الحمد لله الذی فتح أبواب العلم والمعرفة على الإنسان وجعله فی أسمى مراتب الخلقة بأدوات العلم بالأسماء: (عَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمَاءَ)(1)، وجعل فی فطرته وهویته القابلیة والاستعداد لتقبل مقام الخلافة الإلهیّة ولیکون فی مرتبة أسمى من الملائکة بحیث حظی بسجود الملائکة، وخلق فیه القدرة على استخدام القلم: (الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ)(2)و(عَلَّمَهُ الْبَیَانَ)(3) ومهّد له الطریق للسیر فی خط التکامل المعنوی والانفتاح على الله تعالى.
والصلاة والسلام على أنبیاء الله ورسله إلى عباده والهداة إلى طریقه لا من خلال فرض الهدایة الإلهیّة على الإنسان بل لیثیروا فیهم دوافع الخیر ویحرکوا فیهم عناصر الصلاح «ویثیروا لهم دفائن العقول»(4)، وخاصة على الصادر الأول والتجلی الأکمل وغایة الإنسان الکامل الذی یمثل الشاهد على جمیع الأنبیاء والاُمم: (فَکَیْفَ إِذَا جِئْنَا مِن کُلِّ أُمَّةِ بِشَهِید وَجِئْنَا بِکَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِیداً)(5)، (آدم ومن دونه تحت لوائى یوم القیامة)(6)، وعلى أهل بیته الطیبین الطاهرین الذین یمثلون مظهر جمیع الأسماء الحسنى التی ظهرت من مخزن الغیب المطلق إلى منصة الظهور والشهود (نحن واللّه الأسماء الحسنى)(7)، فکانوا مصدر ومهبط الإرادة الإلهیّة فی جمیع الاُمور ومقدّرات: «إرادَةُ الرَّبِّ فى مَقادیرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَیْکُمْ وَتَخْرُجُ مِنْ بُیُوتِکُمْ(8) - قُلُوبُنا أوْعِیَةٌ لِمَشِیَّةِ اللّهِ»(9).
وسلام الله ورحمته ومغفرته وصلوات النبی والملائکة واستغفارهم على أتباع مدرسة أهل البیت(علیهم السلام) وطلاب علومهم الذین تربوا فی مدرسة أهل البیت(علیهم السلام) والذین حملوا مشعل الهدایة طیلة تاریخ التشیع الدامی ورفعوا لواء الحق عالیاً مع شدّة الضغوط والتحدیات الصعبة.
هؤلاء الأشخاص هم الذین نالوا وسام الفخر بأنّ «مدادهم الهادی» إلى سواء السبیل أفضل من تاج کرامة الشهادة «أفضل من دماء الشّهداء»(10)، حیث حفظوا ببیانهم وأقلامهم متراس الدین وحرسوا موقع الاجتهاد والتفقّه فی مقابل هجمات التیارات الفکریة المعادیة.
ونشکر الله تعالى أن یوفقنا للتناول من مائدة کرمه وفضله ویرزقنا من علوم هذه الشخصیات الکبیرة التی تتسم فی نظرة کلیة بأنّها:
1 ـ شخصیات کبیرة نهلت من الشجرة الطیبة لحوزات العلوم الإسلامیة والمدرسة الجعفریة التی (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ * تُؤْتِى أُکُلَهَا کُلَّ حِین بِإِذْنِ رَبِّهَا)(11).
2 ـ أنّ هؤلاء قد تمحضوا فی الإیمان والتحرک فی خط المسؤولیة ومن أجل اعلاء کلمة الحق طیلة تاریخ التشیع، ولم یبالوا بتحدیات وهجمات أهل الدنیا وضغوط الطواغیت وتکفیر المتحجرین، بل تحرکوا بصورة جدیّة فی خط تبلیغ حقائق الدین ونشر معارف أهل البیت(علیهم السلام)، وعملوا على حفظ وحراسة القیم الدینیة والدفاع عن نوامیس التشیع
وموازین الشریعة المحمدیة بألسنتهم وأقلامهم(12).
3 ـ هؤلاء الفقهاء والعلماء الذین اهتموا بالدفاع عن حدود العقیدة من موقع الدلیل والعقل وجاهدوا قوى الانحراف بأداة البرهان والقرآن(13).
4 ـ هؤلاء المفکّرون الذین لم یکتفوا بکسب العلوم والمعارف المتداولة فی الحوزات العلمیة فحسب، بل تحرکوا على مستوى اکتشاف أبعاد جدیدة بأداة الاجتهاد المتحرک واستفادوا من العلوم الجدیدة أیضاً ولم یجمدوا حرکتهم فی بُعد واحد من أبعاد الدین ویغفلوا عن سائر الابعاد الاُخرى(14).
5 ـ المحققون الذین لم یحترقوا فی تنور ضعف الهِمّة ولم یدفنوا أنفسهم تحت غبار التساهل والاهمال فی أمر الدین وطلب العلم.
6 ـ المصلحون الذین عاشوا یقظة القلب فی صحراء الکسل وعصر الظلم واستیلاء الطاغوت، وعملوا على ایقاظ النائمین فی لیالی الدیجور الغارقة فی ظلمات الجهل والعصبیة ونفخوا فی مجتمعاتهم نسیم الأمل والثبات والاطمئنان.
