهة اُخرى لابدّ من الانتباه إلى هذه الحقیقة، وهی أنّ المجتمعات البشریة ترتبط فیما بینها فی العصر الحاضر بأکثر من رابطة قویة، ومن شأن وجود دین صحیح فی منطقة من مناطق العالم أن یسری إلى المناطق الاُخرى وینفذ إلى مجتمعات بشریة اُخرى، ومن مجموع هذه الاُمور نرى أنّ الحوزة العلمیة لا یمکنها أن تقف مکتوفة الأیدی أمام تحرکات هؤلاء المغرضین، بل یجب طرح هذه الأفکار والمذاهب على بساط البحث والمناقشة وتحدید موقف الإسلام منها بشکل مستدل ومنطقی.
ولهذا السبب قمت بتشکیل جلستین: إحداهما تختص بدرس العقائد حیث یتمّ استعراض الکلام الجدید والقدیم فیها، وشرعنا بتدریس أول مسائل علم الکلام، وبما أنّ هذا الموضوع یعتبر جدیداً فی الحوزة فإنّه وقع مورد استقبال کبیر بین الطلاّب الأعزاء، وبالطبع فمن اللازم أن أقول أنّ هذا الدرس کان یتمّ فقط فی لیالی الخمیس واستمر لأکثر من ثلاثین جلسة حیث تمّ فیها بیان مواضیع مهمّة من العقائد والتیارات الفکریة والمذاهب الفلسفیة الاُخرى وتمّ تحقیقها ودراستها بصورة منطقیة تماماً، وهذه البحوث استمرت لأکثر من ثلاثین سنة وأدّت إلى حصیلة علمیة خصبة استطعت أن أجمعها على شکل کتاب، وبما أنّ هذه البحوث قد طرحت أمام الطلاّب والفضلاء فی الحوزة العلمیة وکان الدرس یتضمن أسئلة وأجوبة فلهذا تعمقت هذه الدروس أکثر، ومن جملة الکتب التی أثمرت عنها تلک الجلسات هو کتاب «خالق العالم» و«کیف نتعرف على الله» و«زعماء العالم» و«القرآن والنبی الخاتم» و«المعاد والحیاة بعد الموت» و«الإمام المهدی والثورة العالمیة» وکتب اُخرى أیضاً، والکثیر من الطلاّب والفضلاء فی الحوزة العلمیة عندما یأتون إلیَّ یتحدّثون معی عن تلک الجلسات أو کما یقولون: یتذکرون الاستفادة العلمیة التی حصلوا علیها من تلک الجلسات والدروس.
الجلسة الاُخرى کانت عبارة عن مجلس خاص یشترک فیه ثلاثون شخصاً تقریباً من الشباب الفضلاء الأذکیاء، وقد عملت على تقسیم هذه الجماعة إلى ثمان مجامیع، کل مجموعة تتشکل من ثلاثة إلى أربعة أشخاص یتکفلون بمطالعة أحد المذاهب والأدیان السائدة فی المجتمعات البشریة، فبعض یبحث فی الفکر المادی ویحقق فی المذاهب والتیارات المادیة، وبعض آخر یبحث فی المذهب الوهابی، وهکذا بالنسبة إلى الیهود والنصارى أو الفرق الصوفیة أو مذاهب أهل السنة أو البوذائیة، ولکل مجموعة کتب معینة ومصادر علمیة یرجعون إلیها فی مقام التعرف على ذلک المذهب، وکل مجموعة أیضاً تعقد جلسة خاصة ویتداولون فیما بینهم المواضیع والمعارف التی حصلوا علیها ثم یکتبونها فی کراس أو رسالة علمیة، وأخیراً یشترکون فی جلسة مشترکة فی لیالی الجمعة ویطرحون مسائلهم فی حضوری وتقرأ کل مجموعة ما کتبته على هذه الجمعیة المشترکة ویتمّ مناقشتها ونقدها، وهذا العمل بحمد الله أثمر کثیراً واستقبله عامة المثقفین بصورة جیدة وکانت حصیلة تلک الجلسات کتب متعددة من هؤلاء الاخوة المشترکین فی هذه الجلسات حیث تمّ طبعها ونشرها.
لقد أدّت هاتان الجلستان إلى إیجاد تغییرات کبیرة فی مناهج الحوزة العلمیة وخاصة بالنسبة إلى جیل الطلبة الشباب فی المسائل الکلامیة والاعتقادیة وفتحت أمامهم أبواب بحوث جدیدة فی دائرة العقائد الإسلامیة حیث دخلت الحوزة أجواء جدیدة من الأفکار والفلسفات الاُخرى.
وأنا لا أدّعی أبداً أنّ هذه النتائج والمعطیات هی حصیلة جهودی فقط بل إنّ الکثیر من الفضلاء والعلماء ساهموا فی خلق هذا الجو العلمی وأنا بدروی ساهمت معهم، وبحمد الله کانت معطیات هذه الجلسات مثمرة وجیدة للغایة».
