التنبیه الأوّل: الأحکام الوضعیّة

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
أنوار الاُصول(الجزء الثّالث)
تنبیهات الاستصحابوهو ما یترتّب على هذا البحث من الثمرة فی باب الاستصحاب

وقد بحث عنها الأعلام ضمن بیان الأقوال فی الاستصحاب وبمناسبة نقل ما فصّله الفاضل التونی من جریان الاستصحاب فی الأحکام التکلیفیة دون الوضعیّة، ولکن الصحیح المناسب أن یبحث أوّلا عن ماهیّة تلک الأحکام حتّى یظهر حال استصحابها، وهذا هو موضوع البحث فی هذا التنبیه.

وکیف کان لابدّ قبل الورود فی أصل البحث من تقدیم اُمور:

أحدها: أنّ الأحکام الشرعیّة على قسمین: تکلیفیّة ووضعیّة، فالتکلیفیّة ما یدور مدار الأحکام الخمسة، وقسّمها القدماء من الأصحاب على قسمین: اقتضائیّة وتخییریّة، والمراد من الاقتضائیّة ما یکون له اقتضاء للفعل أو الترک، فیشمل الوجوب والحرمة والاستحباب والکراهة، ومن التخییریّة ما لیس له اقتضاء ورجحان من حیث الفعل والترک، وهى المباحات.

وأمّا الوضعیّة، فهى کلّ مالا یکون من الأحکام الخمسة ولا تحدّد عمل المکلّف من حیث الاقتضاء والتخییر بل یمسّ أفعال المکلّفین بالواسطة (کالحکم بأنّ «الماء طاهر» أو «الدم نجس») أو بدون الواسطة (کالملکیة والزوجیة والضمان) ولهذا لا یصحّ حصرها فی عدد خاصّ کما فعل بعضهم.

ثانیها: فی أنّ حقیقة الأحکام التکلیفیّة ماذا؟

والمعروف الجاری على ألسنة المحقّقین أنّ حقیقتها إنشاء البعث أو الزجر أو الترخیص الناشىء عن إرادة المولى أو کراهته أو ترخیصه فی نفسه، وهذا ممّا یتّضح لنا بالرجوع إلى الوجدان.

ولکن ذهب بعض أعاظم العصر قدّس الله نفسه إلى أنّ الحکم التکلیفی اعتبار نفسانی من المولى یبرز بالإنشاء، وقال: «هذا الاعتبار النفسانی تارةً یکون بنحو الثبوت، أی المولى یثبت شیئاً فی ذمّة العبد ویجعله دَیناً علیه، کما ورد فی بعض الروایات أنّ دَین الله أحقّ أن یقضى، فیعبّر عنه بالوجوب، لکون الوجوب بمعنى الثبوت، واُخرى یکون بنحو الحرمان، وإنّ المولى یحرم العبد عن شیء ویسدّ علیه سبیله، کما یقال فی بعض المقامات: أنّ الله تعالى یجعل لنا سبیلا إلى الشیء الفلانی فیعبّر عنه بالحرمة، فإنّ الحرمة هو الحرمان عن الشیء، کما ورد أنّ الجنّة محرّمة على آکل الربا مثلا فإنّ المراد منه المحرومیّة عن الجنّة، لا الحرمة التکلیفیّة، وثالثة یکون بنحو الترخیص وهو الاباحة بالمعنى الأعمّ، فإنّه تارةً یکون الفعل راجحاً على الترک واُخرى بالعکس، وثالثة لا رجحان لأحدهما على الآخر، وهذا الثالث هو الإباحة بالمعنى الأخصّ»(1).

أقول: یرد علیه أوّلا: أنّه خلاف الوجدان، إذ إنّ الوجدان حاکم بأنّ البعث الإنشائی یکون کالبعث التکوینی، فکما أنّ فی الثانی لا یوضع على ذمّة الإنسان شیء بعنوان الدین، کذلک فی الأوّل، فلا یعتبر المولى بقوله «افعل» دَیناً على عهدة العبد، بل أنّه مجرّد إنشاء بعث فی نفسه، یحاذی البعث التکوینی الخارج بدفع المکلّف بیده نحو العمل.

