وفی الختام تطرق سماحة الاستاذ لبیان المعطیات الإیجابیة للوسواس وبرکاته الخاصة وطرق علاجه أیضاً، فقال:
«إنّ هذا التعب والألم بالرغم من شدّته إلاّ أنّه لا یخلو من برکات کثیرة أیضاً، حیث أجبرنی على مطالعة کتب الأعاظم والعلماء فی دائرة العقائد والکلام والتدقیق فی أدلتهم والتدبر والتأمل فی الآیات القرآنیة والروایات الشریفة، ولعل هذه المعارف أصبحت بمثابة رأس مال فکری لما سأقوم به من تألیف وتصنیف لکتب کثیرة فی اُصول الدین لاحقاً.
ومن أجل التعرف على المسائل الفرعیة والعملیة المتعلقة بالاُمور الفقهیة ولغرض قلع الوسواس من جذوره، بدأت بمطالعة «العروة الوثقى» وأعدت قراءته مرات عدیدة، فکان هذا سبباً لخلق ملکة فقهیة لدیّ بحیث تسلطت على المسائل الفرعیة (ولکن لیست بصورة استدلالیة بل بصورة عادیة) وأتصور أنّ الإنسان إذا واجه الوسواس بهذه الصورة ومن موقع التأمل الفکری والعقلی فانّ ذلک من شأنه أن یمنحه حرکة فکریة قوّیة، ولکن إذا اتخذ موقفاً سلبیاً من الحیاة وواجه الوسواس من موقع الیأس فربّما یؤثر ذلک سلبیاً على عقیدته وإیمانه ویتحرک بالتالی فی خط الانحراف والکراهیة للدین کما کنت أرى مثل هذه النماذج طیلة حیاتی فی أجواء المجتمع المتدین، ومن هنا اُوصی أعزّائی المبتلین بحالة الوسواس أن یتوجهوا من أجل علاج الوسواس إلى الشخصیات المجربة والعالمة.
وعلى أیّة حال لقد وجدت فی نفسی أننی أعیش عاصفة فکریة وطوفاناً فی روحی واستمر هذا الحال لسنوات عدیدة ولکن لم تمنع هذه الحالة استمراری فی الدرس والبحث بل بالعکس کنت أحسّ بالنشاط فی الدرس والاهتمام بالاشتغالات الفکریة التی کانت تسکّن ما أشعر به من اضطراب، وعلى أیّة حال کنت أعیش هذه الحالة من الصراع النفسی عندما دخلت فی صفوف الحوزة العلمیة فی قم»(1).
1. إنّ التوجه إلى الله تعالى مبدأ عالم الخلقة والغرض الأسمى منها وکذلک الإهتمام بفکرة المعاد ویوم القیامة وعشرات المسائل العقائدیة الاُخرى تمثل همّاً کبیراً لکلّ العلماء بل أغلب الناس فی مرحلة المراهقة والشباب ولکنّ بعض الأشخاص الذین یتمتعون بذهن متحرک وفعّال لا یقتنعون بسهولة بکل جواب بل یتحرکون دائماً من منطلق البحث عن الأجوبة الأساسیة والحلول الجذریة لهذه الأسئلة والإشکالات، وبذلک یسلکون طرقاً طویلة وشاقة لتسکین أرواحهم والوصول إلى منبع المعرفة وعینها الصافیة، ولکن على أیّة حال فانّ هذه المرحلة لیست بدائمیة بل تنتهی بعد فترة، ولکن إذا لم یستعن الإنسان فی هذه المرحلة بکلمات وإرشادات الأعاظم وأهل الفن فانّ احتمال انحرافه سیکون کبیراً، ویتحدّث الاستاذ الشهید مرتضى المطهری بدوره عن هذه الحالة الروحیة والاضطراب النفسی الذی کان یعیشه فی مرحلة الشباب ویقول:
«إنّ ما أتذکره من حالات القلق الروحی التی کنت أعیشها فی مرحلة المراهقة والشباب کانت قد بدأت منذ السن الثالثة عشرة من عمری حیث أصابتنی حالة من القلق والحساسیة عجیبة بالنسبة إلى المسائل المتعلقة بالله تعالى، وهذه الأسئلة کانت تهجم علیّ واحدة بعد الاُخرى، ففی السنوات الاُولى من هجرتی إلى مدینة قم وقبل أن اُتم مقدمات درس العربیة کنت غارقاً فی دوامة الأفکار هذه حیث شعرت بالرغبة إلى العزلة والانطواء، فلم أکن أتحمل وجود شخص آخر فی غرفتی، وقد عملت على تبدیل غرفتی فی الطابق العلوی إلى ما یشبه المغارة الصغیرة حیث کنت أسکن فیها لوحدی غارقاً فی تأملاتی وأفکاری، فی ذلک الوقت لم أکن أرغب فی ساعات الفراغ من الدرس والمباحثة أن اُفکر فی موضوع آخر، وفی الواقع فانّ التفکیر فی موضوع آخر قبل أن أحلّ مشکلاتی فی هذه المسائل کان إتلافاً للوقت، وأتذکر أننی منذ بدایة دخولی فی سلک الحوزة وکنت أدرس حینذاک مقدّمات العربیة فی مدینة مشهد کان الفلاسفة والعرفاء المتکلمین، رغم عدم معرفتی بنظریاتهم وآرائهم، یمثلون بالنسبة لی شخصیات عظیمة وکنت أحترمهم أکثر من سائر العلماء والمخترعین والمکتشفین، والسبب فی ذلک أنّ هؤلاء العظماء کانوا یمثّلون أبطالاً فی میدان الفکر والمعرفة، وأتذکر بدقّة أننی فی تلک الأعوام فیما بین الثالثة عشرة إلى الخامسة عشرة من عمری کنت أرى من بین جمیع الفضلاء والعلماء ومدرسی الحوزة العلمیة فی مشهد أنّ الشخص الوحید الذی أراه عظیماً واُحبّ أن اتطلّع إلى سیماء وجهه وأجلس بین یدیه فی الدرس واُراقب سکناته وحرکاته المرحوم (المیرزا مهدی شهیدی الرضوی) مدرّس الفلسفة الإلهیّة فی تلک الحوزة».
ثم إنّ الشهید المطهری أشار إلى حضوره فی حلقات دروس الأخلاق والسلوک والمعارف الإلهیة للإمام الخمینی(قدس سره)التی کانت تعقد فی کل خمیس وجمعة ویتحدّث عن الهیام والعشق الذی کان یعیشه بالنسبة إلى هذا الدرس وشدّة تأثیر تلک الجلسات والدروس فی أعماق روحه وجدانه (مقدمة کتاب علل المادیة، ص 9 إلى 11).
