قد یصاب بعض الأشخاص، لدى مطالعتهم لتلک الأحادیث التی تُشدّد على المرائی بالوسَوسة النّاشئة من الإبهام فی تشخیص موضوع الرّیاء، و رغم أنّ الجَدیر بالإنسان التّشدید فی مسألة الرّیاء، لأنّ نفوذه خفیٌّ جدّاً، وکم حَدَث للإنسان، أن یعمل عملاً ویبقى لفترة طویلة غیر ملتفت لأصابته بالرّیاء، کالقصّة المعروفة عن أحد المؤمنین السّابقین، حیث نقل عنه، أنّه قضى صلوات جماعته کلّها، التی صلاّها فی سنوات من عمره الطویل، ولمّا سألوه عن السّبب قال: إنّی کنت دائماً اُصلّی الجماعة فی الصّف الأول، وفی یوم من الأیّام تأخّرت بعض الشّیء، فلم أجد مکاناً فی الصّف المقدّم، فإضطررت للوقوف خلف الجمیع، فشعرت فی نفسی بالأذى من ذلک، و تنبّهت لهذه المسألة، فأعدت جمیع الصّلوات لأنّها کانت ریاء؟!
بالطّبع، الإفراط و التّفریط فی هذه المسألة، مَثَلُه کَمَثَلِ بقیّةِ المسائل، غیر محمود، و خطأٌ محضٌ، و المفروض التَّنبّه للریاء من خلال تتبع مقدماته و علاماته، و لا نَدع مجالاً للوساوس فی إطار إکتشاف هذه الحالة السّلبیة، فی دائرة السّلوک الخارجی، و الواقع النّفسی، و لعلماء الأخلاق الأفاضل أبحاثٌ لطیفةٌ فی هذا المضمار، و منهم العلاّمة المرحوم الفَیض الکاشانی;، فقد طرح سؤالاً فی کتابه: «المحجّة البیضاء»، و قال: فبأیّ علامة یُعرف العالم و الواعِظ، أنّه صادق مخلصٌ فی وعظه، غیر مرید رئاء النّاس؟.
قال فی جواب هذا السؤال: «فاعلم أنّ لذلک علامات، إحداها أنّه لو ظهر من هو أحسن منه و عظاً و أغزرُ منه علماً، و النّاس له أشدّ قبولاً، فرح به ولم یحسده، نعم لا بأسَ بالغِبطة، و هی: أن یتمنّى لنفسه مثل عمله، والاُخرى أنّ الأکابِر إذا حَضروا مجلسه لم یتغیّر کلامه، بل یبقى کما کان علیه، فینظر إلى الخلق بعین واحدة، و الاُخرى: أن لا یحبّ إتّباع النّاس له فی الطریق، و المشی خلفه فی الأسواق، و لذلک علاماتٌ کثیرةٌ یطول إحصاؤها».
و أفضل المعاییر لمعرفة المرائی من غیره، هو ما وردنا عن الأئمّة الأطهار، ومن جملة الأحادیث:
1 ـ فی حدیث عن الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله)، قال: «أَمّا عَلامَةُ المُرائی فَأرْبَعَةٌ: یَحْرُصُ فی العَمَلِ للهِ إِذا کانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَیَکْسَلُ إِذا کانَ وَحْدَهُ وَ یَحْرُصُ فی کُلِّ أَمْرِهِ عَلَى الَمحمَدَةِ وَیُحْسِنُ سَمْتَهُ بِجُهْدِهِ».
2 ـ وَ وَرد فی نفس هذا المعنى فی حدیث عن أمیرالمؤمنین، بألفاظ جمیلة، فقال: «لِلمُرائی أرْبَعة عَلامات:
یَکْسَلُ إذا کانَ وَحدَهُ،
وَ یَنْشُطُ إِذا کانَ فی النّاسِ،
وَ یَزِیدُ فی العَمَلِ إِذا اُثنِیَ عَلَیهِ،
وَیَنْقُصُ مِنْهُ إِذا لَمْ یُثْنَ عَلَیهِ».
و ورد نفس هذا المعنى عن لقمان الحکیم أیضاً.
و خلاصة القول: إنّ کلّ عمل، کان القصد منه المباهاة للناس، فهو دلیلٌ على الرّیاء، و مهما کان هذا القصد غامضاً و خفیّاً فی دائرة الوعی، فهو دلیلٌ على إزدواجیّة شخصیّة الإنسان فی التعامل مع نفسه، فی الخلأ والملأ.
و هذا الأمر فی الحقیقة بالغ فی الدقّة و الغموض، لدرجة أنّ الإنسان یخدع وجدانه و ضمیره، بإتیان نفس الأعمال التی یأتی بها فی الملأ، و بدرجة عالیة من الجودة و الحُسن، فی خلوته لیقنع نفسه أنّه لا یُرائی، لأنّه یساوی بأعماله فی الظّاهر والباطن، ولکنّ الحقیقة هی إزدواجیّة ذلک الشّخص، ففی کلا الحالتین یکون مرائیاً.
بالطّبع یجب إجتناب الإفراط و التّفریط فی هذه المسائل، لأننا وجدنا اُناساً إمتنعوا من أداء کثیر من الواجبات و حُرموا من الثّواب حذراً أو خوفاً من الرّیاء، فلم یؤلّفوا کتاباً، ولم یرشدوا أحداً من النّاس، ولم یصعدوا المنابر، لا لِشیء إلاّ لأنّهم کانوا یعیشون الخوف من الوقوع فی الرّیاء؟!
و قد ورد فی الرّوایات، أنّ من یقصد القُربة إلى الله تعالى، إذا أتى بعمل ما علانیةً، و عرف به الناس وفرح هو من ذلک، ما دام قصده هو التّقرب إلى الله سبحانه و تعالى، فلن یؤثّر ذلک على عمله.
و لا یخفى على القارىء الکریم، أنّ القصد من هذا الأمر، هو تشجیع النّاس إلى سلوک طریق الخیر و الصّلاح، و إمضاء أعمالهم المتقرّب بها إلى الله تعالى، فی السّر و العلانیة، والمهم هو قصد القُربة و إخلاص النیّة فقط.
و جاءت الآیات و الرّوایات، مؤکّدةً لهذا المعنى، وحثّت الإنسان على الإنفاق و التّصدق
فی السرّ و العلانیة، وهذا إن دلّ على شیء فإنّه یدلّ على إمکانیّة الإتیان بالأعمال علانیةً، و بدوافع إلهیّة بعیداً عن الرّیاء.
و یوجد خمسُ آیات شجّعت على الإنفاق سرّاً و علانیةً، أو سِرّاً وجهراً.
مضافاً إلى أنّ قسماً کبیراً من العبادات، یؤدّى فی العلانیة، فإذا مالم یتسلط الإنسان على نفسه فی خط الإلتزام الدینی، و یُمسک بزمامها فی دائرة النّوازع الذاتیّة، فَسیخسر هو و المجتمع کثیراً من أشکال الثّواب و الخیر، وستختل أرکان بعض العبادات فی خطّ الممارسة والعمل.
—–
1. المحجّة البیضاء، ج6، ص200.
2. تُحف العقول، ص 17.
1. شرح نهج البلاغة، إبن أبی الحدید، ج2، ص180.
4. الخصال: (طبقاً لنقل میزان الحکمة، ج2، ص1020)، الطّبعة الجدیدة.
5. راجع وسائل الشّیعة، ج1، الباب 15، من أبواب مقدمة العبادات، ص55.
6. سورة البقرة، الآیة 274; الرّعد، 22; إبراهیم، 31; النّحل، 75; فاطر، 29.
