إنّ مسألة المعاد مسألة واسعة النطاق والابعاد، لأنّ الحدیث عنها هو حدیث عن عالم واسع ، وبما أنّ عالم المعاد عالم مجهول ویختلف من جهات عدیدة عن عالمنا هذا، لذلک سیکون البحث فی هذا المجال بحثاً معقد ، ومع کونه معقداً فهو ممتع وجذّاب فی نفس الوقت ویعود ذلک لسببین:
الأول : لکونه موضوعاً مثیر ، وهذا ما یبعث عند کل إنسان حبّ الاطلاع وکشف المجهول .
الثانی : إنَّ التوجّه إلى هذه المسألة ومعرفة جزئیاتها له أثر نفسی وروحی وتربوی کبیر فی بناء النفس الإنسانیة ، إذ إنَّها تشتمل على جمیع مراحل حیاة الإنسان ، وربّما هذا هو السبب الذی جعل القرآن الکریم یتناول الکثیر من الموارد والمسائل التی تتعلق بالمعاد ، وهذا ما لا نجده فی غیرها من المسائل .
إنَّنا فی بادئ الأمر کنّا قد ارتأینا أن نجمع جمیع البحوث المتعلّقة بـ (المعاد) وفق المنظور (القرآنی) فی مجموعة واحدة (کتاب واحد) ونضعها بین یدی القاریء الکریم تحت عنوان (تفسیر نفحات القرآن).
ولهذا نحن بذلنا جهدنا فی تلخیص هذه البحوث بالقدر الذی لا یؤثر على المحتوى العام ، مع الحرص على تلافی أی خلل أو نقص فی المسائل المطروحة فیه ، ولکن وبعد أن خضنا فی أعماق الآیات القرآنیة بهذا الفکر القاصر ـ عثرنا على کنوز من الجواهر النفیسة بحیث لایمکن جمعها فی کتاب واحد ، حیث أصبح عدد صفحاته یزید على الالف ممّا اضطرنا إلى أن نعید النظر فی هذا الکتاب وندوِّنه فی مجلَّدین .
واتفق أن البحوث المتناولة فی المجلد الأول مغایرة تماماً لبحوث المجلد الثانی ، ففى المجلد السابق کان الحدیث یدور حول المسائل المرتبطة بالمعاد ، أمّا هذا المجلد فیتناول جزئیات وخصوصیات المعاد وفق المنظور القرآنی ، وبتعبیر آخر لو أننا شبَّهنا مسألة المعاد ببناء عظیم شامخ لکان المجلد الأول یمثل أساس هذا البناء ، وأمّا المجلد (الثانی) فیتناول جزئیات وتفاصیل البناء وما یتعلق به .
ولهذا کان من المناسب أنْ نسمّی هذا الکتاب باسم (منازل الآخرة) أو منازل القیامة .
ولابدّ لنا من الإشارة إلى أنّ البحث حول المعاد عموماً، وما یرتبط بجزئیاته خصوصاً، یثیر الکثیر من الأسئلة ، لهذا فقد سعینا واستطعنا أن نجیب عن جمیع الأسئلة من القرآن نفسه أو من الأحادیث الشریفة أو الأدِلَّة المنطقیة الفعلیة.
کذلک بذلنا جهدنا لتقریب هذه المفاهیم المهمّة والمعقّدة إلى الأذهان بضرب الأمثلة الحیة، ولقد استفدنا فی هذا المجال من التجارب التی حصلنا علیها من خلال البحوث العقائدیة والتفسیریة ، آملین التوفیق فی هذا الطریق ، والرأیُ لکم.
ولا شکّ فی أنَّ هذا العمل سیمهِّد الأرضیة لبذل جهود أکبر فی المستقبل، وهو عامل مساعد فی استمراریة هذه الجهود فی هذا المجال ، ولا یمکن أنْ یدّعی أحد بأنّه قال فی هذا المجال کل شیء ، ولم یبق ما یقال .
نسأله تعالى أنْ یعصمنا من الزلل سواء کان فی العلم أو فی العمل ، فی القلم أو فی الکلام ، کما نطلب منه تعالى أنْ یسلِّمنا ویدخلنا فی المنازل الرفیعة منازل الرحمة ، رحمته (جنات عدن) ، (جنّة الخلد) ولا یمکن لأحد أنْ یدخلها بسلام إلاّ أنْ تشمله ألطاف وعنایة الباری عزّ وجلّ .
قم المقدّسة ـ ناصر مکارم الشیرازی
