تبلغ شدّة العذاب فی یوم القیامة إلى الحد الذی یتمنّى فیه المجرم کما وصفهُ القرآن فی الآیات من بحثنا قائل : (یَوَدُّ الْـمُجْرمُ لَوْ یَفتَدِى مِن عَذَابِ یَومِئِذ بِبَنِیهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَاَخِیهِ * وَفَصِیلَتِهِ الَّتِى تُئْوِیهِ * وَمَنْ فِى الاَْرْضِ جَمِیعاً ثُمَّ یُنجِیهِ ) (1) .
فیتبیّن من هذا التعبیر وبکل وضوح أنّ العذاب الإلهی فی ذلک الیوم شدید جدّاً ورهیب حتّى أنّ المجرم یغدو مستعداً للتضحیة ، بجمیع ثروته وکل أعزّائه بل وبجمیع سکان الأرض لیخلِّص نفسه (و لا تعبیر أفصح ولا أبلغ من هذا)، ولکن ما الفائدة لأنّ أیّاً من هذه التضحیات لا تُقبل منه ، فیقع ضحیّة أعماله وعواقبها المؤلمة .
وبعد أن تشیر الآیة الثانیة إلى صحوة المجرمین یوم القیامة وندمهم وشدّة أسفهم على تفریطهم فی أداء الفرائض الرّبانیة، تقول: (فَیَوْمَئِذ لاَّیُعَذِّبُ عَذابَهُ اَحَدٌ * وَلاَ یُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )(2).
وعلى هذا المنوال فعذابه لا نظیر له ، وتوثیقه فی الحبال لم یجر على أحد من قبله ولا من بعده على ضوء الآیة.
وهذه التعابیر بشکل عام تحمل أبعاداً تربویة تحثّ الناس على خشیة الله وتجنّب ألیم عقابه ، لأنّ أذهان الناس قد اعتادت على أنّ «الله أرحم الراحمین» فهو لا یعذّب عباده وإذا عاقبهم فعقوبته خفیفة جدّ ، وهذا الوهم یدفع إلى الجرأة على ارتکاب المعاصی والذنوب ، ولذلک یفصح القرآن وبشکل صریح عن وجود ذلک العذاب لیخرج الناس هذه التخیّلات الباطلة من أذهانهم ویراقبوا أعمالهم .
وانعکس نفس المعنى فی الآیة الثالثة إلاّ أنّه ورد بتعبیر آخر فهی تتحدث عن الکفّار الذین یدیرون ظهورهم للحق فتقول : (فَیُعَذِّبُهُ اللهُ العَذَابَ الاَکبَرَ ) .
«والعذاب الاکبر»: إشارة إلى عذاب یوم القیامة فی قبالة العقوبات الدنیویة التی وُصِفت «بالعذاب الأدنى» کما نصت من سورة السجدة : (وَلَنُذِیقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الاَْدنَى دُونَ العَذَابِ الأَکبَرِ ). (سجدة / 21)
وتجدر الإشارة إلى أنّ العذاب الإلهی فی الدنیا قد یکون أحیاناً شدیداً جدّاً بحق القوم المجرمین کما حصل لقوم لوط إذ دَکَّ مدنهم وقُراهم دکّاً وجعلهم هم وإیّاها قاعاً صَفْصَف ، ومع ذلک فهذا العذاب یبقى عذاباً أدنى فی مقابل عذاب القیامة وهذا ما یُنْبیء عن شدّة العقوبة یوم القیامة .
وفی الآیة الرابعة ورد تبیان لقسم من العذاب الصارم الذی یلقاه أصحاب النّار ، فیقال یومذاک لمنکری القیامة ومحکمة العدل الإلهی، اذهبوا إلى ماکنتم به تکّذبون : (اِنْطَلِقُوا اِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلاَثِ شُعَب * لاَّ ظَلِیل وَلاَ یُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ * اِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَر کَالْقَصْرِ * کَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) .
تستعرض هذه الآیات أوصافاً مثیرة حول شدّة عذاب جهنّم إذ یُقال لمنکری هذه المحکمة الإلهیّة الکبرى والمحملین بشتّى المعاصی والذنوب :
أول : انطلقوا إلى ظل; ولکن أی ظل ؟ الظل الناتج عن الدخان الخانق المنقسم إلى ثلاث شعب ، شعبة منها فوق الرأس والأخرى عن الیمین والثالثة عن الشمال ، وهو باختصار ظل قاتل یحیط بهم من کل صوب، ظل لا کظلال الأشجار الهادئة فی الجنّة ، أو ظلال السقوف والقصور ، بل إنّه ظل حارق لشدّة حرارته .