7 ـ المصلحون الذین علموا بأنّ ایجاد المجتمع الدینی وتشکل الحکومة الإلهیّة یعتبران من أوائل تکالیف العلماء، وهدفهم تجسید الأحکام والمعارف الإسلامیة فی مفاصل المجتمع البشری، وهکذا عاشوا نور الأمل بمستقبل زاهر للمسلمین والاُمة الإسلامیة(15).
8 ـ السالکون فی خط العلم والمتبحرون فی میدان الفکر الذین فی عین اشتغالهم بطلب الاسرار الإلهیّة وانتشال الرموز الفرقانیة فإنّهم یتصدرون مجالس الإجابة عن أسئلة الناس ورفع حاجات المجتمع الإسلامی المعنویة، الذین حملوا رسالة استنباط الأحکام الدینیة وتبیین الثقافة الدینیة العامة بحضورهم المتواصل فی المجامع العلمیة والحوزویة على أساس من التشکیلة المنسجمة والهادفة، وأعلنوا استعدادهم للإجابة عن الشبهات وعلامات الاستفهام لأفراد المجتمع بحیث جعلت منهم هذه الخصوصیة علماء من الطراز الأول.
9 ـ الصالحون الذین نالوا مقامات سامیة فی دائرة العلوم الدینیة والمراتب الدراسیة فی الحوزة العلمیة ولکنّهم مع ذلک لم یروا فی هذه المقامات والمناصب سوى أداة ووسیلة لخدمة الدین والمذهب ولم یبیعوا الدرجات المعنویة والمثوبات الاُخرویة التی وعدوا بها فی قبال خدماتهم العلمیة فی دائرة القلم والبیان بحطام الدنیا ومتاعها القلیل وعناوینها الزائفة.
10 ـ وأخیراً فهؤلاء الاساطین فی علم الفقه الذین رفضوا حالة الجمود والکسل فی حیاتهم ومعیشتهم وتحرکوا بجدّ واستمرار (حیث إنّهم بعد مضی ستین، سبعین سنة من عمرهم المبارک کانوا یتحرکون فی طلب العلم والتعلیم بمقدار مضاعف) معرفتهم بمقتضیات الزمان ومتطلبات العصر ومع اتصافهم بحسن الذوق وعلو الهمة وسعة الافق الذهنی وعدم الاعوجاج فی الخط الفکری المزاجی ودقّة النظم فی حیاتهم وثورة الإیمان فی قلوبهم مع اعتمادهم على الشعور العقلانی فی البیان والقول، والعزم الراسخ والروح القویة، حیث نسجوا شخصیاتهم الفذة بهذه السمات والابعاد الإنسانیة.
ربّنا، نسألک وأنت مبدأ الکمالات فی عالم الوجود أن تمنحنا الیقظة وشرح الصدر وتزیل عنّا حجب الغفلة لکی لا تحجبنا عثراتهم عن رؤیة سیمائهم النیّرة ولا تبعدنا أخطاؤهم عن الاستمداد من کوکب حکمتهم «فإنّه لا حکیم إلاّ ذو عثرة»(16).
نسألک اللّهم أن تمنحنا الوفاء والأدب لکی لا نستخدم أقلامنا وبیاننا ضد من علّمونا الحکمة والکلام، ولکی لا نصرف همّنا فی اجهاض حرکتهم البنّاءة فی سبیل خدمة الدین
وتقویة أرکان المذهب کما یقول أمیر البیان (صوات الله علیه): «لا تجعلنّ ذرب لسانک على من أنطقک وبلاغة قولک على من سدّدک»(17).
ونأمل أن لا یمنعنا حجاب المعاصرة الجاهلی من معرفة هذه الشخصیات المرموقة التی تفتخر بها مدرسة أهل البیت(علیهم السلام) وأن لا نکون من الذین لا یکتبون عن هذه النجوم الزاهرة فی سماء المعرفة ولا یشرحون سیرتهم للناس إلاّ بعد اُفولهم وتوسدهم الثرى.
وکذلک نأمل ونسأل الله تعالى أن یرزقنا طول العمر لکسب العبرة والاعتبار فی مشاهدة عاقبة الأشخاص الذین تحرکوا فی مقابل هذه الشخصیات الکبیرة من موقع الخصومة والعناد وسخّروا أقلامهم ضد من وضع حیاته على طبق الاخلاص فی خدمة الدین والدفاع عن التشیع حتى أنّه لقّب (بشیخ المؤلفین) أو (شیخ القلم) فی العصر الحاضر(18).
نعم، فإنّ الاستاذ الکبیر الذی سنتعرف علیه فی هذا الکتاب یعتبر حلقة من هذه السلسلة الطیبة وکوکباً من هذه المنظومة الزاهرة.
إنّ ما یمیز هذه الشخصیة وبقیة السلف عن سائر الشخصیات الدینیة المرموقة أنّه یعدّ عالماً جامعاً لجمیع المکارم والخصال الحمیدة التی تجذب الناظر إلیها کما سنشیر إلى ذلک فی الفصول اللاحقة.
وفی الختام نود أن نتقدم بجزیل الشکر إلى العالم والمحقق والأخ العزیر حجة الإسلام والمسلمین سعید الداودی (دام عزّه) حیث إنّه رفدنا بالکثیر من الهوامش النافعة فی هذا الکتاب ونرجو أن یتقبل الله تعالى منه هذا العمل ویجعل ما نبذله من جهد بعنوان (حق الأُستاذیة)،...
وفّقنا اللّه لصالح ما یرضاه
الحوزة العلمیّة قم المقدّسة ـ ربیع 1422 هـ ق
أحمد القدسی.