نفخة الموت ونفخة الحیاة !

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
نفحات القرآن (الجزء السادس)
تمهید 1 ـ ما المراد بـ (نفخة الصور) أو صرخة الموت والحیاة

لقد عبّرت الثمان عشرة آیة السالفة الذکر کما أشرنا إلى ذلک سابق ـ عن نفخة الصور تحت ستة عناوین مختلفة ، وقد جمعنا هذه الآیات مع بعضها کی نسلط الأضواء على تفسیرها حتى یتّضح المفهوم الحقیقی لنفخة الصور من خلال المقارنة بینه .

لقد أشارت الآیة الاُولى إلى نفخة الصور الاُولى وکذلک إلى نفخته الثانیة وهذه هی الآیة الوحیدة التی جمعت کلا النفختین (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمواتِ وَمَن فِـی الاَْرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ) ویرى صاحب کتاب (مقاییس اللغة) أنّ مادة (صعق) على وزن (صُعْق) یعنی الصوت الشدید ، ویرى أنّ الصاعقة مشتقة من نفس المعنى ، وهی سبب الموت والدمار ، وجاءت هذه المادة أیضاً بمعنى الموت . . وذکر صاحب کتاب لسان العرب أنّ المعنى الأول للصعق هو الإغماء ، وشل العقل على أثر سماع الصوت الشدید وذکر بأنّ (الموت) من المعانی الاُخرى لهذه الکلمة ، حتى أنّه ذکر قول بعضهم إنّ الموت هو أحد معانی الصاعقة .

على أیّة حال فإنّ مفهوم الصعق فی الآیة یعنی الموت المباغت الذی یعمّ جمیع أهل السموات والأرض، وذکرت الآیة الکریمة: (إلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ) فما المقصود من هذه العبارة ؟ هناک کلام للمفسرین فی هذا الصدد، قال بعضهم : إنّ هذه العبارة هی إشارة إلى جمع من ملائکة الله الصالحین وهم (جبرائیل ، ومیکائیل ، واسرافیل ، وعزرائیل)، وقال بعض آخر: إنّهم الشهداء ، وقیل: إنّ الآیة تشمل أیضاً إضافه إلى الملائکة الأربعة الذین سبق ذکرهم حملة العرش الإلهی، ومع ذلک فالنتیجة أنّ جمیع هؤلاء یذوقون الموت بحکم قوله تعالى : (کُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ). (آل عمران/185)

ولم یبق إلاّ وجه الله الذی هو حی لا یموت:(وَیَبْقَى وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْکْرَامِ ). (الرحمن / 27)

ولقد أشار ذیل الآیة إلى النفخة الثانیة: (ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخرَى فَإِذَا هُمْ قِیَامٌ یَنْظُرُونَ ) .

الصور فی الأصل بمعنى البوق الذی یستخدم عادة لایقاف أو لتحریک الجند وأحیاناً القوافل . . ولقد استخدم فی هذه الآیة بمعنى توقف الحیاة بأسرها فی عالم الوجود ومن ثم حرکتها مرّة اُخرى .

وهناک شرح مفصل لهذا الموضوع سنتعرض إلیه إن شاء الله ـ فی فقرة (التوضیحات) .

وقد أشارت الآیة الثانیة إلى النفخة الثانیة فقط: (وَیَوْمَ یُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ ) .

ولم یستبعد البعض ومنهم العلاّمة الطباطبائی فی تفسیر المیزان أنّ المراد من هذه الآیة کلا النفختین .

ولکن ذیل الآیة یذکر: (وَکُلٌّ اَتَوْهُ دَاخِرِینَ ) وهذا یدل على أنّ المقصود هو النفخة الثانیة، وفی هذه الآیة أیضاً نواجه الجملة الاستثنائیة: (إِلاَّ مَن شَآءَ اللهُ )حیث أشرنا إلى تفسیرها فی ذیل الآیة الاُولى .

أمّا الآیة الثالثة فتشیر إلى النفخة الثانیة (نفخة الإحیاء): (وَنُفِخَ فی الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِّنَ الاَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ یَنسِلُونَ )(1).

