ما ذکرناه آنفاً کان على مستوى الأدلة العقلیّة و التّأریخیّة، و عند رجوعنا للأدلة النّقلیة، یعنی ما وصل إلینا من مبدأ الوحی وأحادیث المعصومین(علیهم السلام)، سوف تتبیّن لنا المسألة من خلاله بصورة أفضل لأنّه:

1 ـ إنّ الهدف من بعث الأنبیاء و الرّسل و إنزال الکتب السّماویة، إنّما هو لأجل تربیة وهدایة الإنسان، وهذا أقوى دلیل على إمکان التربیة، و ترشید الفضائل الأخلاقیّة لدى جمیع أفراد البشر، ویشیر إلى هذا المعنى قوله تعالى:

(هُوَ الَّذی بَعَثَ فِی الاُْمِّیِینَ رَسُولا مِنْهُم یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیـاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ

وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کـانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلال مُبِْین )(1).

وأمثالها من الآیات الکریمة التی تبیّن لنا أنّ الهدف من بعثة الرّسول الأکرم(صلى الله علیه وآله): هو تعلیم وتزکیة کل اُولئک الذی کانوا فی ضلال مبین.

2 ـ کلّ الآیات التی توجّه الخطاب الإلهی إلى الإنسان، مثل: «یا بنی آدم» و «یا أیّها النّاس» و «یا أیّها الإنسان» و «یا عبادی»، تشمل أوامر ونواهی تتعلق بتهذیب النّفوس، و إکتساب الفضائل الأخلاقیّة، و هی بدورها خیر دلیل على إمکانیّة تغییر «الأخلاق الرّذیلة»، و إصلاح الصّفات القبیحة فی واقع الإنسان، وإلاّ ففی غیر هذه الصّورة تَنتفی عُمومیّة هذه الخطابات الإلهیّة، فتصبح لغواً بدون فائدة.

وقد یقال: إنّ هذهِ الآیات، غالباً ما تشتمل على الأحکام الشرعیّة، و هذه الأحکام تتعلق بالجوانب العملیّة و السلوکیّة فی حیاة الإنسان، بینما نجد أنّ الأخلاق ناظرةٌ للصفات الباطنیّة؟

ولکن یجب أن لا ننسى، أنّ العلاقة بین «الأخلاق» و «العمل»، هی: علاقة اللاّزمِ و الَملزومِ لِلآخر، و بمنزلة العلّة والمعلول، فالأخلاق الحسنة تُعتبر مصدراً للأعمال الحسنة، والأخلاق الرذیلة مصدراً للأعمال القبیحة، وکذلک الحال فی الأعمال، فإنّها من خلال التّکرار تتحول بالتّدریج، إلى ملکات و صفات أخلاقیّة فی واقع الإنسان الداخلی.

3 ـ القول والإعتقاد بعدم إمکان التّغییر للأخلاق، مدعاة للقول و الإعتقاد بالجَبر; لأنّ مفهومها هو: أنّ صاحب الخُلق السّیء و الخُلق الحسن، لیسا بقادرین على تغییر أخلاقهم، وبما أنّ الأعمال و السّلوکیات تعتبر إنعکاساً للصفات والملکات الأخلاقیّة، ولِذا فمثل هؤلاء یتحرّکون فی سلوکیاتهم من موقع الجَبر، لکننا نرى أنّهم مکلّفین بفعل الخیرات وترک الخبائث، وعلیه یترتب على هذا القول جمیع المفاسد التی تترتب على مقولة الجبر(2).

4 ـ الآیات الصّریحة التی ترغّب الإنسان فی تهذیب أخلاقه، و تُحذّره من الرذائل، هی أیضاً دلیلٌ محکمٌ على إمکانیّة تغیر الصفات و الطّبائع الإنسانیة، مثل قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَکّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها )(3).

فالتّعبیر بکلمة دَسّاها، والتی هی فی الأصلِ بمعنی: خلطُ الشىّءِ بشیء آخر غیر مرغوب فیه من غیر جنسه، مثل «دسّ الحنطة بالتراب»، یبیّن لنا أنّ الطّبیعة الإنسانیّة مجبولةٌ على الصفاء و النّقاوة و التقوى، و التلویث، و الرذائل تعرض علیها من الخارج وتنفذ فیها، والإثنان قابلان للتّغیر والتّبدل.

نقرأ فی الآیة (34) من سورة فُصّلت: (إِدْفَعْ بِالَّتی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذاَ الَّذی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِْیمٌ ).

تُبیّن لنا هذهِ الآیة أنّ العداوات المتأصّلة و المتجذّرة فی الإنسان: بالمحبّة والسّلوک السلیم، یمکن أن تتغیر وتتبدل إلى صداقة حمیمة بالتّحرک فی طریق المحبّة و السّلوکیات السلیمة، ولو کانت الأخلاق غیر قابلة للتغیر، لما أمکن الأمر بذلک.

ونجد فی هذا المجال أحادیث إسلامیة، تؤکّد هذا المعنى أیضاً، من قبیل الأحادیث التالیة:

1 ـ الحدیث المعروف الذی یقول: «إنّما بُعثتُ لاُتمم مکارم الاخلاق»(4) هو دلیل ساطعٌ على إمکانیّة تغییر الصّفات الأخلاقیّة.

2 ـ الأحادیث الکثیرة التی تحث الإنسان على حسن الخُلق، کالحدیث النّبوی الشریف الآتی: «لَو یَعلَمُ العَبدُ ما فِی حُسنِ الخُلقِ لَعَلِمَ أَنّهُ یَحتاجُ أن یکونَ لَهُ خُلقٌ حسنٌ»(5).

3 ـ و کذلک الحدیث النبوی الشریف الآخر حیث یقول:

«الخُلقُ الحسنُ نِصفُ الدِّینِ»(6).

4 ـ نقرأ فی حدیث عن أمیر المؤمنین(علیه السلام): «الخُلقُ الَمحمُودُ مِن ثِمارِ العَقلِ وَالخُلقُ المَذمُومُ مِن ثِمارِ الجُهلِ»(7).

وبما أنّ کلاً من «العلم» و«الجهلَ» قابلان للتغییر; فتتبعها الأخلاق فی ذلک أیضاً.

5 ـ وفی حدیث آخر، جاء عن الرّسول الأکرم(صلى الله علیه وآله):

«إنّ العَبدَ لَیَبلُغُ بِحُسنِ خُلقِهِ عَظیمَ دَرجاتِ الآخِرَةِ وَشَرفِ المَنازِلِ وَأَنّهُ لَضَعِیفُ العِبادةِ»(8).

حیث نجد فی هذا الحدیث، مقارنةً بین حُسن الأخلاق والعبادة، هذا أولاً.

وثانیاً: إنّ الدرجات العُلى فی الآخرة تتعلق بالأعمال الإختیاریّة.

وثالثاً: التّرغیب لکسب الأخلاق الحسنة، کلّ ذلک یدلّ على أنّ الأخلاق أمرٌ إکتسابی، و غیر خارجة عن عنصر الإرادة فی الإنسان.

مثیل هذهِ الرّوایات والمعانی القَیّمة کثیرٌ، فی مضامین أحادیث أهل البیت(علیهم السلام)، وهی إن دلّت على شیء فإنّها تدلّ على إمکانِیَّة تغیّر الأخلاق، وإلاّ فستکون لغواً وبلا فائدة(9).

6 ـ وفی حدیث آخر ورد عن الرّسول الأکرم(صلى الله علیه وآله)، نقرأ فیه أنّه قال لأحد أصحابه و أُسمه جریر بن عبدالله: «إنّک امرُءٌ قَد أحسنَ اللهُ خَلقَکَ فأَحسِنْ خُلْقَک»(10).

وخلاصة القول أنّ روایاتنا ملیئةٌ بهذا المضمون، حیث تدلّ جمیعها على أنّ الإنسان قادر على تغییر أخلاقه(11).

ونختم هذا البحث بحدیث عن الإمام علی(علیه السلام)، یحثّنا فیه على حُسن الخلق، حیث قال(علیه السلام): «الکَرَمُ حُسنُ السّجیةِ وَ إجتنابِ الدَّنِیّةِ»(12).

—–

1. سورة الجمعة: الآیة 2، ویوجد نفس المعنى والمضمون فی الآیة 164 من سورة آل عمران.
2. اُنظر: اُصول الکافی، ج 1 ص 155، وکشف المراد، بحث القضاء والقدر وما یترتب على ذلک من مفاسد المذهب الجَبری.

3. سورة الشّمس، الآیة 9 و 10.
4. سفینة البحار (مادة خلق).
5. بحار الأنوار، ج 10، ص 369.
6. بحار الأنوار، ج 71، ص 385.
7. غرر الحکم، 1280 ـ 1281.

8. المحجّة البیضاء، ج 5، ص 93.
9. أُصول الکافی، ج 2 فی باب حسن الخلق ص 99، نقل رحمه الله: 18 روایة حول هذا الموضوع.
10. سفینة البحار مادة خلق.
11. راجع أصول الکافی، ج2; وروضة الکافی; میزان الحکمة، ج3; سفینة النجاة، ج1.
12. غُرر الحِکم.