الآیة الاُولى تتحدث عن حضور جمیع الاُمم أمام الله تعالى فی محکمة عدله، فبعد أن أشارت إلى الأقوام السالفة وکیفیة هلاکها بذنوبها، قال تعالى: (وَإِنْ کُلٌّ لَّـمَّا جَمِیعٌ لَّدَیْنَا مُحْضَرُونَ )(1) .
صحیح ، أنّ الناس وجمیع المخلوقات فی هذه الدنیا وفی کافة الأحوال حاضرون دائم ، فی محضر الله تبارک وتعالى ، فهو حاضر فی کل مکان وهو معنا أینما کنّ ، وهو أقرب إلى أنفسنا منّا، ولکن هذه المسألة تتخذ بعداً آخر یوم القیامة، فمن جهة یکشف عن جمیع حجب الغفلة والجهل فتصبح الأبصار حادة قویة والقلوب ذات بصیرة نافذة ومن جهة اُخرى تتجلى فی ذلک الیوم آثار الله أکثر من أی وقت آخر فتقام محکمة عدله وتوضع موازین القسط .
حقاً إنّه مشهد عظیم ، الجمیع یحضر لیقف على ماقدم وعمل فی الحیاة الدنیا، الکل فی محضر الله تعالى .
وتتحدث الآیة الثانیة عن حکمه وقضائه تبارک وتعالى بین الناس فی ذلک الیوم، وعن الفصل بین جمیع اختلافات ومنازعات الناس فی دار الدنیا بمختلف أشکالها وألوانها (العقائدیة، أو الیومیة) ، قال تعالى: (اَللهُ یَحْکُمُ بَیْنَکُمْ یَوْمَ القِیمَةِ فِیَما کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ ) .
من البدیهی أنّ أنواع الحجب التی تحیط بفکر وقلب الإنسان فی هذه الدنیا (حب الذات، الأنانیة، المصالح الشخصیة والطائفیة، العصبیة وحجاب الذنوب) لا تسمح بحل اختلافات الأقوام والشعوب ، ولکن عندما ترفع جمیع هذه الحجب ویصبح الحکم لله الواحد القهار عند ذلک تنتهی جمیع الاختلافات والمنازعات.
إنّ المبطلین بعد ازالة هذه الحجب ینقادون ویرجعون إلى عقولهم بحیث یصبحون هم المحاسبین لأنفسهم، وسنبیّن ذلک فی البحوث المقبلة .
أمّا الآیة الثالثة فقد أبرزت نفس هذا المعنى بنحو آخر فتحدثت عن الإنسان الجحود الذی خلقه الله سبحانه وتعالى: (فِى أحسَن تَقوِیم ) ، وعلى أثر سوء أعماله سقط فی (أسفل سافلین) فتقول الآیة: (فَمَا یُکَذِّبُکَ بَعْدُ بِالدِّینِ ) (2) أیُّ شیء یکذبک أیّها الإنسان بعد کل هذه الحجج والدلائل بالدین الذی هو الجزاء والحساب (أو أیُّ شیء یُکذَّبُکَ أیها الإنسان بعد کل هذه الحجج والدلائل بالمعاد) .
(أَلَیسَ اللهُ بِأَحْکَمِ الْحَاکِمِینَ ) ، أی (ألیس الله بأقضى القاضین فیحکم بینک یامحمد وبین أهل التکذیب بک) .
أجل فهو أحکم الحاکمین لعلمه المحیط بکل شیء فلا تخفى علیه خافیة ، فالعلم هو الشرط الأول الذی یجب توفره فی الحاکم، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى، أنّه تعالى غیر محتاج لأحد ولیس له مصلحة فی شیء حتى یقضی لأجله على خلاف الحق .
أمّا الناس فهم محتاجون فیقعون تحت تأثیر المصالح الشخصیة أو الجماعیة وأحیاناً العواطف والأحاسیس فیحکمون حکماً على خلاف الحق والعدل، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى منزّه عن کل ذلک فهو أحکم الحاکمین وخیر الفاصلین .
والجدیر بالذکر أنّ کثیراً من التفاسیر ذکرت هذه الروایة عن الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله)وهی أنّه(صلى الله علیه وآله) عندما کان یکمل هذه الآیات کان یقول : «بلى وأنا على ذلک من الشاهدین» .
هذا الحدیث هو دلیل على التفسیر الذی ذکرناه سابق (تأمل جیّداً) .