تُلحظ فی القرآن الکریم تعابیر تذهب إلى أکثر بکثیر ممّا ذکرناه لحد الآن ، فهی تتحدث عن قضیّة تخرج عن إطار التفکیر لدى جمیع أبناء البشر ولا تسعها دائرة التصور والخیال والوهم ، وهی أبعد ممّا قرأنا وکتبن .إنّ استدلال الآیات القرآنیة بمثل هذا الأمر یعکس مدى عظمة النعم الإلهیّة والتی یعجز البیان عن وصفها، وهی من الآیات العجیبة فی القرآن، مثل : (فَلاَ تَعلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُمْ مِّن قُرَّةِ اَعْیُن جَزَاءً بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ ). (السجدة / 17)
وجاء فی حدیث مشهور عن النبی (صلى الله علیه وآله) أنّه قال : « إنّ الله یقول أعددت لعبادی الصالحین ما لا عین رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » (1) .تجدر الإشارة إلى أنّ هذه البشارة العظمى قد وردت فی القرآن الکریم فی أعقاب سرده لصفات المؤمنین الذین یقومون اللیل لمناجاة ربّهم ( صلاة اللیل ) والذین ینفقون من أموالهم ; وهذه دلالة على أنّ أفضل الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة هی « صلاة اللیل »، « والانفاق »، والغریب فی الأمر أنّ صلاة اللیل تعنی عبادة یؤدّیها المؤمن فی الخفاء، وکذلک الانفاق الخالص فإنّه غالباً ما یجری فی الخفاء کذلک ، ویکون الجزاء على ذلک من قبل الله تعالى فی الخفاء أیضاً، فجعله مستوراً ولم یُطلع علیه أحد .
وهناک نقطة اُخرى أیضاً تسترعی الإنتباه وهی أنّ تعبیر « قرّة أعین » تعنی برودة الأعین (2) . لأنّه من المعروف بین العرب أن « دموع الشوق » التی تنهمر عادة من الأعین عند الفرح الشدید تکون باردة ، على العکس من دموع الحزن التی تتصف عادة بالحرارة والحرقة ، لذا فإنّ العربی عندما یرید القول: إنّ الموضوع أو الحادثة الفلانیة مدعاة للسرور والارتیاح ، نراه یقول « قرة العین أو قرّة أعین » .وعلى أیّة حال فهنالک کلمات وآیات لا یبلغها عقل الإنسان مهما بلغ من التسامی ومهما ارتقى من الذُرى ، وکلما تعمّق لسبر أؤغوارها کلما توصل إلى مفاهیم وأبعاد جدیدة ، حتّى یصل الفکر إلى مکان یقف عنده ویعترف بعدم القدرة على بلوغ أعماقه ، والآیة التی نبحث فیها تمثل فی الواقع إشارة قیّمة وذات مغزىً للنعم الروحیة والمعنویة العظیمة لأصحاب الجنّة ، فهى تحمل بین طیّاتها هذا المفهوم وهو عدم استطاعة أی إنسان حتّى الأنبیاء المرسلین والملائکة المقرّبین من بلوغ هذه الحقیقة ومعرفة ما أخفى الله من جزاء لخاصة عباده ، ومن المؤکد أنّهم یبلغون درجات عالیة من القرب إلى ذاته المقدّسة ومراحل رفیعة من وصال لقائه ومنازل سامیة من عنایته وألطافه لا یدرکها إلاّ من بلغها.