ثانیاً: أنّ کلامه لا یجری فی الاستحباب لأنّه لا معنى للدین الإستحبابی، مع أنّ الاستحباب یکون على وزان الوجوب، والفرق بینهما من ناحیة شدّة الطلب والبعث وضعفه.

ومن هنا یظهر أنّ ما ذکره من بعض الشواهد نظیر ما ورد فی بعض الروایات «إنّ دین الله أحقّ أن یقضى» تعبیرات کنائیة، ومن باب تشبیه الحکم بالدَین، والقرینة علیه ما مرّ من قضاء الوجدان بما ذکرناه.

بقی هنا شیء:

وهو أنّه قد یبدو أنّ الاباحة لیست حکماً من الأحکام، أی أنّها من قبیل «لا إقتضاء» و «لا حکم» فیکفی فیها عدم صدور بعث أو زجر من جانب المولى، وعلیه تکون الأحکام أربعة فما اشتهر فی الألسن من أنّ الأحکام خمسة، شهرة لا أصل لها.

ولکن عند الدقّة یمکن الفرق بین الأحکام الشخصیّة والقانونیّة، فإنّ المتداول بین العقلاء من أهل العرف جعل الترخیص فی کثیر من الموارد بعنوان قانون من القوانین، لأنّا إذا راجعنا إلى مجالس التقنین العقلائی نلاحظ أنّهم فی کثیر من الموارد ینشئون الجواز والترخیص، کما ینشئون الوجوب أو الحرمة فینشئون مثلا إنّ ورود البضاعة الفلانیّة مباح من هذا التاریخ، ولیس ذلک مجرّد دفع المنع السابق، بل إنّه إنشاء جدید وحکم وجودی فی مقابل حکم وجودی سابق، لا فسخه ونسخه فقط.

ثالثها: فی أنّ الوجود على قسمین: وجود خارجی وهو واضح، ووجود ذهنی، وهو على قسمین أیضاً: ما یکون له ما بحذاء خارجی، وما لیس له ما بحذاء خارجی، بل هو من مخترعات الذهن، والمخترعات الذهنیّة أیضاً على أقسام ثلاثة:

أحدها: الاُمور الانتزاعیّة، وهى ما یکون له منشأ إنتزاع فی الخارج، کسببیة النار للإحتراق، فإنّ الذهن ینتزعها من مقایسة النار بالإحراق فی الخارج قهراً، من دون دخل لإرادة الإنسان واعتباره وجعله.

ثانیها: الاعتباریات، وة ما لیس له منشأ إنتزاع فی الخارج، بل هو مجرّد اعتبار للعقلاء کالملکیّة التی لا یوجب اعتبارها أو عدم اعتبارها زیادة أو نقصاناً فی الخارج، بل هى تابعة لاعتبار المعتبر وباقیة ببقائه.

إن قلت: ما هى حقیقة الاعتبار؟

قلنا: أنّها عبارة عن سلسلة من الفروض والتشبیهات التی یترتّب علیها آثار عقلائیّة، لتوافقهم علیه، فهى فروض ذات آثار عقلائیّة، فإنّهم مثلا یلاحظون الملکیّة التکوینیّة الخارجیّة التی أتمّها وأکملها مالکیّة ذات الباری تعالى لعالم الوجود (وهى نفس سلطته واحاطته على العالم) ومن مصادیقها مالکیة الإنسان على أعضائه وصور ذهنه، ومالکیته على أفعاله بواسطة الأعضاء، فإنّ جمیع ذلک سلطات تکوینیة خارجیّة.

ثمّ إنّهم یفرضون فی عالم الذهن أمراً یشبه ذلک ویرون لزید مثلا سلطة على الدار الکذائیة، کسلطته على أعضائه، وهکذا فی الزوجیة فیلاحظون زوجیة مصراعی الباب فی الخارج مثلا، ویعتبرون مثلها للزوج والزوجة إلى غیر ذلک من أشباهها، فهى بجمیعها کعکوس ومرایا لما فی الخارج، وصور ذهنیة تشابهها.

ثالثها: الوهمیّات، وهى عبارة عن أوهام الناس وتخیّلاتهم التی لا قیمة لها عند العقلاء، ولیست مبدأً للآثار عندهم.