ولقد ذکر المفسرون أَنَّ هذه الآیة تختص بالنفخة الثانیة ویشهد على هذا المعنى ذیل الآیة ، وما بعدها من آیات.

وربّما یطرح البعض هذا السؤال: إذا کان الناس یهلعون فی ذلک الیوم من الحساب الإلهی فکیف یفزعون إلیه؟

فقیل فی جواب ذلک: إنّ هذه الحالة حالة لا إرادیّة ، وبهذه الوسیلة یدعوهم الله تعالى إلى محکمة عدله .

والآیة الرابعة ناظرة إلى النفخة الاُولى وهی نفحة إماتة جمیع المخلوقات وفناء العالم بأسره: (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وحُمِلَتِ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُکَّتَا دَکَّةً وَاحِدَةً * فَیَوْمَئِذ وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ ) .

إنّ تعبیر (واحدة) الذی تکرر مرّتین فی هذه الآیة یدل على أنّ هذه الحوادث تتحقق بصورة مباغتة على شکل ضربة ممیتة، ومن جهة اُخرى فإنّ هذه الآیات تبین القدرة اللامتناهیة لله سبحانه وتعالى حیث تفنى جمیع المخلوقات بنفخة صور واحدة، بالضبط مثل نفخة البوق التی تحرک جیشاً عظیماً أو توقفه فی مکانه .

بلا شک أنّ الآیات السابقة أشارت إلى النفخة الاُولى، أمّا الآیات اللاحقة فقد ورد فیها إضافة إلى ذلک کلام عن حوادث المحشر وصحیفة الأعمال وأوصاف الجنّة ، وبحکم کون الحوادث المذکورة تقع فی نهایة العالم وبدایة القیامة ولا توجد فاصلة کبیرة بینهما، لهذا السبب نرى فی کثیر من الآیات القرآنیة أنّ حوادث نهایة العالم وقیام القیامة جاءت مرادفة لبعضها البعض .

ویرى بعض المفسرین الکبار ، ومنهم صاحب المیزان أنّها النفخة الثانیة، قال: «والذی یسبق إلى الفهم من سیاق الآیات أنّها النفخة الثانیة التی تحیی الموتى» (2) ونحن نستبعد أن تکون هذه الآیة قد أشارت إلى النفخة الثانیة، حیث إنّها لا تتوافق مع سیاق الآیة التی تلیها والتی تخبر عن دک الأرض والجبال، ولعل الآیات التی وردت (بفاصلة) عن هذه الآیة هی التی ساقته إلى هذا المعنى ، فی حین أنّ التأمل فی الآیات المختلفة التی تتحدث عن القیامة یدلل على أنّ هذه الآیات تذکر أحیاناً حوادث هاتین النفختین معاً وتمیز بینهما بالقرائن .

أمّا الآیة الخامسة فقد أشارت بوضوح إلى (النفخة الثانیة) وذلک لأنّها تخبر عن عدم تأثیر روابط الأنساب بین الناس أثناء (نفخة الصور): (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَیْنَهُم یَوْمَئِذ وَلاَیَتَسَآءَلُونَ ) فمن الواضح أنّ السؤال سواء کان بمعنى التساؤل عن أحوال بعضهم البعض أو بمعنى طلب العون والمساعدة فإنّ کل هذا یحدث فی نفخة القیامة (نفخة الحیاة) .

ومن الغریب أن نرى بعض المفسرین یحتملون أنّ المراد فی هذه الآیة النفخة الاُولى .

على أیّة حال، فإنّ عدم سؤال بعضهم للبعض الآخر محمول على کلا الاحتمالین بحکم انشغال کل واحد بنفسه وبالاهوال التی یتعرض إلیها فلا یفکر بالآخرین .

