وهی فی الحقیقة مکملة لآیات القسم الثانی ، ولذا ورد فی الآیة الخامسة استفهام انکاری ینص على :
(مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) . (البقرة / 255)
وبناءً على ماذکر فإنّ الأنبیاء وأولیاء الله والشفعاء یستمدون مشروعیة شفاعتهم یوم الجزاء من الله تعالى ، ویشفعون بإذنه ، ومن البدیهی أنّ إذنه منبثق من حکمته أی وفق أسس محسوبة ، فإن کان هناک شخص لا یستحق الشفاعة فلا یؤذن بالشفاعة له (اِحفظوا هذا الکلام جیداً فسیأتی شرحه فی الظرف المناسب) .
ومن الجدیر بالملاحظة أنّ الآیة المذکورة (وهی آیة الکرسی) قد أکّدت هذه الجملة بعد أن أقرّت مقام القیمومة والمالکیة لله تعالى على کل ما فی السموات والأرض ، وعلى هذا فانَّ هذه الشفاعة منبثقة من مالکیّته وحاکمیته وقیمومته .
وبهذا فهی تبطل معتقدات عبدة الأوثان الذین یتذرّعون بعبادتها بدعوى أنّها تشفع لهم عند الله .
وورد نفس هذا المعنى بصورة اُخرى فی الآیة السادسة ; إذ قالت : (یَومَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِىَ لَهُ قُولاً ) .
ولکن مَن المقصود مِن : (مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) ؟ هنالک احتمالان:
الأول : هم الشفعاء بإذن الله ، والثانی : هم الذین تشملهم الشفاعة بإذن الله .
إلاّ أنّ الاحتمال الأول یبدو هو الأصح لأنّه یتسق ومضمون الآیة السابقة (آیة الکرسی) فهناک کان الحدیث یدور حول الإذن للشفعاء ، وتمثل الآیة اللاحقة شاهداً آخر على صحّة هذا القول ، ولهذا السبب اختار الکثیر من المفسّرین هذا المعنى .
وینعکس کلا المعنیین فی جملة (وَرَضِىَ لَهُ قَولاً ) ، الأول: إنّها تعود على الشفعاء أی تُقبل شفاعة من رضی الله قوله وشفاعته، وعلى هذا فإنّ الجملتین تؤکّد إحداهما الأخرى .
والثانی : إنّ المقصود هو المشفوع له من الذین رضی الله قولهم ، وبعبارة اُخرى هو الذی کان عمله وکلامه ومعتقده صالحاً وصار موضعاً لرضى الله لکی یُشفع له ، ولکن بما الجملة الأولى تقصد الشفعاء ، فمن الأنسب أن تکون الجملة الثانیة إشارة إلى ذلک أیض ، لتکون عودة الضمائر على وتیرة واحدة .
وعلى جمیع الأحوال تشکّل الآیة دلیلاً واضحاً على وجود الشفاعة بإذن الله ، لفریق من المؤمنین .
وقد بیّنت الآیة السابقة نفس ذلک المعنى بصورة اُخرى إذ قالت : (مَا مِن شَفِیع إِلاَّ مِن بَعدِ إِذنِهِ ) فلماذا تعبدون الأصنام ؟ (ذلِکم اللهُ رَبُّکُمَ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَکَّرُونَ ) .
وجاء نفس هذا المعنى فی الآیة الثامنة بشأن شفاعة الملائکة ، إذ تؤکّد أنّ شفاعتهم تقبل بإذن الله أیض ، إذ ورد فیه : (وَکَمْ مِّن مَّلَک فِى السَّموَاتِ لاتُغنِى شَفَاعَتُهُم شَیئاً إِلاَّ مِن بَعدِ اَن یَأذَنَ اللهُ لِمَن یَشَاءُ وَیَرضَى ) .
فالمکان الذی لا یستطیع فیه ملائکة السماء وبکل مالدیهم من عظمة من الشفاعة إلاّ بإذنه ، فماذا نتوقع من الأوثان التی لا حس لها ولا تمتاز بأیّة قیمة معنویة ؟ ألیس من المخجل أن یقولوا نعبدها لتکون شفیعة لنا عند الله ؟ !
والملفت هنا هو استخدام کلمة «کم» للتعبیر عن أهمیّة الموضوع ، وهو ما یُستخدم عادة للکثرة وهو موسوم هنا بطابع العموم ، وجاء فی الآیة کذلک تعبیر «فی السموات» وهو دلالة على علو مقامهم ، ووردت کذلک کلمة «شفاعتهم» بصیغة الجمع لکی یفهم شفاعتهم جمیعاً لا أثر لها إلاّ بإذن الله ورضاه .
ولعل التأکید على الملائکة دون بقیة الشفعاء جاء هنا لأنّ فِئة من العرب کانت تعبد ، الأوثان أو أنّ المقصود : فإن کانت شفاعة الملائکة لا تتحقق ولا تنفع إلاّ بإذن الله ، فماذا یُتوقع من الأصنام الجامدة ؟
والفارق بین «الإذن» و «الرضا» هو أنّ الإذن یُطلق حین یُعلن المرء عن رضاه ، لکن الرضا منوط بالباطن ، وانطلاقاً من أنّ الرضا قد یکون مفروضاً أحیاناً وعار عن الرضا الباطنی ، فقد ورد الاثنان معاً فی هذا الموضع لیتم تأکید الغرض رغم أنّ الفرض على الله لا یمکن تصوره (جل وعلا) وأنّ رضاه مستوسق مع إذنه ، (فتأمل) .
هل أنَّ هذا الاِذن مرتبط بالشفعاء أم بالمشفع لهم ؟ فالآیة التی نحن بصددها تحتمل المعنیین ، رغم أنّ معناها العام یبدو أکثر اختصاصاً بالشفعاء أی إنّ الله یأذن ویرضى لهم بالشفاعة .