إنّ النبوغ أو الموهبة الذاتیة تعتبر ودیعة إلهیة فی واقع الإنسان النموذجی حیث لا یشهد المجتمع البشری فی کل جیل من الأجیال سوى عدّة معدودة من هؤلاء الشخصیات الفذة.
ولعلنا نعرف بوضوح الحکمة الکامنة وراء تخصیص بعض أفراد البشر بهذه الموهبة الممتازة، هل أنّها مجرّد امتحان وابتلاء إلهی لهذا الشخص الموهوب؟ وکیف یسلک مثل هذا الإنسان فی خط الاستفادة من هذه المواهب الإلهیة وکیف یسقی شجرة النبوغ هذه فی نفسه لتثمر وتتفتح أزهارها بما ینفع الناس؟ وهل أنّ هذا المعنى یخضع لقانون معین وهو أنّ کل صاحب نعمة یتحمل بمقدارها من المسؤولیة، وبمقدار ما لدیه من رأس المال سیکون ربحه السنوی، وبمقدار ما یبذل من الجهد والحرکة فإنّه سیتمتع بمحصول أکثر؟ أو أنّ هذا الإنسان النابغة یکتم نبوغه فی إطار ضیق من رغباته الذاتیة ولا یتحرک من أجل تفعیل هذا النبوغ بما فیه خدمة الناس وبالتالی سیقنع بالتکاسل وینفق هذه الموهبة فی خط الانحراف والرذیلة ولا یکون نصیبه منها سوى الخسران؟(1)
ویقول سماحة الاستاذ فی التفسیر الأمثل ذیل تفسیر هذه الآیة وبعد أن طرح مسألة الاختلاف المجعول والطارىء على البشر بسبب أشکال الظلم والجور التی یجب على الإنسان التصدی لها ومکافحتها:
«ولکن فی نفس الوقت لا یمکن إِنکار أنّه حتى لو روعیت جمیع أُصول العدالة فی المجتمع الإِنسانی ـ أیضاً ـ فإِنّه لا یتساوى الناس جمیعاً من حیث القابلیات ومن حیث الفکر، والذوق، وفی الذکاء، والسلیقة وحتى من جهة الترکیب البدنیّ، حیث یقول القرآن الکریم فی الغرض من ذلک: «لیبلوکم فیما أتاکم ورفع بعضکم فوق بعضکم درجات». (التفسیر الأمثل ذیل الآیة البحث).
وعلى هذا الأساس فاننا نعلم یقیناً بأنّ بعض أشکال الاختلاف بین البشر ومنها فی مسألة النبوغ والملکات الذاتیة الاُخرى إنما وجدت لغرض امتحان الناس جمیعاً لکی یخرج الإنسان فی استخدامه واستثماره لهذه المواهب الإلهیّة مرفوع الرأس فی هذا الامتحان الإلهی.
وبعبارة اُخرى أنّ هذه النعمة من النبوغ والفطنة هل تکون بمثابة امتحان للشخص وللآخرین أیضاً من الرقباء لیتّضح جیداً رضاهم بهذا التقدیر الإلهی لصاحبهم، أو یحسدونه على هذه النعمة ولا یتعاملون معه من موقع الاحترام والقیم الأخلاقیة؟
أو یکون لهذا التفضیل الذاتی حکمة اُخرى کأن تکون هذه النعمة مثلاً نتیجة وثمرة للأعمال الصالحة التی قام بها الوالدان أو بعض الأباء والأجداد(2)، لیکون لهم هذا الولد ثمرة من الباقیات الصالحات لأعمالهم ونتیجة لما اکتسبوه بجهدهم لیکون لهم ذخراً وذخیرة فی الدنیا والآخرة؟ أو هناک حِکم ومصالح غیبیة اُخرى.
وعلى أیّة حال فلا شکّ فی حقیقة هذا المعیار الإنسانی الذی طرحه القرآن الکریم بقوله: (وَأَنْ لَیْسَ لِلْإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)(3)، أی أنّ معیار الفضیلة هو ما یکتسبه الإنسان بیده وبعمله ومن خلال سعیه وحرکته فی خط الفضیلة والأخلاق والمسؤولیة، وبعبارة اُخرى: إنّ النفع الذی یجنیه الإنسان إنّما هو بمقدار ما لدیه من رأس مال ذاتی ومواهب فطریة: «فانّ أصل رأس المال هذا لا یتعلق به بل هو من عند الله»، وببیان أدق: «إنّ معیار کرامة الإنسان یکمن فی سعیه وحرکته فی إطار قابلیاته الذاتیة والفطریة، ولا بدّ أن یکون هذ السعی هادفاً فی حرکة الحیاة، ویصبّ هذا الهدف فی جهة التکامل المعنوی والأخلاقی بما یحقق للإنسان الانفتاح على الله تعالى، ولا یکون ذلک إلاّ مع خلوص النیّة وتحت مظلة التقوى التی تمثل حالة راسخة تعیش فی مشاعر الإنسان الداخلیة، ومن هنا جاءت الآیة الشریفة: (إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاکُمْ...)(4) ناظرة إلى هذا المعنى بالذات.
ومن الواضح أنّ الالتفات إلى هذه الحقیقة المهمّة بإمکانه أن یخلق فی نفس الإنسان النابغة اهتزازاً وخشیة من تحمل المسؤولیة الثقیلة الملقاة على عاتقه، وکذلک تسبب فی بعث الطمأنینة من جهة اُخرى فی قلوب أحبائه وأصدقائه باعتبار أنّ وجود هذا الإنسان یمثل نعمة إلهیّة فی أوساطهم.
طبعاً لا ینبغی التردید فی هذه الحقیقة وهی أنّ الإنسان لو سخر جمیع قابلیاته ومواهبه فی خط الطاعة والإیمان والعبودیة فانّ ذلک سیعود علیه بالبرکة العظیمة وسیقترب من مرتبة لقاء الله وسیحقق لنفسه درجات سامیة من الکمال الإلهی فی هذا السبیل.
إنّ استاذنا الجلیل یتمتع فی الأصل بهذا النبوغ والموهبة الذاتیة من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّه تحرک بلطف الله وعنایة أهل البیت المعصومین(علیهم السلام) فی خط الطاعة والمسؤولیة والرسالة (کما سیأتی فی البحوث اللاحقة) وعمل على تفعیل هذه المواهب الإلهیة وتجسیدها فی أرض الواقع النفسانی والاجتماعی، وبالطبع فانّ ذلک یمثل حقاً کبیراً فی ذمّة طلابه وتلامیذه بأن یتحرکوا من أجل استمرار هذا الخط ودعم سماحة الاستاذ وتثبیت أقدامه بدعواتهم وممارساتهم العملیة.
إنّ نبوغ سماحة الاستاذ کان مشهوداً منذ الطفولة وکان یتجلّى على شخصیته أکثر فأکثر طیلة مراحل عمره الشریف.