من هنا یطرح هذا السؤال وهو کیف تتوافق هذه الآیة مع غیرها من الآیات التی تذکر: (فَأَقْبَلَ بَعضُهُمْ عَلَى بَعض یَتَسَآءَلُونَ ). (الصافات / 50)

وکذلک قوله تعالى:(وَبَرَزُوا للهِِ جَمِیعاً فَقَالَ الضُّعَفَآءُ لِلَّذِینَ اسْتَکْبَرُوآ إِنَّا کُنَّا لَکُمْ تَبَعاً فَهَل أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَىْء ). (إبراهیم / 21)

فیتضح الجواب عن هذا السؤال من خلال ملاحظة الآیات الکریمة بالنسبة إلى غیره . فیستفاد من الآیات أنّ هناک مراحل ومواقف متعددة یوم القیامة ولکل مرحلة من هذه المراحل خصائصها، والشاهد على هذا الکلام حدیث الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) فی جوابه عن هذا السؤال نفسه حیث قال (صلى الله علیه وآله) : «ثلاثة مواطن تذهل فیها کل نفس : حین یرمى إلى کل إنسان کتابه ، وعند الموازین ، وعلى جسر جهنّم» (3) .

أمّا الآیة السادسة والسابعة فقد أشارتا أیضاً إلى النفخة الثانیة، قال تعالى : (وَتَرکْنا بَعْضَهُمْ یَوْمَئِذ یَمُوجُ فی بَعْض ) . (الکهف / 99)

فهل أنّ هذا المشهد العظیم یکون بسبب کثرة الناس أم بسبب حالة الخوف والهلع أم لسیادة الفوضى فی نهایة العالم ؟

یرى البعض أنّ هذه الآیة هی إشارة إلى (قوم یأجوج ومأجوج) (4) بعد بناء سد ذی القرنین (حسب سیاق ما قبلها من الآیات) ولکننا نستبعد هذا المعنى بقرینة الآیات التالیة له ، (تأمل ) .

على کل حال فإنّ الله تعالى یضیف فی نهایة الآیة: (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً )وقال فی الآیة التی تلیها:(یَوْمَ یُنْفَخُ فی الصُّورِ وَنَحْشُرُ الُْمجْرِمِینَ یَوْمَئِذ زُرْقاً ) .

«زرق» : جمع «ازرق» وفی الأصل بمعنى زرقاء اللون ، ومن الممکن أن یکون هذا اللون إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى یحشر المجرمین زرق الأبدان أو عمیاً أو عطاشاً لشدّة العطش الذی تتعرض له أبدانهم .

إننا نرى أنّ المعنى الأول هو الأنسب وذلک لأنّه معنى حقیقی، أمّا الثانی والثالث فله بعد کنائی (مجازی) .

أمّا الآیتان التاسعة والعاشرة : فقد أشارتا أیضاً إلى النفخة الثانیة أی نفخة الحیاة والقیامة فقال تعالى :(یَوْمَ یُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً) وقال: (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِکَ یَوْمُ الْوَعِیدِ ).

إنّ الإتیان أفواجاً فی ذلک الیوم قد یکون لورود کل اُمة مع إمامها إلى المحشر (الأنبیاء وغیرهم) أو أنّ کل زمرة من المجرمین الذین اقترفوا ذنباً معیناً یحشرون مع .

على أیّة حال فهذه الآیة لا تتنافى مع قوله تعالى: (وَکُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ الْقیمَةِ فَرْداً ).(مریم / 95)

وذلک کما أشرنا سابق ـ أنّ هناک مواطن ومواقف مختلفة فی یوم القیامة فمن الممکن أن یحشر الناس فی البدایة على شکل مجموعات ثم یحضرون فی محکمة العدل الإلهی فرادى، (فتأمل).

«الوعید» : تستعمل هذه المفردة على قول الراغب الإصفهانی ومجموعة من المفسرین وأهل اللغة، فی الشرّ، فی حین کلمة «وعد» تستعمل فی الخیر والشر، واستخدمت الآیة الکریمة هذا اللفظ (الوعید) لإنذار المجرمین من ذلک الیوم بالرغم من أنّ القیامة تشتمل على الوعد بالخیر والوعید بالشر .

الآیتان الحادیة عشرة والثانیة عشرة اللتان وردتا فی سورة یس تنذران بوقوع صیحة

شاملة تحدث فی نهایة هذا العالم هی (صیحة الموت) أو (صیحة الحیاة) التی تقع فی بدایة القیامة .

وفی مورد واحد أشارت الآیة إلى صیحة نهایة العالم .

