هذا البحث یعدّ من أهم الأبحاث القرآنیّة، ویعتبر من أهمّ أهداف الأنبیاء کذلک، إذ لولا الأخلاق، لما فهم الناس الدّین و لَما إستقامت دنیاهم: و کما قال الشّاعر:

وإنما الاُمم الأخلاق ما بَقیتْ *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذَهبوا

فلا یُعتبر الإنسان إنساناً إلاّ باخلاقه، و إلاّ سوف یصبح حیواناً ضاریاً کاسراً، یحطّم و یکتسح کلّ شیء، وخصوصاً و هو یتمتّع بالذّکاء الخارق، فیثیر الحروب الطّاحنة، لغرض الوصول لأهدافه المادیّة غیر المشروعة، ولأجل أن یبیع سلاحه الفتّاک، یزرع بذور الفُرقة و النّفاق ویقتل الأبریاء!

نعم، یمکن أن یکون متمدّناً فی الظّاهر، إلاّ أنّه لا یقوم له شیء، و لا یمیّز الحلال من الحرام، ولا یفرّق بین الظّلم و العدل، و لا الظّالم و المظلوم!

بعد هذه الإشارة نعرّج على القرآن الکریم لنستوحی من آیاته الکریمة التالیة، تلک الحقیقة:

1 ـ (هُوَ الَّذی بَعَثَ فی الاُمّیینَ رَسُولا مِنْهُم یَتلُوا عَلَیْهِمْ آیـاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ

الْکِتـابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کـانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلال مُبین )(1).

2 ـ (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمؤْمِنینَ اِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیـاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتـابَ وَالْحِکْمَةَ وَ إِنْ کـانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلال مُبین )(2).

3 ـ (کَمـا أَرْسَلْنا فِیکُمْ رَسُولا مِنْکُم یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیـاتِنـا وَیُزَکِّیکُمْ وَیُعَلِّمُکُمُ الْکِتـابَ وَالْحِکْمَةَ وَیُعَلِّمُکُمْ مـا لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ )(3).

4 ـ (رَبَّنـا وَابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیـاتِکَ وَیُعَلِّمُهُمُ الکِتـابَ وَالحِکْمَةَ وَیُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ العَزیزُ الْحَکِیمُ )(4).

5 ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَکّاهـا * وَقَدْ خـابَ مَنْ دَسّاها )(5).

6 ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَکّى * وَذَکَرَ اسْمَ ربِّهِ فَصَلّى )(6).

7 ـ (وَلَقَدْ آتَیْنـا لُقْمـانَ الْحِکْمَةَ أَنِ اشْکُرْ لِلّهِ )(7).

الآیات الأربع الأُول: تقرّر حقیقةً واحدةً، ألا و هی، أنّ إحدى الأهداف المهمّة، لبعثة النّبی الأکرم(صلى الله علیه وآله)، هو تزکیة النّفوس و تربیّة الإنسان، و بلورة الأخلاق الحسنة، فی واقعه الوجدانی، بحیث یمکن أن یقال: إنّ تلاوة الآیات وتعلیم الکتاب والحکمة التی أشارت إلیها الآیة المبارکة الاُولى، یعُد مقدمة لمسألة تزکیة النّفوس وتربیة الإنسان، والذی بدوره یشکّل الغایة الأساسیّة لعلم الأخلاق.

ولأجل ذلک یمکن تعلیل تقدم کلمة: «التزکیة»، على: «التعلیم»، فی الآیات الثلاث، من حیث إنّ «التّزکیة» هی الهدف والغایة النهائیّة، وإن کان «التّعلیم» من الناحیة العملیّة مقدمٌ علیها.

وإن نظرنا «للآیة الرابعة»: من بحثنا هذا، و تقدیمها لکلمة التّعلیم على التّزکیة، فهی ناظرةٌ إلى المسألة من حیث الترتب العملی الطبیعی لها، بإعتبار أنّ التّعلیم مقدمةٌ «للتربیة و التّزکیة».

ولهذا نرى أنّ الآیات الأربع الاُولى، کلّ منها تنظر إلى المسألة من منظارها الخاص.

ولیس بعیداً إحتمال رأیٌ آخر، من التّفسیر فی الآیات المبارکة الأربع، وهو أنّ الغرض، من التّقدیم و التّأخیر الحاصل لهذین الکلمتین: (التّربیة والتعلیم)، بإعتبار أنّ إحداها تؤثّر فی الاُخرى، یعنی کما أنّ التعلیم الصّحیح یکون سبباً فی الصّعود بالأخلاق، و تزکیة النّفوس، تکون تزکیة النفوس هی الاُخرى مؤثّرة فی رفع المستوى العلمی، لأنّ الإنسان بوصوله للحقیقة العلمیّة، یکون قد تطهر من «العناد» و«الکِبر» و «التّعصب الأعمى»، حیث تکون الأخیرة مانع من التّقدم العلمی، ومعها سوف یُران على قلبه على حد تعبیر القرآن الکریم، ولن یرى الحقیقة کما هی فی الواقع.

