فقد ذهبوا إلى أنّ الرّوح کجسم الإنسان، تُصاب بأنواع الأمراض، و لأجل الشّفاء یتوجب اللّجوء إلى أطبّاء النّفس و الرّوح، والإستعانة بأدویة الأخلاق الخاصّة، حتى تبقى الرّوح سالمةً و نشطةً و فعّالةً.
و الجدیر بالذکر، أنّ القرآن الکریم أشار إلى الأمراض الأخلاقیة و الروحیة، فی إثنى
عشر موضعاً، و عبّر عَنها بالمرض، ومنها الآیة (10) من سورة البقرة، إعتبرت النِّفاق من زمرة الأمراض الروحیة، فقالت: (فِی قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُم اللهُ مَرَضاً ); بسبب إصرارهم على النّفاق.
وفی الآیة (32) من سورة الأحزاب، و صفت عبید الشّهوة بمرضى القلوب، الذین یتحیّنون الفرص لإصطیاد النّساء العفیفات، حیث خاطب الباری تعالى نساء النبی(صلى الله علیه وآله)، فقال: (فَلا تَخْضَعنَ بِالقَولِ فَیَطمَعَ الَّذِی فی قَلْبِهِ مَرَضٌ ).
وجاء فی الآیات الاُخرى نفس هذا المعنى، أو أوسع منه، بحیث تناولت الآیات، جمیع الإنحرافات الأخلاقیّة و العقائدیّة.
و فی معنى عمیق آخر، عبّر القرآن الکریم، عن القلوب الملیئة بنور المعرفة والأخلاق و التّقوى: بالقلوب السلیمة. و جاء ذلک على لسان النّبی إبراهیم(علیه السلام)، حیث قال: (وَ لا تُخْزِنِی یَومَ یُبعَثُونَ * یَومَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إلاّ مَنْ أَتىْ اللهَ بِقَلب سَلِیم ).
«السّلیم» من مادة «السّلامة»، و تقع فی مقابل الفساد و الإنحراف والمرض، و «القلب السّلیم» کما جاء فی الرّوایات عن المعصومین(علیهم السلام)، فی تفسیر هذه الآیة، أنّه القلب الذی خَلا من غیر الله تعالى، (منزّه من کلّ مرض أخلاقی وروحی).
و قال القرآن الکریم فی مکان آخر: إنّ إبراهیم(علیه السلام) عندما طلب من الباری تعالى: القلب السّلیم، (کما أشارت الآیات الآنفة الذّکر)، تحقّق له ما یُرید، و شملته رحمة ولطف الله تعالى، وأصبح ذا قلب سلیم، فنقرأ فی الآیات (83 و 84) من سورة الصافات:
(وإِنَّ مِنْ شَیعَتِهِ لاَبراهیم * إذْ جاء رَبَّهُ بِقَلب سَلیم ).
نعم، فإنّ إبراهیم(علیه السلام) کان یتمنى أن یکون ذا قلب سلیم، و بالسّعی و الإیثار و محاربة الشرک، و هو النفس من موقع عبادة الله، إستطاع أن یصل بالنّهایة إلى ذلک المقام.
—–
و نجد فی الأحادیث الإسلامیة، إشاراتٌ کثیرةٌ حول هذا الموضوع، ومنها:
1 ـ یصف الإمام علی(علیه السلام)، الرّسول الأکرم(صلى الله علیه وآله) فی نهج البلاغة، فیقول: «طَبِیبٌ دَوّارٌ بِطِبّهِ قَدْ أَحْکَمَ مَراهِمَهُ وَأَحمَى مَواسِمَهُ یَضَعُ ذِلِکَ حَیثُ الحاجة إِلَیهِ مِنْ قُلُوب عُمى و آذان صُمٍّ وَأَلسِنَة بُکْم، مُتَتَبِّعٌ بِدوَائِهِ مَواضِعَ الغَفلَةِ وَمَواطِنَ الحَیرَةِ».
2 ـ ورد فی تفسیر القلب السّلیم، الذی ذُکر فی الایتین الشّریفتین أعلاه، روایاتٌ کثیرةٌ، فنقرأ أنّ رسول الله(صلى الله علیه وآله)، سئل: ما القَلبُ السّلِیم.
فقال(صلى الله علیه وآله): «دِینٌ بِلا شَکٍّ وَهُوىً، وَعَمَلٌ بِلا سُمْعَة وَرِیاء».
ونقرأ فی حدیث آخر عن الإمام الباقر(علیه السلام): «لا عِلْمَ کَطَلَبِ السَّلامَةِ، ولاسَلامَةَ کَسَلامَةِ القَلبِ».
وجاء فی حدیث آخر عن أمیر المؤمنین(علیه السلام): «إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبداً رَزَقَهُ قَلبَاً سَلِیماً وَخُلْقاً قَویمَاً».
3 ـ وقد ورد التعبیر عن الأخلاق الرّذیلة، فی الروایات بأمراض القلب.
فورد فی حدیث عن الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله)، أنّه قال:
«إِیّاکُم وَالمراءَ وَالخُصُومَةَ فإنّهما یُمرِضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ، وَ یَنْبُتُ عَلَیهما النِّفاقَ».
وجاء أیضاً عن الإمام الصّادق(علیه السلام) أنّه قال:
«ما مِنْ شَیء أَفْسَدَ لِلقَلبِ مِنْ خَطِیئَتِهِ».
4 ـ ونقرأ عن الإمام علی(علیه السلام) أیضاً:
«أَلا وَ مِنَ البَلاءِ الفاقَةُ، وَأَشَدُّ مِنَ الفاقَةِ مَرَضُ البَدَنِ، وَأَشَدُّ مِنْ مَرَضِ البَدنِ مَرَضُ القَلبِ».
5 ـ وجاء أیضاً عن الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله)، فی معرض حدیثه عن الحسد، و أنّه کان ولا یزال على طول التأریخ مرضٌ نفسی عضال، فقال:
«أَلا إنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَیکُم داءُ الاُمَمِّ مِنْ قَبلِکُم وَهُوَ الحَسَدُ، لَیسَ بِحالِقِ الشَّعْرِ، لَکِنَّهُ حالِقُ الدِّینِ، ویُنجِی فِیهِ أَنْ یَکُفَّ الإِنسانُ یَدَهُ وَیَحْزُنَ لِسانَهُ وَلا یَکُونَ ذا غَمز عَلَى أَخِیهِ المُؤمِنُ».
6 ـ و قد ورد فی التّعبیر عن الرذائل الأخلاقیّة، فی کثیر من الرّوایات بـ: «الدّاء» و مفهومها المرض، وجاء مثلاً فی الخطبة (176) من نهج البلاغة، حیث یصف الإمام(علیه السلام) فیها القرآن الکریم:
«فَإسْتَشفُوهُ مِنْ أَدوائِکُم... فَإِنَّ فِیهِ شِفاءً مِنْ أَکْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الکُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالغیُّ والضَّلالُ».
ونرى أیضاً هذا التعبیر فی روایات کثیرة اُخرى.
—–
و خلاصة القول، إنّ الفضائل و الرّذائل، و طبقاً لهذه النظریة و الرؤیة، علامةٌ لسلامة و مرض الرّوح عند الإنسان، والأنبیاء(علیهم السلام) والأئمّة المعصومین(علیهم السلام)، کانوا معلمی أخلاق، و أطباء نفسیین، و تعالیمهم تجسّد فی مضمونها الدّواء النّافع و العلاج الشافی.
و على هذا، فکما هو الحال فی الطّب المادی، ولأجل الوصول إلى الشّفاء الکامل، یحتاج المریض إلى الدواء، و یحتاج إلى الحُمیة من بعض الأکلات، فکذلک فی الطّب النّفسی و الرّوحی الأخلاقی، یحتاج إلى الإمتناع عن أصدقاء السّوء، و المحیط الملّوث بالمفساد الأخلاقیّة، و کذلک الإمتناع عن کلّ ما یَساعد على تفّشی الفساد، فی واقع الإنسان النفسی، و محتواه الداخلی.
فالطّب المادی جعل العملیّة الجراحیّة کعلاج لبعض الحالات، و کذلک جعل الطّب الرّوحی الحدود و التّعزیرات و العُقوبات کوسیلة، ودواء رادع، عن الأعمال المنافیَة للأخلاق، و هی بِمنزلة إجراء العملیّة الجراحیّة فی الطّب المادی.
وکما نرى فی الطّب المادی، أنّه جعل العلاج فی مرحلتین، مرحلة الوقایة: و هی المحافظة على الصّحة البدنیّة، و الثّانیة: مرحلة العلاج للمریض، فکذلک فی الطّب الرّوحی و الأخلاقی، یمرّ بمرحلتین: مرحلة الإرشاد والتعلیم من قبل معلمی الأخلاق، للمحافظة على نفوس الناس من التلّوث بالرذائل، و الثّانیة: مرحلة العلاج للمذنبین الملوّثین بالرّذائل.
و ما جاء فی الخطبة (108) من نهج البلاغة، فی وصف الرّسول الأکرم(صلى الله علیه وآله)، و معالجاته بالمراهم والکیّ للجروح، یبیّن مدى التّنوع فی الطّب الرّوحی، کما هو الحال فی الطّب المادی.
ففی الطّب المادی (الجسمانی)، توجد مجموعة إرشادات و أوامر کلیّة لعلاج الأمراض، و قسمٌ من الأوامر التی تخص کلّ مرض بذاته، فکذلک الطّب الرّوحی، فالتّوبة و ذکر الله والعبادات الاُخرى، والمحاسبة والمراقبة للنفس، هی اُصولٌ کلیّةٌ للعلاج، وکلّ مرض أخلاقی، نجد الأوامر والإرشادات الخاصة به، مذکورةٌ فی الکتب الإسلامیّة و الأخلاقیّة.
1. سورة البقرة، الآیة 10; سورة المائدة، الآیة 52; سورة الأنفال، الآیة 49; سورة التوبة، الآیة 125; سورة الحج، الآیة 53; سورة النور، الآیة 50; سورة الأحزاب، الآیة 12 و 32 و 60; سورة محمد، الآیة 20 و 29; سورة المدثر، الآیة 31.
2. سورة الشعراء، الآیة 87 الى 89.
3. نهج البلاغة، الخطبة 108.
4. مستدرک الوسائل، ج1، ص103 (الطبعة الجدیدة).
5. بحارالأنوار، ج75، ص 164.
6. غُرر الحِکم، ج3، ص167، (طبعة جامعة طهران).
7. بحار الأنوار، ج70، ص399.
8. المصدر السابق، ص312.
9. نهج البلاغة، الکلمات القصار، کلمة 388.
10. میزان الحکمة، ج1، ص630.
