الأمر الأوّل: فی الجاهل المقصر

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
أنوار الاُصول(الجزء الثّالث)
الفحص فی الشبهات الموضوعیّةالأمر الثانی: فی کلام الفاضل التونی فی المقام

ثمّ إنّ هیهنا بحثاً لابدّ من طرحه فی المقام وإن کان بحثاً فقهیّاً بحتاً، وهو فی حکم من ترک الفحص مع کونه قادراً علیه، وهو یقع فی مقامین:

الأوّل: فی حکمه التکلیفی وإستحقاق العقاب وعدمه.

الثانی: فی حکمه الوضعی وصحّة العمل المأتی به وفساده.

أمّا المقام الأوّل: فالأقول فیه أربعة:

الأوّل: (وهو الأقوى والمشهور) أنّه یعاقب على ترک الواقع لا على ترک التعلّم.

الثانی: أنّه یعاقب على ترک التعلّم، وهو المحکی عن المحقق الاردبیلی(رحمه الله)وصاحب المدارک.

الثالث: أنّه یعاقب على ترک تحصیل العلم الموجب لترک الواقع، وهو المستفاد من کلمات المحقّق النائینی(رحمه الله).

الرابع: القول بالتفصیل بین التکالیف المطلقة والتکالیف المشروطة أو الموقتة، ففی الاُولى یعاقب على ترک الواقع، وفی الثانیة على ترک التعلّم، وهذا یستفاد من بعض کلمات المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی الکفایة وإن رجع عنه فی بعض تعلیقاته علیها.

أقول: لو خلّینا وظواهر الأدلّة فالحقّ مع المشهور، لأنّ ظاهرها طریقیّة وجوب التعلّم، ولا دلیل على کونه واجباً نفسیّاً، فالظاهر من قوله تعالى: (لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ) مثلا أو قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ)وجوب التفقّه لأجل الإنذار ثمّ الحذر والعمل، ووجوب السؤال لأجل التعلّم ثمّ العمل على وفقه أو عقد القلب علیه إذا کان فی اُصول الدین.

نعم، هیهنا إشکالات أوجبت الذهاب إلى الأقوال الثلاث الاُخر، وعمدتها أمران:

أحدهما: أنّ المفروض کون الجاهل عاجزاً عن العمل فی مقام الامتثال فلا معنى لأن یعاقب على ترک ما لم یکن مقدوراً له، نعم أنّه کان قادراً على التعلّم فیعاقب على ترکه.

ثانیهما: (بالنسبة إلى خصوص التکالیف المشروطة أو الموقتة) أنّ الواقع فی التکالیف المشروطة والموقتة لم ینجز على المکلّف کی یعاقب علیه، إذ لا وجوب قبل تحقّق الشرط وقبل الوقت حتّى تکون المقدّمة (وهى التفحّص والتعلّم) واجبة، وکذلک لا وجوب بعد تحقّق الشرط وبعد دخول الوقت أحیاناً لعدم القدرة علیه.

أمّا الجواب عن الأوّل: فهو إنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً ولو کان منافیاً له تکلیفاً، ففی ما نحن فیه فإن الواقع وإن کان مغفولا عنه حین المخالفة، وکان خارجاً عن تحت الإختیار، ولکنّه بالنهایة ینتهی إلى الاختیار، وهو ترک التعلّم عمداً حینما التفت إلى تکالیف فی الشریعة، کما هو الحال فی کلّ مسبّب تولیدی خارج عن تحت الاختیار إذا کان منتهیاً إلى أمر اختیاری، فإذا ألقى مثلا بنفسه من شاهق فرغم خروجه عن الاختیار بعد ذلک، فیهلک قهراً بلا اختیار عند سقوطه على الأرض، ولکن حیث کان الهلاک نتیجة الإلقاء الذی هو أمر اختیاری فیکون مصحّحاً للعقاب على ما لیس بالاختیار.

إن قلت: تکلیف العبد العاجز حین العجز بما یکون عاجزاً عنه تکلیف بما لا یطاق، وهو قبیح.

قلنا: لیس التکلیف هذا تکلیفاً بما لا یطاق لأنّه یکون مقدوراً له بالواسطة.

وإن شئت قلت: المعیار فی العقاب وعدمه هو صحّة إسناد الترک إلى اختیار المکلّف وعدمها والإسناد (ولو مع الواسطة) صادق صحیح فیما إذا کان سقوط التکلیف بسوء الاختیار.