ویمکن الإشارة الى نکات اُخرى فی الآیات الکریمة الأربعُ:

الآیة الاُولى: تشیر إلى أنّ بعث رسول یُعلِّم الأخلاق، هی من علامات حضور الباری تعالى فی واقع الإنسان لتفعیل عناصر الخیر فی وجدانه، و أنَّ النقطة المعاکسة (للتربیة والتعلیم) هی الضّلال المبین، فهی تبین مدى إهتمام القرآن الکریم بالسلوک الأخلاقی للإنسان فی حرکة الحیاة.

الآیة الثّانیة: نجد فیها أن إرسال رسول یُزکیهم و یُعلّمهم الکتاب و الحکمة، هی من المنن و المواهب الإلهیّة العظیمة، التی منّ الله بها علینا، وهی دلیل آخر على أهمیّة الأخلاق.

الآیة الثّالثة: وهی الآیة التی نزلت بعد آیات تغییر القبلة، من القدس الشّریف إلى الکعبة المشرّفة، حیث عُدَّ هذا التغییر من النّعم الإلهیّة الکبرى، وأنّ هذه النعمة هی کإرسال الرسول للتعلیم والتّزکیة وتعلیم الإنسان اُموراً لم یکن یعلمها ولن یتمکن من الوصول إلیها إلاّ عن طریق الوحی الإلهی(8).

الآیة الرّابعة: تتحدث عن أنّ إبراهیم الخلیل(علیه السلام)، و بعد إکماله لبناء الکعبة، طلب من الباری تعالى: أن یخلق من ذریّته اُمّةً مسلمةً; و أن یبعث فیهم رسولا من ذریّته، لیزکّیهم فی دائرة التربیة الأخلاقیّة، و یعلّمهم الکتاب والحکمة.

الآیة الخامسة: نجد أن القرآن الکریم، وبعد ذکر أحدَ عشرَ قَسَماً مهماً، وهی من أطول الأقسام فی القرآن، - قسماً بالشّمس و القمر و النّجوم و النفس الإنسانیة -، و بعد ذلک قال: (قد أفلح من زکّاها وقد خاب من دسّاها ).

وهذا التأکید المتکرّر و الشّدید فی هذه الآیات، یدلّ على أنّ القرآن الکریم، یولّی أهمیّةً بالغةً لمسألة الأخلاق، و أنّ التّزکیة هی الهدف الأهم للإنسان، و تکمن فیها کلّ القیم الإنسانیّة، بحیث تکون نجاة الإنسان بها.

ونفس المعنى أعلاه ورد فی: «الآیة السّادسة»، و اللّطیف فیها أَنّ ذکر التّزکیة جاء قبل الصلاة، و ذکر الله تعالى، إذ لولا التّزکیة و صفاء الرّوح لا یکون للصّلاة معنى، و لا لذکر الله.

وجاء فی «الآیة الأخیرة»، ذکر لُقمان الحکیم، حیث عبّر عن علم الأخلاق بالحکمة، فقال: (وَلَقَدْ آتَیْنـا لُقْمـانَ الْحِکْمَةَ أَنِ آشْکُرْ لِلّهِ ).

وبالنّظر للآیات الشّریفة، نرى أنّ خصوصیّة: «لقمان الحکیم»، هی تربیة النّفوس والأخلاق، ومنها یتّضح أنّ المقصود من الحکمة هنا، هو الحکمة العملیّة و تعالیمها المؤدّیة إلیها، و بعبارة اُخرى یعنی: «التّعلیم» لأجل «التّربیة».

ویجب الإنتباه و کما ذکرنا مراراً، إلى أنّ أصل معنى «الحکمة» هو لجام الفرس، وبعدها أطلقت على کلّ شیء رادع، و بإعتبار أنّ العلوم والفضائل الأخلاقیّة، تردع الإنسان عن الرّذائل فأطلقت علیها هذهِ الکلمة.

—–

1. سورة الجُمعة، الآیة 2.
2. سورة آل عمران، الآیة 164.
3. سورة البقرة، الآیة 151.
4. سورة البقره، الآیة 129.
5. سورة الشّمس: الآیات 9 و 10.
6. سورة الأعلى: الآیات 14 و 15.
7. سورة لقمان، الآیة 12.

8. ففی جملة: (ویعلّمکم ما لم تکونوا تعلمون )، إشارةً إلى أنّ الوصول إلى هذا العلم، لا یمکن الاّ بالوَحی.