فقد کانوا یسألون دائماً متى یتحقق الوعد الإلهی . .؟ وکانوا یظنون أنّ هذا الأمر عسیر على الله سبحانه وتعالى ، فیقول الله تبارک وتعالى : لیس الأمر کما یعتقد هؤلاء: ( ما یَنْظُرُوْنَ إِلاَّ صَیْحَةً وَاحِدَةً تَأخُذُهُمْ وَهُمْ یَخِصِّمُونَ ) .

وأشار فی المورد الثانی إلى الصیحة الثانیة (صیحة الإحیاء): (اِن کانَتْ إِلاَّ صَیْحَةً وَاحِدةً فَإِذَا هُمْ جَمِیعٌ لَّدَیْنَا مُحْضَرُونَ ) .

والصیحة کما یقول الراغب فی مفرداته، فی الأصل تعنی تشقق الخشب أو اللباس المصحوب بالصوت، ویطلق هذا الاصطلاح أیضاً على کل الأصوات والصرخات المرتفعة، وتأتی أحیاناً بمعنى طول القامة، وذلک لأنّ الشجرة المرتفعة کأنّما تصرخ وتدعو الناس إلیها.

ولکن صاحب کتاب مقاییس اللغة ذکر أنّ المعنى الأصلی للصیحة هو الصوت العالی و(تصیح) بمعنى تشقیق الخشب وهی کلمة أصلها واوی ، ویقول إنّها کانت فی الأصل (تصوح) (فتأمّل).

على أیّة حال، فإنّ المفسرین یرون أنّ الصیحة الاُولى هی نفخة الصور الاُولى والصیحة الثانیة هی نفخته الثانیة فی حین أنّ الآیة 51 من نفس السورة والتی تقع بین هاتین الآیتین قد أشارت صراحة إلى نفخة الصور ونشور الأموات من قبورهم، وقیل لا منافاة بین الآیتین حیث إنّ الآیة الثانیة جاءت موضحة ومفسرة للآیة الاُولى ویکون مفهومها أنّ نفخة الصور الثانیة ما هی إلاّ صیحة عظیمة (فَإِذَا هُمْ جَمِیعٌ لَّدَیْنَا مُحْضَرُونَ ) .

إنّ جمیع هذه التعابیر تدلل على حقیقة واحدة وهی أنّ نهایة الدنیا وبدایة قیام الساعة أمر سهل یسیر على الله القادر سبحانه وتعالى ولا مبرر لعجب المخالفین من وقوع هذا الأمر، فالکل یموت بصیحة واحدة عظیمة ثم یصبحون رمیماً وتراباً وبصیحة عظیمة اُخرى یرجعون مرّة اُخرى إلى الحیاة ، ویحضرون جمیعاً أمام الله تبارک وتعالى .

الآیتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة : أشارتا مرّة اُخرى إلى الصیحتین (صیحة الموت وصیحة الحیاة) .

تقول الآیة الاُولى : (مَا یَنظُرُ هؤُلاَءِ إِلاَّ صَیْحَةً وَاحِدَةً مَّالَهَا مِنْ فَوَاق )وهناک عدّة أقوال فی تفسیر هذه الآیة ، فقیل إنّها تشیر إلى عذاب الاستئصال (وهو العذاب الدنیوی الذی یستأصل جذور الکافرین والظالمین مثل عذاب قوم نوح ولوط وغیرهما) .

وقیل : إنّ الآیة أشارت إلى نفخة الصور والمعنى الأول یتفق مع سیاق الآیات السابقة للآیة التی تتحدث عن مجازاة قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم، ولکن مع أخذ ذلک بنظر الاعتبار فإنّ هذه الآیة جاءت تهدیداً لکفّار مکة مع أنّ هؤلاء مستثنون من عذاب الاستئصال بحکم قوله تعالى : (وَمَا کَانَ اللهُ لِیُعَذِّبَهُم وَأَنْتَ فِیهِمْ ) . (الانفال / 33)

وعلى هذا الأساس لا یمکن تفسیر العذاب فی الآیة بعذاب الاستئصال فیکون الرأی الثانی هو الأنسب .

وبناء على ذلک فهل أنّ الآیة أشارت إلى نفخة الصور الاُولى أم الثانیة ؟ هناک اختلاف بین المفسرین ولکن وبلا شک أنّ لحن الآیة یتوافق مع النفخة الاُولى، ذلک لأنّ ذیل الآیة یقول : (مَالَهَا مِنْ فَوَاق ) وهذا التعبیر یقال عادة لنفخة الموت ولقد استشهد بحدیث نقل عن الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) حول هذه الآیة لبیان النفخة الاُولى (5) .

«فواق» : حسب قول الکثیر من المفسرین وأهل اللغة، هو مابین حلبتی الناقة وأصله من الرجوع یقال، آفاق من مرضه أی رجع إلى الصحة .

وعلى أیّة حال فإنّ صیحة فناء العالم لا تعطی فرصة لأحد ، وینتهی کل شیء فی وقت قصیر ویصبح هشیماً تذروه الریاح ویقوم سد محکم یحول بین الإنسان وماضیه .

ولقد أشارت الآیة اللاحقة إلى صیحة یوم القیامة: (یَوْمَ یَسْمَعُونَ الصَّیْحَةَ بِالحَقِّ ذَلِکَ یَوْمُ الْخُروْجِ ) .

ویعتقد المفسرون بأنّ هذه «الصیحة» هی نفس صیحة القیامة حیث إنّ ذیل الآیة دلیل واضح على ذلک، والمراد من (الحق) کما یقول المرحوم الطبرسی فی مجمع البیان والفخر الرازی فی التفسیر الکبیر والآلوسی فی روح المعانی، هو نفس البعث والنشور .

ولکن ظاهر الآیة أنّ المراد بالحق الوارد فی الآیة الکریمة هو نفس معناه الأصلی ، وبتعبیر (المیزان) یعنی القضاء الحتمی، والنشور هو مصداقه، أمّا تعبیر (یوم الخروج) فالمقصود منه یوم خروج الناس من قبورهم .

وهنا یطرح هذا السؤال: ومن الذی یسمع هذه الصیحة ؟ هل تسمعها الأرواح قبل ورودها الأجساد ؟ أم أنّ الأبدان تحیى وترجع إلیها الأرواح عند الصیحة ؟ وبهذا یستمر الناس فی سماعهم للصیحة، ومثل ذلک کمثل ساعة الجرس التی تدق قرب شخص نائم فتوقظه ، وهناک أقوال اُخرى، والمعنى الثانی هو الأنسب لسیاق الآیة .

فی الآیة الخامسة عشرة نجد تعبیراً جدیداً وهو (نقر) قال تعالى : (فَإِذَا نُقِرَ فی النَّاقُورِ* فَذَلِکَ یَوْمَئِذ یَوْمٌ عَسِیرٌ * عَلَى الْکَافِرِینَ غَیرُ یَسِیر ) و(نقر) کما یقول أرباب اللغة، فی الأصل یعنی طرق شیء، والمنقار هی وسیلة الطرق، ومن هنا یکون الطرق ملازماً للصوت و تأتی هذه الکلمة أحیاناً بمعنى إیجاد الصوت أو سببه وهو هنا النفخ فی الصور، ولذا نجد أنّ مجموعة من المفسرین فسروا الآیة بشکل مباشر بالنفخ فی الصور ، فالنقر بمعنى النفخ والناقور بمعنى الصور (6) .

وهناک احتمال آخر وهو أنّ تعبیر (النقر) جاء لأنّ الصوت الذی ینبعث من البوق من العظمة والشدّة وکأنّه ینقر الاُذن نقراً ویغوص إلى المخ .

على أیّة حال، فإنّ هذا التعبیر هو إشارة إلى النفخة الثانیة بشهادة الآیات التی بعد هذه الآیة والتی تخبر عن الوضع العسیر الذی یعیشه الکافرون فی ذلک الیوم ، ویقول الفخر الرازی : «إذا کان المقصود هو النفخة الاُولى (کما یحتمل المفسرون) فسوف لا یکون ذلک الیوم عسیراً على الکافرین لأنّهم یموتون فی تلک الساعة، إنّما الیوم الشدید على الکافرین عند صیحة الإحیاء ولذلک یقولون: یالیتها کانت القاضیة» (7) .

وفی الآیة السادسة عشرة نلاحظ تعبیراً جدیداً هو الصاخة، قال تعالى:(فَاِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * یَوْمَ یَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ اَخِیهِ ) .

«الصاخة» : مشتقة من مادة (صخ) ویقول الراغب هو الصوت الشدید الذی ینبعث من أصحاب النطق .

وقال صاحب مقاییس اللغة ، هی الصیحة التی تصم الآذان، وفسّرها البعض : بمعنى طرق رأس الإنسان بالحجر (8) ، وقیل : الاستماع والانصات، الصاخة هی التی تصخ الآذان حتى تکاد تصمّه (9) وتسمى بالصاکة لشدّة صوته .

وفی کل الأحوال فهذا التعبیر إشارة إلى «نفخ الصور» النفخة الثانیة، تلک الصیحة العظیمة التی هی صیحة الصحوة والحیاة ، حیث یساق الجمیع إلى عرصات المحشر ، وکل واحد مشغول بنفسه إلى الحد الذی یفرّ من أخیه وأبیه واُمه وأصدقائه .

ونواجه فی الآیة السابعة عشرة تعبیراً آخر حول مسألة نفخ الصور، یقول تعالى : (الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَما اَدْراکَ مَا الْقَارِعَةُ * یَوْمَ یَکُونُ النَّاسُ کَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَکُونُ الْجِبَالُ کَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ * فَهُوَ فی عِیشَة رَّاضیَة ) .

«القارعة» : من مادة (قَرْع) على وزن (فَرْع) وفی الأصل بمعنى الطرق الشدید الذی ینبعث منه صوت عال ، ومنها (المقرعة) .

فما المقصود من القارعة فی هذه الآیات :

قال بعض المفسرین: إنّ هذا التعبیر هو أحد أسماء القیامة وذلک لأنّ الحوادث التی تقع فیها حوادث شدیدة وتقرع القلوب لشدّتها وهولها ولقد صرّح البعض من المفسرین بأنّ هذا التعبیر یطلق على مجموعة حوادث القیامة التی تبدأ من نفخة الصور الاُولى وتنتهی بخاتمة المحکمة الإلهیّة(10) .

یقول الفخر الرازی فی تفسیره: واختلفوا فی لمّیة هذه التسمیة على وجوه :

أحده : إنّ سبب ذلک هو الصیحة التی تموت منها الخلائق .

وثانیه : إنّ الأجرام العلویة والسفلیة تصطدم مع بعضها بشدّة عند تخریب العالم، فیحدث على أثر هذا الاصطدام تلک القرعة فسمیت القیامة بالقارعة .

وثالثه : إنّ القارعة هی التی تقرع قلوب الناس بالأهوال والخوف .

ورابعه : إنّها تقرع أعداء الله بالعذاب والخزی والنکال .(11)

ولکن الآیات التی تأتی بعد هذه الآیات تدلل على أنّ هذا التعبیر ناظر إلى النفخة الاُولى، وهی النفخة التی ترعب جمیع الناس ثم تهلکهم وتخرب الجبال ، ولقد ذکرت فی تعقیب هذا الموضوع حوادث القیامة کتسلسل طبیعی .

على أیّة حال، فإنّ التعبیر أعلاه إمّا أنّه یشیر إلى نفخة الصور الاُولى أو أنّ النفخة الاُولى جزء منها، وإمّا أن یکون قد أشار إلى النفخة الثانیة، وهذا ما لا یتوافق مع سیاق الآیات، فمن المستبعد جدّ أن تکون الآیة: (یَوْمَ یَکُونُ النَّاسُ کَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ )قد أشارت إلى النفخة الثانیة والآیة التی بعدها: (وَتَکُونُ الْجِبَالُ کَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ )أشارت إلى النفخة الاُولى.