وأمّا الإشکال الثانی فیمکن الجواب عنه بوجهین:

الوجه الأوّل: ما مرّ فی محلّه من إمکان وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها، ولا ینافی هذا کون وجوبها وجوباً ترشحیاً لأنّ المراد منه الترشّح بحسب الداعویة فی نفس المولى لا الترشّح تکویناً، والأوّل یحصل بمجرّد تصوّر المولى وجوب ذی المقدّمة فی المستقبل أیضاً، فهو یتصوّر مثلا وجوب الحجّ فی موسم الحجّ ویلاحظ أنّ المکلّف لا یقدر على الإتیان به لو لم یأت بمقدّماته فتترشّح من إرادته بالنسبة إلى الحجّ إرادة اُخرى بالنسبة إلى المقدّمات، وهذا أمر معقول ومتداول عند العقلاء فإذا تصوّر إنسان مجی صدیقه غداً فی داره فنفس هذا التصوّر یوجب حصول إرادته إیجاد مقدّمات الإستقبال من الآن.

الوجه الثانی: ما مرّ أیضاً کراراً من مسألة وجوب حفظ غرض المولى وأنّ العقل یحکم بأنّ أغراض المولى لیست بأقلّ من أغراض العبد فی الأهمیّة، فکما یلزم العبد نفسه بإتیان مقدّمات تحصیل أغراضه الشخصیّة لابدّ له أن یلزم نفسه بإتیان مقدّمات تحصیل أغراض مولاه ولو فی المستقبل وإن لم تحصل الإرادة والوجوب فعلا.

فمن هذین الطریقین وجبت فی الشریعة جمیع المقدّمات المفوّتة وإن لم یکن الأمر بذی المقدّمة فعلیّاً.

نعم، هیهنا طریقان آخران یمکن المناقشة فیهما:

أحدهما: أنّ الواجب المشروط یرجع إلى الواجب المعلّق الذی یکون الوجوب فیه فعلیاً والواجب استقبالیاً.

وفیه أوّلا: أنّه خلاف ظاهر أدلّة الواجبات المشروطة فإنّ ظاهرها أنّ الوجوب استقبالی.

وثانیاً: ما ذهب إلیه صاحب المدارک والمحقّق الأردبیلی(رحمه الله) من کون وجوب التعلّم وجوباً نفسیّاً.

وفیه أنّه خلاف الوجدان القطعی فإنّا نعلم علماً قطعیّاً بأنّ أمر المولى بالنسبة إلى التعلّم وإرادته له یکون من أجل ما یترتّب علیه من سائر التکالیف، فهو إرشادی محض لأنّ الحکم المولوی النفسی یحتاج إلى وجود مصلحة فی نفس الشیء، ومعلوم أنّه لا مصلحة فی نفس الفحص إلاّ حفظ مصلحة الواقع أو عدم الوقوع فی مفسدته بقدر الإمکان، ولا أقلّ من کونه مخالفاً لظواهر أدلّة وجوب تحصیل العلم.

إلى هنا ظهر الحال فی القول الأوّل والثانی.

أمّا القول الثالث: (وهو ما ذهب إلیه المحقّق النائینی(رحمه الله) من استحقاقه العقاب على ترک التعلّم والفحص عند مخالفة الواقع لا مطلقاً) فحاصل کلامه: إنّ وجوب التعلّم والفحص وجوب طریقی (خلافاً لما ذهب إلیه المحقّق الأردبیلی وصاحب المدارک(صلى الله علیه وسلم) من کونه وجوباً نفسیاً استقلالیاً) وعلیه تکون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب على ترک الفحص والتعلّم المؤدّی إلى مخالفة الواقع، وذلک لأنّ وجوبه لأجل حفظ الواقع وطریقیّة التعلّم والفحص إلى إدراک الواقع کوجوب الاحتیاط شرعاً فی بعض الشبهات البدویّة (کما فی باب الفروج والدماء بل الأموال) فالمطلوب بالذات هو الواقع، ومطلوبیّة الاحتیاط إنّما هى لأجل الوصول إلى الواقع وحصوله.

إن قلت: إذا کان الأمر کذلک فوجوبه یکون وجوباً غیریاً مقدّمیاً ومن قبیل المقدّمات المفوتة على القول بالواجب المعلّق، أو وجوباً عقلیاً على القول بعدم إمکانه، فلا یکون العقاب إلاّ على مخالفة الواقع لا على ترک التعلّم عند مخالفة الواقع.