ثانی : إنّ لهذا الظل ثلاث شُعَب ملیئة بالشرر المتطایر وکل شرارة فیه عظیمة بحجم القصر ، أو کالجمال الصفراء المسرعة نحو کل صوب ، یا له من مکان ، إن کان ظلّه هکذا فکیف بناره ؟ !
ویالها من عبارات مرعبة ودقیقة ، فالناس یهربون عادة من الحرارة إلى الظل ، بینما لا ظل هناک سوى ظل الدخان الذی تنبعث منه النیران ، وإذا کان تصّور مثل هذا الدخان صعباً فی أیّام نزول هذه الآیات ، فساحات الحروب الإجرامیة الیوم وما یُلقى فیها من قنابل تُغطّی کل شیء بالدخان والنّار فیها قد تکون صورة مصغّرة لذلک العذاب الأکبر ، إضافة إلى وجود شرر کبیر الحجم وشواظ من نار تتطایر فی مساحات واسعة، وهذا کله فی ظلال تلک النّار (3) .
وقد تکون کلمة «القصر» إشارة إلى قصور الظالمین ، ولعل تشبیه شرر جهنّم به ، أی بتلک القصور التی تؤجج النیران دوماً فی قلوب المحرومین ، یعکس معنىً عمیقاً ودقیق ، وکذلک التشبیه بالجمال الصفر ذات النمط الواحد فهو رمز لثروة المستکبرین ، وهو أیضاً تعبیر آخر ذو مغزىً عمیق فی هذا السیاق .
وقد یتوهّم البعض أن تشبیه الشرر بالقصر حیناً وبالجمال الصفر حیناً آخر یبدو غیر منسجم وذلک لأنّ أحدهما کبیر جدّاً والآخر صغیر نسبی .
ولکن ینبغی الالتفات إلى أنّ کل واحد من هذین التشبیهین یرکز على جوانب خاصة ، فالتشبیه الأول للدلالة على عظمة ذلک الشرر ، والتشبیه الثانی یرمز إلى الکثرة والسرعة والتطایر فی کل صوب کافتراق الجمال المسرعة فی الصحراء أو هو إشارة إلى اختلاف ذلک الشرر ، فشررها الکبیر بحجم قصور الظالمین ، وشررها الصغیر بحجم جمالهم الصفر .
«الجمالة»: جمع «جَمَل» أی البعیر مثل حَجَر وحِجارة ، و«صُفْر» جمع أصفر وهو اللون المعروف، وتُطلق أحیاناً على الألوان الغامقة المائلة إلى السواد أیض ،لکن الأنسب هنا هو المعنى الأول .
وتلحظ فی الآیة الخامسة والأخیرة عبارة اُخرى تصف شدّة عذاب النّار حیث تقول : (وَیَتَجَنَّبُهَا الاَْشْقَى * الَّذِى یَصْلَى النَّارَ الْکُبرَى * ثُمَّ لاَ یَمُوتُ فِیهَا وَلاَ یَحیَى ) .
فهذه صورة تعکس العذاب الألیم فی جهنّم، حیث یعیش المعذّبون فیها حالة بین الموت والحیاة فلا هم یموتون وفی ذلک راحة لهم ، ولا الحال التی یحیونها یمکن أن یُطلق علیها اسم الحیاة ، کما هو حال من یعیش فی عذاب شدید فی الدنیا فیجعله یتخبّط بین الموت والحیاة .
وکلمة «النّار الکبرى» فی مقابل النّار الصغرى والتی هی عذاب هذه الدنی .
جاء فی حدیث عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال : «إنّ نارکم هذه جزء من سبعین جزءً من نار جهنّم ، وقد اطفئت سبعین مرة بالماء ثم التهبت ، ولولا ذلک ما استطاع آدمی یُطیقها» (4)
ونُقل نفس هذا المعنى عن علی (علیه السلام) عن النبی (صلى الله علیه وآله) .
واحتمل بعض المفسرین أن تکون «النّار الکبرى» هنا إشارة إلى قسم من جهنّم عذابه أشد (أی أدنى الطبقات فیها) (5) ، ولکن یبدو أنّ التفسیر الأول یناسب الحال أکثر من التفسیر الثانی .
کان هذا جانباً من الأبعاد الواسعة لنار جهنّم وشدّة عذابها الألیم .