إذا عرفت هذه المقدّمات الثلاثة فاعلم أنّ الأقوال فی حقیقة الأحکام الوضعیّة ثلاثة:

القول الأوّل: ما عبّر شیخنا الأعظم الأنصاری(رحمه الله) عنه بما نصّه: «المشهور کما فی شرح الزبدة بل الذی استقرّ علیه رأی المحقّقین کما فی شرح الوافیة للسیّد صدر الدین: إنّ الخطاب الوضعی مرجعه إلى الخطاب الشرعی، وأنّ کون الشیء بسبباً لواجب هو الحکم بوجوب ذلک الواجب عند حصول ذلک الشیء، فمعنى قولنا إتلاف الصبی سبب لضمانه أنّه یجب علیه غرامة المثل أو القیمة إذا اجتمع فیه شرائط التکلیف من البلوغ والعقل والیسار وغیرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: «أغرم ما أتلفته فی حال صغرک» إنتزع من هذا الخطاب معنى یعبّر عنه بسببیّة الإتلاف للضمان».

وحاصله: أنّ الأحکام الوضعیّة کلّها اُمور انتزاعیة من الأحکام التکلیفیة، لیست لها جعل مستقلّ.

القول الثانی: ما هو على ألسنة جماعة (بتعبیر الشیخ الأعظم(رحمه الله)) وهو أنّ الأحکام الوضعیّة اُمور اعتباریّة قابلة للجعل مستقلا، ففی قوله تعالى: (أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ)یکون للشارع جعلان: أحدهما وجوب الصّلاة، الثانی سببیة الدلوک للوجوب.

القول الثالث: القول بالتفصیل بین الأحکام الوضعیّة، فقسم منها من الاُمور التکوینیّة، ولیس قابلا للجعل أصلا لا تبعاً ولا مستقلا، وقسم آخر من الاُمور الاعتباریّة وقابل للجعل مستقلا، وقسم ثالث من الاُمور الإنتزاعیة یتعلّق بها الجعل تبعاً.

وینبغی هنا قبل بیان أدلّة الأقوال أن نشیر إلى أنّ الاُمور الانتزاعیّة على ثلاثة أقسام باعتبار منشأ انتزاعها، فقسم منها ینتزع من مقام الذات، کسببیّة النار للإحتراق، وقسم آخر ینتزع من مقام الصفات، کتقدّم زید على عمرو فی المسیر، فإنّ وصف التقدّم أو التأخّر ینتزع من مقایسة محلّ کلّ واحد بمحلّ الآخر، ولذا یتغیّر الحال مع بقاء الذات، وقسم ثالث ینتزع من الاُمور الاعتباریّة کشرطیّة الاستطاعة لوجوب الحجّ التی ینتزعها الذهن من وجوب الحجّ عند الاستطاعة فی قوله تعالى: (للهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلا).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ الشیخ الأعظم(رحمه الله) للقول الأوّل بالحوالة على الوجدان وبرهان اللغویّة، فقال: «إذا قال المولى لعبده: «أکرم زیداً إن جاءک» فهل یجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائین وجعل أمرین: أحدهما إکرام زید عند مجیئه، والآخر کون مجیئه سبباً لوجوب إکرامه أو أنّ الثانی مفهوم منتزع من الأوّل، لا یحتاج إلى جعل مغایر لجعله، ولا إلى بیان مخالف لبیانه؟ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببیة والمانعیّة فی المثالین اعتباران منتزعان، کالمسببیّة والمشروطیّة والممنوعیّة».

ثمّ أتى ببیان ثالث وحاصله: أنّه قد یکون تعلّق الجعل الاستقلالی بالاُمور الوضعیّة محالا، لأنّ جعل ما لیس بسبب سبباً محال، فإنّ دلوک الشمس إمّا أن یکون ذا مصلحة تدعو المولى إلى إیجاب الصّلاة عنده، وحینئذ لا حاجة إلى وضعه، أو لا یکون له مصلحة، وحینئذ لا یمکن جعله ذا مصلحة بالجعل التشریعی هذا بالنسبة إلى السببیّة والشرطیّة والمانعیّة.