قلنا: إنّ مناط وجوب التعلّم غیر مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصیلها فی المقدّمات المفوتة، ولا یقاس أحدهما بالآخر، فإنّ القدرة ممّا یتوقّف علیها فعل المأمور به خارجاً ومن المقدّمات الوجودیّة له، ولا یتمکّن المکلّف من فعل الواجب عند تفویت القدرة، فیتحقّق عصیان خطاب ذی المقدّمة بمجرّد ترک هذه المقدّمات الوجودیة، ویستحقّ التارک العقاب على تفویت الواجب من زمان ترک المقدّمة، إذ بترکها یفوت الواجب لا محالة، ویمتنع علیه بالاختیار ویصدق أنّه فات منه الواجب، وهذا بخلاف التعلّم والاحتیاط، فإنّه لا یتوقّف فعل الواجبات وترک المحرّمات علیهما فی الخارج، إذ لیس للعلم دخل فی القدرة لیکون حاله حال المقدّمة المفوتة، ولیس لهما دخل فی الملاک أیضاً، فلا یکون لإیجاب التعلّم والاحتیاط شائبة النفسیّة والاستقلالیّة، بل الغرض من إیجاب التعلّم مجرّد الوصول إلى الأحکام والعمل على طبقها، ومن إیجاب الاحتیاط التحرّز عن مخالفة الواقع، من دون أن یکون للتعلّم والاحتیاط جهة موجبة لحسنهما الذاتی المستتبع للخطاب المولوی النفسی، بل الخطاب المتعلّق بهما یکون لمحض الطریقیّة، ووجوبهما یکون للغیر لا نفسیاً ولا بالغیر.

فإن قلت: الوجوب للغیر لا ینافی الوجوب النفسی، فإنّ غالب الواجبات النفسیّة یکون وجوبها للغیر بناءً على تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد.

قلت: الغیر الذی یجب الشیء لأجله یختلف، فتارةً یکون هو ملاکات الأحکام التی اقتضت وجوب الشیء، واُخرى، یکون هو الخطابات الواقعیة، ففی الأوّل لا یدور وجوب الشیء مدار وجود الملاک، بل الملاک یکون حکمة لتشریع وجوب الشیء کاختلاط المیاه فی وجوب العدّة على النساء، وفی الثانی یدور وجوب الشیء مدار وجود الخطاب الواقعی، ویکون علّة للحکم لا حکمة للتشریع، کوجوب ذی المقدّمة بالنسبة إلى وجوب المقدّمة، والخطابات الواقعیة بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتیاط تکون کوجوب ذی المقدّمة علّة للحکم لا حکمة للتشریع، فوجوب التعلّم والاحتیاط یکون من هذه الجهة کوجوب المقدّمة، وإن کان یفترق من جهة اُخرى وهى: أنّ وجوب المقدّمة یترشّح من وجوب ذیها بخلاف وجوب التعلّم والاحتیاط، وبما ذکرنا یظهر ضعف ما ینسب إلى المدارک من کون العقاب على نفس ترک التعلّم، فإنّ المستتبع للعقاب إنّما هو ترک الواجب النفسی لا ترک الواجب الطریقی، ویتلو ذلک فی الضعف ما ینسب إلى المشهور من کون العقاب على ترک الواقع لا على ترک التعلّم، فإنّ العقاب على الواقع المجهول قبیح، وإیجاب التعلّم لا یخرجه عن الجهالة.

فالأقوى: أن یکون العقاب على ترک التعلّم المؤدّی إلى ترک الواقع لا على ترک التعلّم وإن لم یؤدّ إلى ذلک لینافی وجوبه الطریقی، ولا على ترک الواقع لینافی جهالته (انتهى)(1).

هذا ـ ولکن لا یخلو کلامه من إبهامات وإشکالات:

أوّلها: (بالنسبة إلى قوله: إنّ العلم لا دخل له فی القدرة حتّى یکون حاله حال المقدّمات المفوتة) إنّ للعلم دخلا فی القدرة لأنّه لا إشکال فی أنّه مع الجهل بمناسک الحجّ مثلا لا یکون قادراً على إتیانها ولو من طریق الاحتیاط لأنّ الاحتیاط أیضاً لابدّ فیه من وجود علم إجمالی بالتکلیف.

ثانیها: کون العلم طریقیّاً لا ینافی وجوبه النفسی لجواز أن تلاحظ الطریقیّة بعنوان الحکمة لا العلّة، نظیر وجوب انتباه المأمورین لإطفاء الحریق لنوبتهم فی تمام ساعات اللیل والنهار، الذی لا إشکال فی أنّه طریقی للإطفاء، ولکن حیث یکون طریقاً بنحو الحکمة فلا یسقط وجوب الانتباه والکون فی محلّ الإنتظار بعنوان واجب نفسی.

ثالثها: (وهو العمدة) أنّ الوجوب إمّا غیری أو نفسی و لا ثالث لهما، لأنّ الطریقیّة إمّا أن تکون من قبیل العلّة للحکم فترجع إلى الواجب الغیری، أو تکون من قبیل الحکمة فترجع إلى الواجب النفسی، وهناک تناقض یشاهد فی کلامه، حیث یقول تارةً: «والخطابات الواقعیة بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتیاط تکون کوجوب ذی المقدّمة علّة للحکم» واُخرى یقول: «إنّ وجوب المقدّمة یترشّح من وجوب ذیّها بخلاف وجوب التعلّم والاحتیاط» ولیت شعری کیف لا یترشّح وجوب التعلّم من الخطابات الواقعیة مع کونه معلولا لها؟ والمعلول یترشّح دائماً من علّته.

فتحصّل أنّ الصحیح هو ما ذهب إلیه المشهور من کون العقاب على ترک الواقع لکونه مقدوراً بالواسطة وهى تحصیل العلم، والامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

یبقى الإشکال بالنسبة إلى الواجبات المشروطة أو الموقتة، ولکنّه یرتفع بما مرّ من أنّ علّة الأحکام إنّما هى إرادة المولى التی تصدر منه بعد ملاحظة وجوب ذی المقدّمة فی محلّه وملاحظة عدم إمکان تحقّقه بدون إتیان المقدّمة من الآن.

هذا کلّه فی المقام الأوّل.

أمّا المقام الثانی: (وهو البحث فی الحکم الوضعی وصحّة العمل المأتی به وفساده) فلا إشکال فی صحّة العمل إذا أتى بالمأمور به على وجهه، أی واجداً لجمیع الشرائط والاجزاء وفاقداً لجمیع الموانع، ومن الشرائط قصد القربة فی العبادات التی یمکن تمشیه فیها إمّا لأجل الغفلة (کما یتصوّر فی العوام) أو رجاءً (کما فی الخواص)، ومنها قصد الإنشاء فی المعاملات فإنّه أیضاً یمکن تمشّیه من الجاهل بالحکم الشرعی لإمکان تعلّق القصد بإنشاء المسبّبات الممضاة عند العقلاء وإن لم تکن شرعیة، ولذلک حکموا بصحّة بیع الغاصب لنفسه فضولة.

فالمدار کلّ المدار فی صحّة العمل وفساده مطابقة المأتی به للمأمور به الواقعی لعدم موضوعیّة للاجتهاد أو التقلید بل إنّهما طریقان إلى الواقع محضاً.

ثمّ إنّه تارةً یحصل للمکلّف العلم بالمطابقة فلا إشکال حینئذ فی صحّة العمل المأتی به.

واُخرى یقع المأتی به مطابقاً لاجتهاده الفعلی أو تقلیده الفعلی فلا إشکال أیضاً فی الصحّة.

وثالثة لا یقع مطابقاً مع اجتهاده الفعلی أو تقلیده الفعلی بل یقع موافقاً لمن یجب علیه تقلیده عند صدور العمل منه، ففی هذه الصورة یکون العمل باطلا ویجب علیه الإعادة أو القضاء.

إن قلت: کیف تکون فتوى مرجعه الفعلی حجّة بالنسبة إلیه ولا تکون فتوى المرجع السابق کذلک؟

قلنا: أوّلا: أنّ فتوى المجتهد الفعلی تکون کاشفةً عن حکم الله الواقعی المطلق غیر المقیّد بزمان خاصّ، ومجرّد مطابقته لفتوى المجتهد السابق غیر کاف لصحّة عمله لأنّ المفروض عدم استناده إلیه.

