وقد فصّل شیخنا الأعظم الأنصاری(رحمه الله) فیه بین ما إذا کان الدلیل علیه من الأخبار أو العقل، وقال: إنّ عدّ الاستصحاب من الأحکام الظاهریة الثابتة للشیء بوصف کونه مشکوک الحکم نظیر أصل البراءة وقاعدة الاشتغال مبنى على استفادته من الأخبار، وأمّا بناءً على کونه من أحکام العقل یعنی به ما استقرّ علیه بناء العقلاء فهو دلیل ظنّی اجتهادی نظیر القیاس والاستقراء على القول بهما، وحیث إنّ المختار عندنا هو الأوّل ذکرناه فی الاُصول العملیّة المقرّرة للموضوعات بوصف کونها مشکوکة الحکم، لکن ظاهر کلمات الأکثر کالشیخ والسیّدین والفاضلین والشهیدین وصاحب المعالم کونه حکماً عقلیّاً، ولذا لم یتمسّک أحد هؤلاء فیه بخبر الأخبار (انتهى).
فیظهر من صریح کلامه أنّ الاستصحاب عنده من الاُصول إن کان الدلیل علیه هو الأخبار، ومن الأمارات إن کان الدلیل علیه هو العقل، وإنّ مختاره هو الأوّل، لکن لابدّ قبل تعیین ما هو الصحیح فی المسألة من بیان الفرق بین الأمارة والأصل العملی.
فنقول: المعروف فیه أنّ الأصل ما أخذ فی موضوعه الشکّ، وأنّ الأمارة ما یکون طریقاً إلى الواقع من دون أخذ الشکّ فی موضوعه.
وذکر بعض أنّ الأصل ما یکون الشکّ مأخوذاً فی موضوعه، وأنّ الأمارة ما یکون الشکّ مأخوذاً فی مورده.
والحقّ هو أنّ الشکّ مأخوذ فی موضوع کلّ من الأصل والأمارة من دون فرق بین الموضوع والمورد، والشاهد علیه قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، الوارد فی حجّیة الرجوع إلى أهل الخبرة، حیث إنّ «لا تعلمون» یساوق معنى الشکّ، ولا کلام فی أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة من الأمارات، بل لا معنى لنفی الشکّ عن موضوع الأمارات فإنّها على کلّ حال واردة فی ظرف الشکّ ومقیّدة به، سواء ورد التصریح به فی العبارة أو لم یرد، والفرق بین المورد والموضوع لا معنى محصّل له.
بل الصحیح فی الفرق بینهما أنّ الأمارة ما تکشف عن الواقع فی الجملة، ولأجل ذلک جعلت لها الحجّیة عند الشرع أو العقلاء من أهل العرف فصار کشفها الناقص بمنزلة الکشف التامّ، وأمّا الأصل فلیس له کشف عن الواقع بل هو حکم جعل لمجرّد رفع الحیرة والتردید فی مقام العمل، سواء کان الدلیل علیه العقل أو النقل.
وإن شئت قلت: إنّ هنا موضوعاً وحکماً وعلّة للحکم، فالموضوع فی کلٍّ من الأمارات والاُصول هو الشکّ بالمعنى الأعمّ من الظنّ، کما أنّ الحکم فی کلیهما هو الحجّیة، ولکن العلّة فی الأمارات هى الکاشفیّة عن الواقع فی الجملة، بینما العلّة فی الاُصول هى مجرّد رفع الحیرة فی مقام العمل، فالفرق بینهما إنّما هو فی مقام علّة الحجّیة فحسب.
إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر أنّ التفصیل المزبور من الشیخ الأعظم(رحمه الله) فی غیره محلّه لأنّ للعقلاء أیضاً اُصولا وأمارات فإنّهم یجرّون البراءة مثلا فی الأحکام الجاریة بین الموالی وعبیدهم وبین الحکّام ورعایاهم والرؤساء والمرؤوسین، وفی الموضوعات فی الجرائم والمسائل الحقوقیّة، مع أنّه لا نزاع فی أنّ البراءة من الاُصول العملیّة، فمجرّد کون الدلیل بناء العقلاء لا یکون دلیلا على الأماریة بل یوافق کون المورد أصلا أو أمارة، فلابدّ إذن من ملاحظة کیفیة بناء العقلاء وخصوصیته حتّى یتبیّن أنّ نظرهم هل هو إلى جهة الکشف حتّى یکون المورد أمارة، أو إلى مجرّد رفع الحیرة حتّى یکون المورد من الاُصول؟ وسیأتی بیان هذا بالنسبة إلى الاستصحاب فانتظر.
بقی هنا شیء:
وهو أنّ المحقّق النائینی(رحمه الله) فرّق فی الاُصول العملیّة بین المحرزة منها وغیر المحرزة وقال: لیس معنى الأصل المحرز کونه طریقاً إلى المؤدّی، بل معناه هو البناء العملی على أحد طرفی الشکّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر، فالمجعول فی الأصل المحرز هو الجهة الثالثة من العلم الطریقی، وهى الحرکة والجری العملی نحو المعلوم، فالإحراز فی باب الاُصول المحرزة غیر الإحراز فی باب الأمارات، فإنّ الإحراز فی باب الأمارات هى إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل، وأمّا الإحراز فی باب الاُصول المحرزة فهو الإحراز العملی فی مقام تطبیق العمل على المؤدّی، فالفرق بین الإحرازین ممّا لا یکاد یخفى. وأمّا الاُصول غیر المحرزة فالمجعول فیها مجرّد التطبیق العملی على أحد طرفی الشکّ من دون البناء على أنّه هو الواقع، فهو لا یقتضی أزید من تنجیز الواقع عند المصادفة والمعذوریة عند المخالفة، وهو الذی کان یقتضیه العلم من الجهة الرابعة. (انتهى)(1).
أقول: هذا التقسیم ممّا لا محصّل له، لأنّ حجّیة الاستصحاب إمّا أن تکون ناشئة عن کشفه للواقع أو لا، فعلى الأوّل یکون أمارة لا أصلا، وعلى الثانی یکون أصلا لا أمارة، ولیس هنا شقّ ثالث، وما قد یقال من «أنّ الاستصحاب عرش الاُصول وفرش الأمارات» کلام شعری.
وأمّا ما أفاده(رحمه الله) من أنّ الإحراز فی باب الاُصول المحرزة غیر الإحراز فی باب الأمارات إلى آخر ما ذکره فهو أیضاً ممّا لا یرجع إلى محصّل، فإنّ الإحراز العملی تعبیر یوهم التناقض فإنّ الإحراز لا یکون فی مقام العمل، وإنّما الإحراز فی مقام العلم والظنّ، والموجود فی مقام العمل لیس إلاّ البناء على أحد الطرفین، فحینئذ لا فرق بین الاستصحاب وغیره من الاُصول بناءً على عدم کشفه عن الواقع.
وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز فسیأتی إن شاء الله تعالى من الأمارات وإن کانت متأخّرة عن أمارات اُخر، کما أنّ البیّنة مقدّمة على الید وإن کانت کلتاهما من الأمارات.
وما قد یقال من أنّ لازم ذلک کون مثبتات قاعدة الفراغ حجّة مع أنّ ظاهرهم عدم الالتزام به مدفوع بأنّ حجّیة مثبتات الأمارات مقیّدة بقیود خاصّة ستأتی الإشارة إلیها إن شاء الله عن قریب.