ثمّ قال: وهکذا الصحّة والفساد، لأنّهما أمران تکوینیان، فإنّ الصحّة بمعنى المطابقة مع المأمور به، والفساد بمعنى عدم المطابقة، ولا إشکال فی أنّهما أمران تکوینیان، هذا فی العبادات، أمّا فی المعاملات فهما أمران منتزعان من جواز التصرّف وعدم جواز التصرّف.

ثمّ قال: وأمّا الزوجیّة والملکیّة والطهارة فلا تخلو من أحد الوجهین، فإمّا أنّها اُمور واقعیة کشف عنها الشارع أو اُمور انتزاعیّة تنتزع من عدّة من الأحکام التکلیفیة. (انتهى ملخّص کلامه).

أقول: الحقّ فی المسألة التفصیل بین الأحکام الوضعیّة وتفریق بعضها عن بعض، أی البحث عن کلّ نوع منها على حدّه، فنقول:

1 ـ من الأحکام الوضعیّة: السببیّة والشرطیّة والمانعیّة، والصحیح أنّها على قسمین: السببیّة أو الشرطیّة أو المانعیّة للتکلیف کسببیة الدلوک لوجوب الصّلاة، وشرطیّة

الاستطاعة لوجوب الحجّ، ومانعیة الحیض لوجوب الصّلاة، والقسم الثانی ما یکون سبباً أو شرطاً أو مانعاً بالإضافة إلى المکلّف به، کشرطیّة الوضوء للصلاة، ومانعیّة لبس ما لا یؤکل لحمه عن الصّلاة.

أمّا القسم الأوّل فقد یقال: إنّها من الاُمور التکوینیّة، ولا تقبل الجعل والاعتبار مطلقاً کما یستفاد من بعض کلمات الشیخ الأعظم (وقد عرفته آنفاً) والمحقّق الخراسانی(رحمه الله)، وتبعهما جماعة آخرون، وقال بعض أنّها منتزعة من الحکم التکلیفی، کما أنّ مقتضى اطلاق کلام جماعة کونها مستقلّة فی الجعل.

ولکن الظاهر وقوع خلط بین التکوینیة من هذه الاُمور والتشریعیّة منها، أی بین السببیّة التکوینیّة مثلا والسببیّة التشریعیّة (وهذا أیضاً من موارد الخلط بین المسائل الفلسفیة والمسائل الاُصولیّة التی غلب علیها هذا الخلط فی شتّى مسائلها، وأوجب الانحراف فیها) فإنّ لنا سببیّة أو شرطیّة فی عالم التکوین، وهى ما یکون موجوداً فی الدلوک مثلا من المصلحة التکوینیة التی تقتضی إیجاب الصّلاة تکویناً (بل هى لا تکون سبباً حقیقة، بل إنّها من قبیل الداعی للجعل)، وسببیّة أو شرطیّة شرعیّة ترجع فی الواقع إلى قیود الموضوع کالإستطاعة التی تکون قیداً من قیود موضوع وجوب الحجّ (کما أنّ مانعیة شیء ترجع إلى أنّ عدمه قید للموضوع کمانعیّة الحیض، فإنّ معناها أنّ عدم الحیض قید لموضوع وجوب الصّلاة) سواء قلنا بأنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد، أو لم نقل بذلک کالأشاعرة.

فالسببیّة الشرعیّة وکذلک الشرطیّة والمانعیّة الشرعیتان اُمور منتزعة من جعل وجود شیء أو عدمه قیداً لموضوع التکلیف، ولا تناله ید الجعل مستقلا، فإذا أخذ المولى قیداً فی موضوع الحکم کفى فی انتزاع شرطیّته له، ولا حاجة إلى أمر أکثر من ذلک، کما هو واضح.

هذا فی السببیّة أو الشرطیّة أو المانعیّة للتکلیف.

وکذلک بالنسبة إلى المکلّف به، فإنّها ترجع فیه أیضاً إلى قیود المأمور به، فإن کان وجود شیء أو عدمه قیداً للمأمور به، کما فی الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، تنتزع هذه الاُمور وإلاّ فلا، من دون حاجة إلى أمر وراء ذلک.

هذا کلّه بالنسبة إلى السببیّة والشرطیّة والمانعیّة.

2 ـ ومنها الصحّة والفساد فی العبادات أو المعاملات، والأقوال فیهما أربعة:

أوّلها: القول بأنّها لیست مجعولة مطلقاً لا تبعاً ولا مستقلا.

ثانیها: أنّها مجعولة مستقلا مطلقاً.

ثالثها: التفصیل بین العبادات والمعاملات وأنّهما مجعولان مستقلا فی العبادات دون المعاملات.

رابعها: الفرق بین الصحّة الواقعیة فلیست قابلة للجعل مستقلا، والصحّة الظاهریة فهى مجعولة مستقلا.

والمختار أنّ للصحّة والفساد معنیین، وإنّهما على کلا معنییهما أمران تکوینیان لا تنالهما ید الجعل مطلقاً:

أحدهما: ما مرّ فی مبحث الصحیح والأعمّ من أنّ الصحیح من الأشیاء ما یکون مبدأً للآثار المرغوبة منها، والفاسد ما لیس فیه تلک الآثار، ولا إشکال فی أنّ کون شیء ذا أثر وعدمه أمر تکوینی.

ثانیهما: مطابقة الأمر (فی العبادات) أو مطابقة الحکم (فی المعاملات) وعدمها، ولا ریب أیضاً أنّ التطابق أو عدم التطابق أمر واقعی تکوینی، فلو کان العمل جامعاً للاجزاء والشرائط فهو مطابق للمأمور به، ولو لم یکن جامعاً لها فهو مخالف للمأمور به، ولا یمکن أن یجعل ویعتبر ما لیس بمطابق خارجاً مطابقاً فی الخارج، فإذا کان المأمور به ذا عشرة أجزاء، والمأتی به ذا تسعة، فلا شکّ أنّه لا یکون مطابقاً، ولا معنى لجعل التسعة عشرة.

فهما لیسا من الاُمور الاعتباریّة المجعولة مستقلا، کما أنّهما لیسا منتزعین من التطابق وعدم التطابق، لأنّ الصحّة عین التطابق، کما أنّ الفساد عین التخالف.

إن قلت: هذا لیس صادقاً فی مثل المریض الذی لا یکون قادراً على إتیان جمیع الأجزاء ولیس عمله مطابقاً للواقع، مع أنّ الشارع حکم بصحّة عمله، وکذا الکلام فی أمثاله من الأعذار.

قلنا: أنّ حکم الشارع بالصحّة فی هذا الحال یرجع فی الواقع إلى أنّه رفع یده عن وجوب بعض الاجزاء، فتکون الصّلاة مثلا بالنسبة إلى المریض تسعة اجزاء لا عشرة (أو جعل لبعض الاجزاء أبدالا کالإیماء بدل الرکوع والسجود) فالصحّة حینئذ أیضاً بمعنى التطابق الواقعی، أی تطابق التسعة مع التسعة، لا تطابق التسعة مع العشرة بحکم الشارع.

هذا ـ ولکن المحقّق النائینی(رحمه الله) فی بعض تقریراته(2) قد فصّل بین الصحّة الواقعیة والصحّة الظاهریّة، وقال بأنّ الصحّة الظاهریة قابلة للجعل بخلاف الصحّة الواقعیة، نعم الموجود فی تقریرات(3) الدورة الاُولى من درسه أنّ الصحّة الظاهریة أیضاً لیست قابلة للجعل مستقلا، بل إنّها تنتزع من حکم الشارع بالإجزاء.

ولکن الإنصاف أنّ الصحّة الظاهریة وکذا الإجزاء غیر قابلة للجعل لا استقلالا ولا تبعاً فإنّ المولى لو صرّح بأنّ المأمور به هو العشرة حتّى فی حال العذر أو الشکّ فکیف یصحّ له الحکم بالصحّة والإجزاء (أی المطابقة للمأمور به وأدائه)؟ وهل هذا إلاّ تناقض؟ ولو رفع یده عن بعض الاجزاء والشرائط فی هذا الحال فالتطابق حاصل بلا حاجة إلى أمر آخر.

3 ـ ومنها الطهارة والنجاسة، وقد مرّ من شیخنا الأعظم الأنصاری(رحمه الله) أنّهما أمران تکوینیان، وقال بعض بأنّهما من الاُمور المجعولة مستقلا، وبعض آخر بأنّهما منتزعان من الحکم بجواز الصّلاة فی الشیء الطاهر وعدم جوازها فی النجس.

والحقّ أنّ لهما أیضاً أقساماً مختلفة: فقسم منهما أمر تکوینی کان موجوداً فی العرف قبل الشرع کطهارة المطر وقذارة البول والغائط، وأمضاهما الشارع المقدّس، وقسم ثان منهما أمر تکوینی أیضاً، ولکن لم یکن معروفاً واضحاً عند العرف، بل کشف عند الشارع کنجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها أو نجاسة بول الجلالة وغائطها، فهذان القسمان أمران تکوینیان أمضاهما الشارع ولیسا مجعولین مطلقاً، وقسم ثالث یکون ظاهریاً منشأه الطهارة أو النجاسة المعنویة کنجاسة الکافر التی منشأها کفر الکافر ونجاسته المعنویة، ولعلّ من هذا القسم نجاسة الخمر بل وعلى احتمال نجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها. فهذا القسم أیضاً أمر تکوینی معنوی.

اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ نجاسة الکافر تنتزع من حکم الشارع بالاجتناب عنه وعن سؤره، فتکون مجعولة بالتبع ومن الاُمور الانتزاعیة، ولکنّه خلاف ظواهر الأدلّة.

4 ـ ومنها الرخصة والعزیمة، وقد یتوهّم إنّها من الأحکام الوضعیّة، لکن الصحیح عدم کونهما لا من الأحکام الوضعیّة نفسها ولا منتزعة عنها بل إنّهما مجرّد إسمین وإصطلاحین لأحد الأحکام الخمسة فی حالتین من الحالات، فإنّ العزیمة عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترک مع حرمة الفعل کجواز ترک الصیام فی السفر أو جواز ترک صلاة الجمعة فی عصر الغیبة على بعض الأقوال، کما أنّ الرخصة أیضاً عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترک مع إباحة الفعل، نظیر جواز ترک الصیام فی الحضر أو جواز ترک صلاة الجمعة فی عصر الغیبة على قول بعض.

5 ـ ومنها المناصب کالولایة على الوقف أو على الصغیر أو على الأمة وکولایة القضاء والوصایة والوکالة والنیابة، ولا شکّ فی أنّها من الاُمور الوضعیّة التی یتعلّق بها الوضع والإنشاء، فالشارع یجعل الإنسان ولیّاً أو قاضیاً أو وکیلا، فهى مجعولة مستقلا وبالأصالة کما یحکم به الوجدان.

اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الولایة على الصغیر والقیمومة علیه مثلا تنتزع من حکم الشارع بجواز تصرّفات الولی فی أموال الصغیر.

ثمّ إنّ اطلاق الحکم بما له من المعنى المعروف عند الفقهاء على الولایة وکذا غیرها من أنواع المناصب وکونها من الأحکام الشرعیّة مشکل جدّاً (وإن کانت من الاُمور الوضعیّة المجعولة) سیّما فی ما إذا کانت جزئیة شخصیّة کالولایة المجعولة لشخص خاصّ على منصب خاصّ، لأنّ الأحکام کلّیة، والجزئیّة والتشخّص من خصوصیات المصادیق.

وإن شئت قلت: إنّ کون هذه المناصب فی کثیر من الموارد جزئیة شاهد على عدم صحّة اطلاق الحکم علیها.

6 ـ ومنها الملکیّة والزوجیّة والحرّیة والرقّیة ونحوها وکذلک الحقوق کحقّ الشفعة وحقّ التحجیر، فهل هى مجعولة بالأصالة، أو أنّها منتزعة من مجموع من الأحکام التکلیفیة کجواز البیع والأکل وسائر التصرّفات بالإضافة إلى الملکیّة؟

الصحیح إمکان کلا الوجهین عقلا، لکن الوجدان حاکم على الأوّل، أی إنّها مجعولة بالأصالة، لأنّ لازم الوجه الثانی أنّ البائع مثلا فی قوله «ملّکتک» یکون ناظراً إلى الأحکام الکثیرة المتنوّعة التکلیفیّة المترتّبة على الملکیّة، وهذا بعید عن الفهم العرفی جدّاً، ومخالف للوجدان عند إنشائها، والشاهد على ما ذکرنا ما مرّ من أنّ هذه الاُمور إنعکاسات من اُمور تکوینیّة یشبهها فی عالم الخارج وأنّ الذهن یرسم أشکالا فرضیّة لما فی الخارج، فهى مجعولة بالأصالة، وموضوعة مستقلا من ناحیة الذهن بالمقایسة مع الخارج، ففی الملکیّة یجعل صورة فرضیة للسلطنة على شیء کسلطنة الإنسان على أعضائه وجوارحه.

7 ـ ومنها الحجّیة فی باب الأمارات وغیرها من الحجج الشرعیّة والعقلائیّة، کحجّیة خبر الواحد.

والتحقیق فی هذا القسم مبنى على ملاحظة المبانی المختلفة فی باب الحجّیة، ولذلک نقول: لو کان المبنى أنّ الحجّیة عبارة عن جعل حکم مماثل فمعنى حجّیة خبر الواحد الدالّ على وجوب صلاة الجمعة أنّ الشارع جعل وجوباً ظاهریاً طریقیّاً لصلاة الجمعة مماثلا لما فی الواقع، فلا إشکال فی أنّها حینئذ حکم تکلیفی إذا کان الخبر دالا على الحکم التکلیفی، وحکم وضعی إذا کان الخبر دالا على الحکم الوضعی لأنّ الحجّیة حینئذ عبارة عن نفس الحکم المماثل المجعول.

ولو قلنا بأنّها عبارة عن المنجزیة والمعذریة، أی أنّ إصابة الأمارة الواقع کانت منجّزة وإن أخطأت کانت عذراً، فیمکن أن یقال: أنّها من الأحکام الوضعیّة المجعولة بالأصالة لأنّ کونها مجعولة حینئذ ممّا لا ریب فیه، کما أنّ عدم کونها من الأحکام الخمسة التکلیفیّة أیضاً ظاهر، فینطبق علیها تعریف الحکم الوضعی.

ولو قلنا بأنّها بمعنى إلغاء احتمال الخلاف فإمّا أن یکون المراد منه حینئذ الغاء الاحتمال بحسب الاعتقاد، أی تبدیل صفة الظنّ بالیقین فهو أمر محال غیر معقول لأنّه أمر تکوینی لیس فی اختیار المکلّف، ولا یحصل بسبب الإنشاء، وأمّا أن یکون المراد إلغاء الاحتمال بحسب العمل فهو یرجع إلى الحکم التکلیفی بالعمل، لأنّ معنى «الغ احتمال الخلاف» حینئذ «افعل هذا العمل وامش فی مقام العمل طبقاً لمؤدّی الأمارة» وهو فی الواقع یرجع إلى المعنى السابق، وهو إنشاء الحکم المماثل.

وهیهنا مبنى رابع للمحقّق النائینی، وهو ما مرّ منه فی مبحث الأمارات من أنّ الحجّیة عبارة عن جعل صفة العلم للظنّ، فبناءً علیه تکون الحجّیة أیضاً من الأحکام الوضعیّة المجعولة بالأصالة کما لا یخفى.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ ما فعله المحقّق الخراسانی(رحمه الله) من جعله الملکیة ونحوها فی عرض المناسب (أوّلا) وجعله الحجّیة فی عرض الملکیّة والمناصب من دون أن یفصل بین المذاهب المختلفة فی معنى الحجّیة (ثانیاً) فی غیر محلّه.

بقی هنا شیء:


1. مصباح الاُصول: ج3، ص77 ـ 78، طبع مطبعة النجف.
2. راجع أجود التقریرات: ج2، ص386، طبع مطبوعات دینی.
3. راجع فوائد الاُصول: ج4، ص400، طبع جماعة المدرّسین.

 

تنبیهات الاستصحابوهو ما یترتّب على هذا البحث من الثمرة فی باب الاستصحاب
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma