وقد شبّه الإنسان فی هذه النظریّة، بمسافر إنطلق من نقطةِ العدم، إلى لقاء الله تعالى، و یتحرک فی سلوکه بهدف لقاء الله، و القرب من الذّات المقدّسة اللاّمتناهیة.

ففی هذا السّفر، و کما هو الحال بالنسبة لأسفارنا المادیّة، یجب تحضیر المرکب و المتاع، و إزالة الموانع التی تقف فی الطّریق، و التّفکیر فی کیفیة التّصدی للّصوص وقطاع الطّریق و الأعداء، للمحافظة على المال والأرواح، فهذا السّفر الرّوحانی و المعنوی، فیه منازل وطرق ملتویة وصعبة العبور، و مطبّاتٌ خطرةٌ، و لا یمکن العبور منه بسلامة، إلاّ بمعونة الدلیل المطّلع و العارف بالطّریق، و العُبور منها واحداً بعد واحد حتّى الوصول إلى محطّ الرّحال ومنزل المقصود.

و یصرّ البعض أنّ السّیر و السّلوک إلى الله تعالى، و معرفته و منازله، و زاده و أدلاّئه، و الطّریق الموصل إلیه، هو علمٌ غیر علم الأخلاق، و منفصلٌ عنه، ولکن و بنظرة أوسع، نرى أنّ السیر و السّلوک الرّوحی، یلتقی فی نفس الطّریق التی تهدف إلیه التربیة الأخلاقیة، و تحصیل الفضائل فی خط التّکامل المعنوی، أو على الأقل أنّ الأخلاق الإلهیّة هی أحد أبعاد السّیر و السّلوک الرّوحانی.

وعلى أیّة حال، فإنّ الآیات و الروایات، أشارت إلى هذه النّظریة أیضاً، ومنها: الآیة (156) من سورة البقرة، حیث تقول: (الَّذِینَ إذا أَصابَتْهُم مُصِیبَةٌ قالُوا إِنّا للهِ وَإِنّا إِلِیهِ راجِعُونَ ).

فمن جهة، یرى الإنسان نفسه أنّه مُلکٌ لله تعالى، و من جهة اُخرى، یرى نفسه أنّه مُسافر، و یتحرّک بإتّجاه الله تعالى شأنه.

و نقرأ أیضاً فی سورة العَلق: (إِنَّ إِلى رَبِّکَ الرُّجعى )(1).

وجاء فی سورة الإنشقاق: (یا أَیُّها الإنسانُ إِنَّکَ کَادِحٌ إِلى رَبِّکَ کَدحاً فَمُلا قِیهِ )(2).

و جاء فی سورة الرّعد: (رَفَعَ السَّمواتِ بِغَیرِ عَمَد تَرَونَها... یُفَصِّلُ الآیاتِ لَعَلَّکُم بِلَقاءِ رَبِّکُم تُوقِنُونَ )(3).

ویوجد أکثر من (20 آیة)، تحدثت عن أن لقاء الله تعالى، فی الواقع هو مقصود السّالکین إلى الله والعارفین به، و یعنی اللّقاء المعنوی و الرّوحی مع المحبوب، و المقصود الذی لا مثیل له.

و صحیحٌ أنّ هذه الآیات، و آیاتُ الرّجوع إلى الله تعالى، تستوعب جمیع هذه المعانی، ولکن هذا لا یمنع من أنّ سیر وسلوک المؤمن و الکافر، من ناحیة الفِطرة والخلقة، هو بإتّجاه الباری تعالى، فبعضٌ ینحرف عن طریق الفطرة، فیسقط فی واد سحیق، ولکن أولیاء الله و مع إختلافهم بالمراتب، یصلون إلى المقصود، مثل الحیامن التی تسیر جمیعاً فی عالم الرّحم لِتکوین الجَنین، فبعضها تموت فی المراحل الأولى بسبب بعض الآفات، و تتوقف عن الحرکة، وبعضها یستمر فی طریقه، لیصل أحدها إلى الهدف.

و أفضل و أوضح من هذه التّعابیر، هو تعبیر القرآن الکریم، حیث یقول: (إِنَّ خَیرَ الزَّادِ التَّقوى )، (وعادةً کلمة: الزّاد، تقال للطعام الذی یحمله المسافر معه، ولکنّها فی الأصل موضوعةٌ لمعنى أشمل: بحیث تشمل کلَّ ذخیرة).

و على هذا الأساس یقول: إنّ التّقوى هی خیرُ الزّاد، و هی إشارةٌ إلى سیر الإنسان فی طریق التّوحید الخالص، و على کلّ حال فإنّ هذا السّفر الرّوحانی یحتاج إلى زاد، وزاده لابدّ وأن یکون معنویاً أیضاً.

و نرى مثل هذا التعبیر، واردٌ بکثرة فی الرّوایات الإسلامیّة.

و فی موارد متعدّدة من نهج البلاغة، أتى ذکر التّزود للآخرة:

ففی الخطبة (157) یقول الإمام(علیه السلام): «فَتَزَوَّدوا فِی أَیّامِ الفَناءِ لأَیَّامِ البَقَاءِ».

وفی الخطبة (132) نرى تعبیراً أوضح، فیقول(علیه السلام):

«إِنّ الدُّنیا لَمْ تُخْلَقُ لَکُم دارَ مُقام، بَل خُلِقَتْ لَکُم مَجازاً لِتَزَوَّدُوا مِنها الأَعمَالَ إِلَى دارِ القَرارِ».

وجاء فی الخطبة (133)، تعبیر ألطَف و أدَق، فقال(علیه السلام):

«وَالبَصِیرُ مِنها مُتَزَوُّدُ والأَعمى لَها مُتَزَوُّدُ».

وهناک آیات فی القرآن الکریم، یمکن أن تحمل فی مضمونها إشاراتٌ لهذه النظریّة، و منها:

(صِراطُ العَزِیزِ الحَمیدِ )(4)، و (الصِّراطُ المُستَقِیمَ )(5)، و (سَبِیلِ اللهِ )، موجودةٌ فی آیات کثیرة من القرآن الکریم، و(لِیَصُدّوا عنْ سَبِیلِ اللهِ )(6)، وأمثالها یمکن الإشارة بها إلى هذه النظریة.

—–

1. سورة العلق، الآیة 8.
2. سورة الإنشقاق، الآیة 6.
3. سورة الرّعد، الآیة 2.

4. سورة إبراهیم، الآیة 1.
5. فاتحة الکتاب، الآیة 6.
6. سورة الأنفال، الآیة 36.