وإن شئت قلت: إنّ فتوى المجتهد السابق کانت حجّة بالنسبة إلى من أسند عمله إلیها، وأمّا من لم یکن عمله مستنداً إلیها فلا حجّة له حتّى یعتذر بها عند الله لو خالف الواقع، لأنّه لم یسند عمله إلى فتوى المجتهد السابق حتّى تکون تلک حجّة له، ولم یقع مطابقاً مع فتوى المجتهد الفعلی حتّى تکون هذه حجّة له.

بقی هنا شیء:

وهو أنّ المشهور بین الفقهاء صحّة عمل الجاهل المقصّر مع استحقاقه للعقوبة فی موردین:

أحدهما: الإتمام فی موضع القصر.

والثانی: کلّ من الجهر والإخفات فی موضع الآخر.

حیث یرد علیه أوّلا: أنّه کیف یمکن الحکم بصحّة العبادة بدون الأمر؟

وثانیاً: کیف یحکم بإستحقاق العقوبة مع فرض صحّة العمل؟

وثالثاً: کیف یصحّ الحکم باستحقاق العقوبة مع أنّ المکلّف متمکّن من الإعادة إلاّ أنّ الشارع سلب عنه القدرة علیها بسبب حکمه بالإجزاء والصحّة بناءً على عدم وجوب الإعادة حتّى فی الوقت إذا علم به، ففوت المأمور به ناش عن حکمه بالصحّة، لا عن تقصیر المکلّف.

وقد ذکر لدفع هذه الإشکالات وجوه عدیدة:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراسانی(رحمه الله) وحاصله: أنّ الحکم بالصحّة هنا یکون من باب تعدّد المطلوب ففی مورد الجهر والإخفات یکون أصل الصّلاة وذاتها مطلوبة وإتیانها بالجهر أو الإخفات مطلوباً آخر، وفی مورد الإتمام فی موضع القصر تکون الصّلاة التامّة مشتملة على مصلحة لازمة الاستیفاء بحیث لو لم تجب صلاة القصر کانت الصّلاة التامّة مأموراً بها، لکن لمّا کانت مصلحة صلاة القصر أهمّ صارت هى الواجبة فعلا، وحینئذ تکون صحّة الصّلاة المأتی بها مستندة إلى المصلحة لا إلى الأمر الفعلی حتّى یقال بأنّها لیست مأموراً بها، (وأمّا استحقاقه للعقوبة مع فرض الصحّة فلعصیانه الأمر بالأهمّ أو المطلوب الأعلى).

وأمّا عدم وجوب الإعادة فلأنّها لا فائدة فیها إذ لا مصلحة تقتضی الإعادة، حیث إنّ المصلحة التامّة الکامنة فی صلاة القصر مثلا قد فاتت بسبب الإتیان بالصلاة التامّة، لمکان التضادّ بین المصلحتین، وهذا نظیر ما إذا أمر المولى عبده بإطعام الفقیر بالخبز من الحنطة فأطعمه بالخبز من الشعیر فإنّ مصلحة الإطعام بالخبز من الحنطة قد فاتت بإطعامه الخبز من الشعیر، ویمتنع تدارکها لعدم بقاء الموضوع.

لا یقال: فیلزم الحکم بصحّة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر أیضاً مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب.

فإنّه یقال: إنّه لو کان الدلیل اشتمال المأتی به على المصلحة اطلاق یشمل صورتی العلم بوجوب القصر والجهل به لقلنا بصحّة التمام وإجزائه عن القصر مطلقاً، لکن الأمر لیس کذلک، لأنّه لم یدلّ دلیل على کون التمام ذا مصلحة فی السفر إلاّ فی حال الجهل، ولا بُعد أصلا فی هذا الاختلاف، فإنّ لحالات المکلّف دخلا فی المصالح والمفاسد الداعیة إلى تشریع الأحکام.

إن قلت: کیف یتمشّى من المکلّف قصد القربة مع عدم کون التمام مأموراً به؟

قلنا: لا حاجة فی تحقّق قصد القربة إلى قصد الأمر بل یکفی قصد الملاک والمصلحة، وقد مرّ کون الصّلاة التامّة أیضاً محبوبة وذات مصلحة).

إن قلت: على هذا یکون کلّ من التمام والإخفات مثلا سبباً لتفویت الواجب الفعلی، وما هو السبب لتفویت الواجب فعلا حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا کلام.

قلت: إنّ التمام مثلا لیس سبباً لترک الواجب الفعلی وهو القصر، بل التمام والقصر ضدّان، وهما فی رتبة واحدة، فعدم کلّ منهما یکون أیضاً فی رتبة وجود الآخر لا فی طوله حتّى یصیر عدم أحدهما مقدّمة ومن اجزاء علّة وجود الآخر فلا علّیة بینهما، بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر لأنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان لیس بینهما توقّف أصلا. (انتهى).

وقد أورد علیه المحقّق النائینی(رحمه الله) بما لا یکون وارداً فأورد علیه:

أوّلا: بما حاصله: أنّ الخصوصیّة الزائدة (کخصوصیّة القصر أو خصوصیّة الإخفات) إن کان لها دخل فی حصول الغرض من الواجب فلا یعقل سقوطه بالفاقد لها، وإن لم یکن لها دخل فاللازم هو الحکم بالتخییر بین القصر والتمام مثلا، غایته أن یکون القصر أفضل فردی التخییر لاشتماله على الخصوصیّة الزائدة ولا وجه لاستحقاق العقاب(2).

وقد ظهرت المناقشة فیه والجواب عنه ممّا سبق من کون المطلوب متعدّداً وأنّ الصّلاة التامّة مشتملة على مقدار من المصلحة یوجب تفویت المقدار الزائد القائم بالقصر وخروجه عن قابلیة الاستیفاء والتدارک، وهذا لیس بعزیز، ومجرّد القدرة على فعل الصّلاة قصراً فی الخارج غیر کاف بعد فرض فناء موضوع التدارک.

وثانیاً: «بأنّ الظاهر من أدلّة الباب کون المأتی به فی حال الجهل مأموراً به فراجع أدلّة الباب»(3).

ویرد علیه: أنّ الدلیل على صحّة المأتی به فی المقام إنّما هو الإجماع، وهو یدلّ على صحّة العمل إجمالا، ولا یستفاد منه کونه مأموراً به.

هذا کلّه هو الوجه الأوّل من الوجوه المذکورة فی کلمات القوم لدفع الإشکالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الثانی: ما أجاب به الشیخ الأعظم الأنصاری(رحمه الله) وهو عدم کون المأتی به مأموراً به بل أنّه یوجب سقوط الأمر بالواقع المتروک، فلا یجب علیه الإعادة أو القضاء لسقوط الأمر بالواقع حینئذ، وأمّا العقاب فلعدم إتیانه للمأمور به على الفرض.

أقول: الظاهر أنّ هذا الوجه فی الحقیقة یرجع إلى الوجه الأوّل (بل الظاهر أنّ المحقّق الخراسانی(رحمه الله) أخذه منه) لأنّه لا وجه لسقوط الأمر بالواقع إلاّ من ناحیة تعدّد المطلوب.

الوجه الثالث: ما أجاب به کاشف الغطاء(رحمه الله) وهو الالتزام بأمرین على نحو الترتّب بمعنى أنّ الأمر حال الجهل أوّلا تعلّق بالصلاة الواجدة للخصوصیّة الزائدة، وعند عصیانه وفی طوله تعلّق بالفاقد لها، فقهراً إذا عصى الأمر الأوّل لجهله المستند إلى ترک التعلّم أو الفحص یعدّ عاصیاً لمخالفة الأمر الأهمّ فیوجب استحقاق العقاب، ومطیعاً للأمر الثانی فیکون عمله صحیحاً، ولا تجب علیه الإعادة أو القضاء.

أقول: الصحیح تمامیّة هذا الوجه أیضاً وإن أورد علیه إشکالات أربع من ناحیة المحقّق الخراسانی والشیخ الأعظم والمحقّق النائینی رضوان الله علیهم:

أوّلها: ما أورده المحقّق الخراسانی(رحمه الله) من ناحیة المبنى، وهو إنکاره صحّة الترتّب، ولکن قد مرّ فی محلّه أنّ الحقّ صحّته.

ثانیها: ما أورده الشیخ الأعظم(رحمه الله) من أنّه لا موضوع للترتّب فی المقام لأنّ الترتّب عبارة عن اشتراط الأمر بالمهمّ بعصیان الأهمّ، ولا یمکن حصول هذا الشرط فی الوقت لأنّه ما دام وقت الأهمّ باق لا معنى لتحقّق عصیانه.

وفیه: أنّه لا یشترط فی باب الترتّب کون العصیان مأخوذاً بعنوان الشرط المقارن بل یمکن أخذه بنحو الشرط المتأخّر، أی إذا کان بانیاً على العصیان لأمر القصر إلى آخر وقت الصّلاة کان مأموراً بالتمام بل یمکن إرجاعه إلى الشرط المقارن لأنّ بناءه على العصیان إلى آخر الوقت فعلیّ.

ثالثها: ما أورده المحقّق النائینی(رحمه الله) من «أنّه یعتبر فی الخطاب الترتّبی أن یکون خطاب المهمّ مشروطاً بعصیان خطاب الأهمّ، وفی المقام لا یمکن ذلک، إذ لا یعقل أن یخاطب التارک للقصر بعنوان العاصی فإنّه لا یلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحکم»(4).

ویمکن الجواب عنه: بکفایة ثبوت الخطاب فی متن الواقع وعلم الله تعالى، والمفروض أنّ المکلّف قصد الأمر الواقعی ولا حاجة إلى أزید من ذلک فی صحّة صلاته.

رابعها: ما ذکره المحقّق النائینی(رحمه الله) أیضاً وهو «أنّ المقام أجنبیّ عن الخطاب الترتّبی لأنّه یعتبر فیه أن یکون کلّ من متعلّق الخطابین واجداً لتمام ما هو الملاک ومناط الحکم بلا قصور لأحدهما فی ذلک، ویکون المانع عن تعلّق الأمر بکلّ منهما هو عدم القدرة عن الجمع بین المتعلّقین فی الامتثال، لما بین المتعلّقین من التضادّ والمقام لا یکون من هذا القبیل»(5).

ویمکن الجواب عنه: بأنّه غیر قادر على الجمع بینهما بحسب الواقع، لوجود التضادّ بینهما شرعاً، وإن کان قادراً بحسب الظاهر على الإتیان بکلّ منهما.

هذا کلّه هو الوجه الثالث من الوجوه المذکورة فی کلمات القوم لدفع الإشکالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الرابع: ما اختاره المحقّق النائینی(رحمه الله) لدفع الإشکالات، وهو: أنّ الإشکال إنّما کان مبنیّاً على تسلیم مقدّمتین:

الاُولى: أن یکون العمل المأتی به حال الجهل مأموراً به، کما یستکشف ذلک من أدلّة صحّة العمل والإجزاء ولو بعد زوال صفة الجهل وبقاء الوقت.

الثانیة: استحقاق الجاهل العامل للعقاب وأنّ استحقاقه له لأجل تفویت ما کان واجباً علیه فی حال الجهل، ومع المنع عن إحدى المقدّمتین یرتفع الإشکال، والمقدّمة الاُولى مسلّمة لا سبیل للمنع عنها، إذ لا ینبغی الإشکال فی استکشاف تعلّق الأمر بالعمل من أدلّة الصحّة، وأمّا المقدّمة الثانیة فللمنع عنها مجال، إذ استحقاق العقاب وعدمه لیس من المسائل الفقهیّة الشرعیّة التی ینعقد علیه الإجماع (بل إنّه حکم العقل) ولیس فی أدلّة الباب ما یدلّ على العقاب مع أنّه لو سلّم انعقاد الإجماع على إستحقاق العقاب ففی اعتبار مثل هذا الإجماع (لعلّ نظره إلى کونه مدرکیّاً وأنّ مبانی المجمعین مختلفة) إشکال.

ثمّ إنّه ـ مع إعترافه بتمامیّة هذا الوجه حیث إنّ مبنى الإشکال کان على تسلیم المقدّمتین ـ تخلّص عنه بعد فرض صحّتهما بوجه آخر ضمن ثلاث مسائل: الاُولى: مسألة الجهر فی موضع الإخفات وبالعکس، والثانیة: مسألة القصر فی موضع الإتمام، والثالثة مسألة الإتمام فی موضع القصر، التی ینبغی حذفها فی المقام لکونها شاذّة ولم یقل بها إلاّ قلیل فتبقى المسألتان الأوّلیان.

أمّا المسألة الاُولى فقال فیها: یمکن أن یکون الواجب على عامّة المکلّفین هو القدر المشترک بین الجهل والإخفات، سواء فی ذلک العالم والجاهل، ویکون الجهر والإخفات فی موارد وجوبهما واجبین مستقلّین نفسیین فی الصّلاة، وتکون الصّلاة ظرفاً لامتثالهما، ولکن وجوبهما الاستقلالی عند العلم به ینقلب إلى الوجوب الغیری ویصیر قیداً للصلاة ولا مانع من أن تکون صفة العلم موجبة لتبدّل صفة الوجوب من النفسی إلى الغیری ومن الاستقلالی إلى القیدی، فیرتفع الإشکال بحذافیره لأنّ العقاب إنّما یکون على ترک الواجب النفسی (وهو الجهر أو الإخفات) فی حال الجهل، مع کون المأتی به هو المأمور به فی ذلک الحال لأنّ المفروض أنّ المأمور به هو القدر المشترک.

إن قلت: فیلزم منه صحّة العمل فی حال العلم أیضاً. قلنا: لا یلزم ذلک لما عرفت أنّ بالعلم یتبدّل الاستقلالی النفسی إلى الغیری القیدی.

وأمّا المسألة الثانیة: فتفصّى عن الإشکال فیها: بأنّ الواجب على المسافر الجاهل بالحکم خصوص الرکعتین الأوّلیین لکن لا بشرط عدم الزیادة، بل لا بشرط عن الزیادة، فلا تکون الأخیرتان مانعتین عن صحّة الصّلاة، إلاّ أنّ العلم بالحکم یوجب الانقلاب ویصیر الواجب على المسافر خصوص الرکعتین الأوّلیین بشرط عدم الزیادة فتصحّ الصّلاة التامّة عند الجهل وتفسد عند العلم.

وتفصّى عن إشکال العقاب بأنّه یمکن أن یکون العقاب لأجل ترک السلام بعد التشهّد الثانی، بأن یکون أصل التسلیم فی الصّلاة جزءً لها، ولکن وقوعه عقیب التشهّد الثانی واجب نفسی، فیکون المتمّم فی موضع القصر قد أخلّ بهذا الواجب النفسی، فیعاقب علیه مع صحّة صلاته.

ثمّ إعترف بأنّ هذا الوجه لا تساعد علیه کلمات الأصحاب، بل لا ینطبق علیه بعض الفروع المتسالم علیها بینهم، فإنّ الظاهر تسالمهم على أنّ الجاهل لو نوى التمام وأتمّ الصّلاة بهذا العنوان صحّت صلاته بعنوان ما نواها، وهذا لا یمکن إلاّ أن یکون المأمور به فی هذا الحال هو الإتمام، إذ لو کان المأمور به هو خصوص الرکعتین الأوّلیین (ولولا بشرط عن الزیادة) کان اللازم هو فساد صلاة من نوى التمام لعدم نیّة المأمور به(6) (انتهى ما أردناه من کلامه).

أقول: یرد علیه:

أوّلا: أنّ طریقه هذا مملوّ بالتکلّفات الشدیدة ولا یساعد علیه الوجدان الفقهی أصلا.

ثانیاً: (بالنسبة إلى قوله لا یجوز الاستدلال بالإجماع فی مثل هذه المسألة) أنّ لازم انعقاد الإجماع على العقاب هو الإجماع على وجود حکم شرعی فی البین ترک امتثاله، أی أنّ الإجماع على العقاب مستلزم لوجود تکلیف شرعی فی البین أوجبت مخالفته العقاب.

ثالثاً: أنّ لازم کلامه تبدّل الواجب المعلوم بعد العلم به إلى واجب آخر حیث تبدّل، فیتبدّل وجوب الرکعتین الأوّلیین لا بشرط الزیادة بعد العلم به إلى وجوبهما بشرط عدم الزیادة، وهذا أمر محال لاستلزامه الدور فإنّ الوجوب فرع العلم به، والعلم به فرع تحقّق الوجوب.


1. راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 281 ـ 285، طبع جماعة المدرّسین.
2. راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 292، طبع جماعة المدرّسین.
3. المصدر السابق.
4. فوائد الاُصول: ج 4، ص 293، طبع جماعة المدرّسین.
5. فوائد الأصول: ج 4، ص 292، طبع جماعة المدرّسین.
6. راجع فوائد الاُصول: ج4 ص294 ـ 299، طبع جماعة المدرّسین.

 

الفحص فی الشبهات الموضوعیّةالأمر الثانی: فی کلام الفاضل التونی فی المقام
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma