إذا کانت التّوبة توبةً حقیقیةً و واقعیةً و نابعةً من الأعماق، فلابدّ من أن تقع مورد القَبول من قبل الله تعالى، العَفوّ الغَفور، و ستنشر خیرها برکاتها على صاحبها فی حرکة الحیاة، و تُغطَّی على ما صدر منه من معاصی، أدّت به إلى السّقوط فی منحدر الضّلال و الزّیغ.
مثل هذا الإنسان، یعیش أجواء الحَذر الدّائم من مجالس السّوء و العصیان، و من کلٍّ عوامل الذّنب و الوساوس، و التّداعیات الاُخرى، الّتی توقعه فی و حلّ المعصیة مرّةً اُخرى.
و یعیش حالة الخجل و النّدم، و یدأب بإستمرار لتحصیل رضا الله تعالى، و جبران ما فاته من الطّاعات.
هذه هی العلاقات الفارقة لهم، عن المتظاهرین والمرائین.
قال قسم من المفسّرین، فی معرض تفسیرهم للآیة الشّریفة: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )(1).
قالوا: إنّ المراد من التّوبة النّصوح، هی تلک التّوبة التی تفعّل فی الإنسان عناصر الخیر من موقع النّصیحة، و تتجلى فی روح التّائب على مستوى حثها له، للقضاء على جذور العصیان فی باطنه، قضاءً تامّاً بلا رجعة بعدها.
و فسّرها قسم آخر، بالتّوبة الخالصة، و قال آخرون إنّ: «النّصوح» من مادّة «النّصاحة»، و هی بمعنى الخِیاطة و التّرقیع، لما حدث من تمزیق، وبما أنّ الذّنوب: الإیمان والدّین فتقوم
التّوبة بتوصیلها ببعض، و تعید التّائب إلى حضیرة الأولیاء، کما تجمع الخیاطة بین قطع الثّوب(2).
إنّ برکات و فوائد التّوبة جمّةٌ لا تُحصى، و قد أشارت إلیها الرّوایات والآیات العدیدة، و منها:
1 ـ تمحو و تُفنی الذّنوب، کما ورد فی ذیل الآیة: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )، ورد (عَسَى رَبُّکُمْ أَنْ یُکَفِّرَ عَنْکُمْ سَیِّئَاتِکُمْ )(3).
2 ـ تمنح التّائب برکات الأرض و السّماء، کما ورد فی الآیات (10 و 11 و 12) من سورة نوح(علیه السلام): (فَقُلْتُ آسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً* یُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَاراً * وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَال وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَکُمْ جَنَّات وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً ).
3 ـ تبدل التّوبة السّیئات حسنات، کما ورد فی سورة الفرقان الآیة (70): (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحاً فَأُوْلَئِکَ یُبَدِّلُ اللهُ سَیِّئَاتِهِمْ حَسَنَات ).
4 ـ یتعامل الله مع هذا الإنسان، من موقع السّتر على الذّنوب، و ینسی الملائکة الکاتبین ذنبه، و یأمر أعضاء بدنه بالستر علیه یوم القیامة، و کتمان أمره، فقد ورد فی الحدیث عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّه قال: «إِذا تابَ العَبْدُ تَوبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ اللهُ وَسَتَرَ عَلَیهِ فِی الدُّنیا وَالآخِرَةِ»، فَقُلْتُ: وَکَیفَ یَسْتُرُ؟ قَالَ: «یُنْسِی مَلَکَیهِ ما کَتَبَا عَلَیهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَ یُوحِی إِلَى جَوَارِحِهِ: اُکْتُمِی عَلَیهِ ذُنُوبَهُ، وَیُوحِی إِلى بِقـاعِ الأَرْضِ: اُکْتُمِی ما یَعْمَلُ عَلَیکَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَیَلْقَى اللهَ حِینَ یَلْقَاهُ وَلَیسَ عَلَیهِ شَیءٌ یَشْهَدُ عَلَیهِ بِشَیء مِنَ الذُّنُوبِ»(4).
5 ـ التّائب الحقیقی، یُحبّه الله تعالى، لدرجة أن ورد فی الحدیث: «إِنّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ أَعطَى التّائِبِینَ ثَلاثَ خِصال، لَو أَعطى خِصْلَةً مِنْهـا جَمِیعَ أَهْلِ السَّمـواتِ والأَرضَ لَنَجَوا بِها».
و بعدها یشیر إلى الآیة الشریفة: (إِنَّ اللهَ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ )(5).
و قال: «مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ لَمْ یُعَذِّبْهُ».
ثمّ یُعرّج على الآیة: (الَّذِینَ یَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَیُؤْمِنُونَ بِهِ وَیَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِینَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ کُلَّ شَیْء رَحْمَةً وَعِلْماً فَآغْفِرْ لِلَّذِینَ تَابُوا وَ آتَّبَعُوا سَبِیلَکَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِیمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِی وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّیَّاتِهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ * وَقِهِمْ السَّیِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّیِّئَاتِ یَوْمَئِذ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ )(6)»(7).
—–
إلى هنا نصل إلى خاتمة بحثنا، فی الخطوة الاُولى لتهذیب الأخلاق، و هی التّوبة، و توجد مطالب اُخرى فی هذا المجال، یمکن الإستفادة منها فی بحوث مُستقلة.
نعم، فإنّه ما لم ینجلِ عن القلب و الروح صدأ الذُنوب، و یتحرک الإنسان لتطهیر النّفس من مخلفات المعصیة بماء التّوبة، فلن یشرق القلب بنور ربّه، ولن یتمکن هذا الإنسان من السّیر على خطّ الإیمان، و السّلوک إلى الله تعالى والفوز بجواره، ولن یذوقَ طعم التجلّیات العرفانیّة، فی حرکة الحیاة المعنویّة.
هذا هو أوّل محطٍّ للرحال، وأهمّها، ولا یمکن تخطّیه إلاّ بعزم صادق و إرادة راسخة، یدعمها لطفٌ إلهی و توفیقٌ ربّانی، ولا یُلقّیها إلاّ ذو حظٍّ عظیم.
—–