أمّا الآیة الثامنة عشرة فنلاحظ فیها تعبیراً جدیداً آخر ألا وهو (الزجرة) أو (الصیحة العظیمة)، فی جواب من یعجب من رجوع الحیاة بعد الموت، إذ تقول الآیة لا تعجبوا فذلک لیس بالعسیر: (فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ یَنْظُرُونَ ) .

«زجرة»: فی الأصل بمعنى الطرد وبصوت مرتفع، مثل طرد الإبل، وتأتی بمعنى الصیحة من قولک زجر الراعی الإبل أو الغنم إذا صاح علیها فریعت لصوته(12).

وفی کشاف الزمخشری، زجره یزجره، إذا صاح بمنعه ثم استعملت بمعنى الطراد، وترد أحیاناً بمعنى الصوت.

و جملة (ینظرون) ربّما تعنی النظر بحیرة من شدّة الخوف أو نظر أحدهم إلى الآخر أو انتظار الحکم النهائی.

على أیّة حال فظاهر الآیة الکریمة یشیر بوضوح إلى نفخة الحیاة ونشور الناس من قبورهم وتهیئتهم للحساب ، وإنّ أغلب المفسرین قد أشاروا إلى هذا المعنى .

یستفاد من مجموع الآیات أنّ نهایة وبدایة العالم الآخر إنّما تحدثان بصورة مباغتة وتتزامنان عند وقوع صیحة عظیمة، ولقد عبّر القرآن الکریم عن ذلک تعابیر مختلفة، فأحیاناً استخدم الصیحة وأحیاناً الزجرة والصاخة والتی هی بمعنى الصیحة واُخرى النقر، کما عبّر عنها فی کثیر من الموارد بنفخة الصور .

وفی الظاهر لم یلاحظ فی هذه الآیات شرحاً أو توضیحاً لکیفیة النفخ، وحکم هذه الحادثة فی الواقع کحکم سائر الحوادث المتعلقة بمشاهد یوم القیامة التی لم ترسم لنا صورة تفصیلیة عنها، إلاّ أنّ الأحادیث التی سنوردها بهذا الصدد قد تعرضت إلى هذه الحوادث وفصلتها إلى حدّ ما، ولکنّها لم ترفع الابهامات بشکل کلی وبعبارة اُخرى لم تستطع أن ترفع هذه الإشکالات وذلک لأنّ هذه الاُمور من أسرار العالم الآخر من جهة ، ومن جهة اُخرى أنّ عقولنا المحدودة بحدود هذه الدنیا وعاجزة عن إدراک هذه الحوادث على حقیقته .


1. «أجداث» جمع «جَدَث» على وزن «حَدَث» وهو بمعنى القبر، و«ینسلون» من مادة «نَسْل» على وزن «فَصْل» وهو بمعنى السیر السریع، ویقول الراغب إنّ المعنى الأصلی لها أخد من الفصل ویرى أنّه من هذه الجهة یطلق «نسل» على بنی آدم .
2. تفسیر المیزان، ج 19، ص 397 .
3. تفسیر روح البیان، ج 6، ص 107 .
4. راجع قصّة یأجوج ومأجوج ، تفسیر الأمثل ذیل الآیة 98، من سورة الکهف .
5. تفسیر القرطبی، ج 8، ص 5601 ; تفسیر الکبیر ، ج 2، ص 183.
6. راجع تفاسیر مجمع البیان; وروح البیان; و الکبیر فی ذیل الآیة مورد البحث.
7. راجع تفاسیر مجمع البیان; روح المعانی ; روح البیان ; الفخر الکبیر .
8. راجع تفاسیر روح المعانی ; روح البیان ; الکبیر .
9. راجع تفسیر مجمع البیان، ج 10، ص 440; التفسیر الکبیر، ج 31، ص 43; تفسیر روح المعانی ، ج 3، ص 48; و تفسیر القرطبی، ج 10، ص 7015 .
10. تفسیر روح البیان، ج 10، ص 499; و تفسیر روح المعانی، ج 30، ص 220 .
11. تفسیر الکبیر، ج 32، ص 70 .
12. راجع مقاییس اللغة والمفردات للراغب، مادة (زجر).

 

تمهید 1 ـ ما المراد بـ (نفخة الصور) أو صرخة الموت والحیاة
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma