الأقوال فی حجّیّته الاستصحاب وبیان أدلّتها:

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
أنوار الاُصول(الجزء الثّالث)
الأمر السابع: الفرق بین قاعدة الاستصحاب وقاعدتى الیقین والمقتضی والمانعنتیجة البحث فی أدلّة الاستصحاب

إذا عرفت هذا کلّه فاعلم أنّ الأقوال فی حجّیة الاستصحاب کثیرة:

1 ـ الحجّیة مطلقاً.

2 ـ عدم الحجّیة مطلقاً.

3 ـ التفصیل، وهو على وجوه عدیدة.

والمهمّ ـ کما أفاده المحقّق الخراسانی(رحمه الله) ـ ذکر أدلّة المختار منها، وهو الحجّیة مطلقاً، على نحو یظهر بطلان سائر الأقوال، فنقول:

استدلّ للقول بالحجّیة مطلقاً بوجوه:

الاول: بناء العقلاء:

بناء العقلاء، فإنّ بناءهم على استصحاب الحالة المتیقّنة السابقة فی جمیع اُمورهم،وعلیه أساس معاشهم، بل قال بعضهم: لولا ذلک لأختلّ نظام العالم وأساس عیشبنی آدم، فلو احتمل أحدهم موت صاحبه فی تجارة لکهولة سنّه أو مرضه أو غیر ذلک منالحوادث المختلفة فلا یعتنی بهذا الاحتمال بل یداوم على عمله ویسیر إلى مقصده من دون أن تمنعه هذه الاحتمالات، وفی المحاکم القضائیّة العقلائیّة یبنی على بقاء مالکیة الإنسان ما لم یثبت خلافه، وعلى بقاء الوکالة ما لم یثبت العزل، وعلى بقاء زوجیة الزوج الغائب وإن احتمل موته أو طلاقه.

وقد قال بعض المحقّقین «إنّ ذلک یظهر بالعیان والوجدان لمن نظر فی أعمالهم وحرکاتهم وسکناتهم فی معاملاتهم وتجاراتهم وزیاراتهم لأصدقائهم وأقربائهم، وعیاداتهم لمرضاهم وجمیع اُمورهم، بل وإن تأمّل فی أعمال نفسه وحرکاته الإرتکازیة یرى أنّه یجری على طبق الحالة السابقة مع الشکّ فی ارتفاعها»(1).

بل قد یقال: إنّه ثابت حتّى فی الحیوانات فإنّها تطلب عند الحاجة، المواضع التی عهدت فیها الماء والکلاء، کما أنّ الطیور تعود من الأماکن البعیدة إلى أوکارها، غایة الأمر أنّ بنائها على هذا یکون عن جبلّتها وغریزتها، وبناء العقلاء یکون عن شعورهم وعاقلتهم.

وقد أورد على هذا بإشکالات عدیدة، ذکر اثنین منها فی الکفایة:

أحدهما: إنّ بناء العقلاء هذا لا یفیدنا إلاّ إذا کان ناشئاً من تعبّدهم على ذلک، وهو ممنوع لأنّه ینشأ من ملاکات عدیدة، فقد یکون رجاءً واحتیاطاً، وقد یکون من باب الاطمئنان بالبقاء، وقد یکون ظنّاً ولو نوعاً، وقد یکون من باب الغفلة کما هو الحال فی الحیوانات دائماً وفی الإنسان أحیاناً.

لکن الإنصاف أنّه غیر تامّ، لأنّ من الاحتمالات المذکورة فی کلامه کون البناء من باب الظنّ النوعی، ومنها کونه من باب الرجاء والاحتیاط، وهذا کاف فی إثبات المطلوب، لأنّه إذا کان الظنّ أو الرجاء أو شبههما حجّة عند العقلاء بحیث یحتجّ به العبید على موالیهم، والموالی على عبیدهم فهو کاف فی إثبات المطلوب، لأنّا لا نقصد من الحجّیة إلاّ هذا.

ثانیهما: سلّمنا ذلک، لکن الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم رادعة عن هذه السیرة.

وأورد علیه المحقّق الأصفهانی(رحمه الله) بأنّ «کلماته فی هذه المسألة فی تعلیقته المبارکة، وفی مبحث خبر الواحد من الکتاب، وفی هامشه هناک، وفی هذا المبحث من الکتاب مختلفة، ففی تعلیقته على الفرائد قدّم السیرة على العمومات نظراً إلى استحالة رادعیة العمومات عن السیرة، وفی مبحث خبر الواحد أیضاً قدّم السیرة مع الالتزام بالدور من الطرفین على وجه دون وجه، وفی هامش المبحث المزبور التزم بحجّیة الخبر لاستصحاب حجّیته الثابتة قبل نزول الآیات بعد دوران الأمر بین الردع والتخصیص، وفی هذا الموضع قدّم الآیات الناهیة، وادّعى کفایتها فی الرادعیّة»(2).

أقول: قد مرّ سابقاً أنّ الآیات الناهیة عن العمل بالظنّ لا یمکن أن تکون رادعة عن سیرة العقلاء على العمل، لأنّ المراد من الظنّ فیها لیس هو الظنّ المصطلح (وهو الاحتمال الراجح فی مقابل العلم والشکّ والوهم) بل إنّه فی هذا القبیل من الآیات إشارة إلى الظنون الواهیّة والتخیّل والخرص، کما تؤیّده القرائن الموجودة فی نفس الآیات، مثل ما ورد فی قوله تعالى: (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنْفُسُ)(3) فعطف على الظنّ ما تهوى الأنفس، وما ورد فی قوله تعالى: (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ)(4) ففسّر الظنّ بالخرص وهو التخمین والحدس بغیر أساس ودلیل. مضافاً إلى ورود هذه الآیات فی المشرکین وعبدة الأصنام الذین لم تکن عبادتهم للأصنام ناشئة من ظنّ عقلائی وأساس برهانی بلا ریب، بل من توهّمات باطلة وخیالات کاسدة. هذا أوّلا.

ویشهد له ثانیاً: أنّه لو کان کذلک للزم تخصیص هذه الآیات فی موارد العمل بالظواهر والبیّنة وخبر الواحد وقول ذی الید وغیرها، مع أنّ لحنها آب عن التخصیص کما لا یخفى.

وثالثاً: أنّ الظاهر ورودها فی خصوص اُصول الدین والمسائل الاعتقادیّة التی لا یقاس علیها الفروع والمسائل الفرعیّة.

ثمّ إنّ هنا کلاماً للمحقّق الأصفهانی(رحمه الله)، وهو أنّ «اللازم فی حجّیة السیرة العقلائیّة مجرّد عدم ثبوت الردع عنها من الشارع، ولا یجب إحراز الامضاء وإثبات عدم الردع، حتّى یجب البناء على عدم حجّیتها بمجرّد عدم العلم بالامضاء أو الجهل بعدم الردع لأنّ الشارع بما هو عاقل بل رئیسهم العقلاء متّحد المسلک معهم إلاّ إذا أحرز اختلاف مسلکه معهم بما هو شارع»(5).

ویرد علیه: أنّه لو ثبت لنا اتّحاد مسلک النبی (صلى الله علیه وآله) والأئمّة المعصومین مع سائر العقلاء ودخولهم فیهم من هذه الجهة بالروایات المعتبرة الدالّه على أفعالهم فی هذه الموارد، فبها ونعم المطلوب، لکن لقائل أن یمنع عن ذلک ویقول: لم یرد بناءهم العملی فی هذه الموارد بالروایات المأثورة عنهم، نعم یمکن أن یقال: إنّ عمل العقلاء کان فی مسمع ومنظر منهم وکانوا ساکتین عنه، ولکنّه هو معنى الحاجة إلى امضائهم فی إثبات الحجّیة.

والإشکال الثالث: هو ما ذکره المحقّق النائینی(رحمه الله) من أنّ بناء العقلاء على إبقاء الحالة السابقة وإن کان غیر قابل للإنکار فی الجملة، إلاّ أنّه لم یعلم أنّ ذلک من جهة التعبّد بالشکّ والأصل العملی، أو من جهة الأماریّة والکشف عن الواقع، إذ یبعّد الأوّل عدم تعقّل بناء من العقلاء على صرف التعبّد بالشکّ من دون أماریّة وکاشفیة ... کما أنّه یبعّد الثانی عدم وجود شیء فی المقام یکون کاشفاً عن الواقع فی ظرف الشکّ، إذ الیقین السابق لا أماریّة له فی ظرف الشکّ، ونفس الشکّ لا أماریّة له أیضاً کما هو ظاهر، إلاّ أن یقال: إنّ التعبّد بالشکّ من العقلاء وإن لم یکن فی نفسه معقولا، إلاّ أنّه یمکن أن یکون ذلک بإلهام(6) من الله تعالى حتّى لا یختلّ اُمور معاشهم ومعادهم، فإنّ لزوم اختلال النظام مع التوقّف عن الجری فی الحالة السابقة مع الشکّ واضح، فلأجله جعل الله الجری على طبقها من المرتکزات فی أنفسهم مع عدم وجود کاشف عن تحقّقها أصل(7).

أقول: وکلامه(رحمه الله) لا یخلو من نظر:

أمّا أوّلا: فلأنّ ما أفاده من «أنّ بناءهم إلهام إلهی وإنّ فطرتهم جرت على ذلک» بنفسه دلیل على وجود التعبّد لهم، فإنّهم یلاحظون بعض الاُمور کأصالة البراءة، وأنّه لا کاشفیة لها بالنسبة إلى الواقع، ولکن یجعلون بناءهم على ذلک من باب أنّ عدمه یوجب اختلال النظام، ومن هذا القبیل باب الحقوق والجرائم، فما دام لم یثبت جرم أحد، أو کونه مدیوناً، لا یحکم علیه بالجرم والدین، ویمکن أن یکون بناؤهم على الاستصحاب أیضاً من هذا القبیل، ولا أقلّ من إمکانه ثبوتاً، وبالجملة أنّ للعقلاء اُصولا وأمارات، بل یمکن أن یقال: إنّ لجمیع الاُصول والأمارات الشرعیّة أساساً عقلائیاً، وما قد یتوهّم من أنّه لیس لهم إلاّ الأمارات کلام باطل، ولیکن هذا على ذکر منک حتّى نتلو علیک منه ذکراً.

وثانیاً: (بالنسبة إلى قوله بعدم وجود معیار للأماریّة فی الاستصحاب، وأنّ مجرّد الیقین السابق غیر کاف فیها) فلأنّه یمکن أن یقال: إنّ معیار الأماریّة فی الاستصحاب إنّما هو الغلبة، فإنّ الغلبة فی موت الأفراد وحیاتهم على الحیاة، وفی السلامة والمرض على السلامة، وفی الطرق والأماکن ونظائرهما على البقاء على حالها.

نعم هذا کلّه فی الموضوعات والشبهات الموضوعیّة، کما أنّ تمام ما ذکرنا من الأمثلة کحیاة زید ووکالة عمر والملکیة والزوجیّة وغیرها کانت من الموضوعات الخارجیة، وأمّا الشبهات الحکمیّة والأحکام الکلّیة فإن کان الشکّ فی نسخها کان بناء العقلاء على عدم النسخ ما لم یثبت جعل قانون جدید، وأمّا بالنسبة إلى غیر النسخ من مناش اُخر للشکّ فی بقاء الحکم کما إذا قرّرت الحکومة وضع ضرائب على العنب وشکّ فی بقائها بعد تبدّل العنب إلى الزبیب (بناءً على أنّه من الحالات لا من المقوّمات) فلا یستصحب أحد من العقلاء بقاء تلک الضرائب کما لا یخفى، وسیوافیک لذلک مزید توضیح فی محلّه إن شاء الله.

الثانی: الاستقراء فی الأبواب المختلفة من الفقه

وقد قال الشیخ الأعظم الأنصاری(رحمه الله) فی هذا المجال: «إنّا تتبّعنا موارد الشکّ فی بقاء الحکم السابق المشکوک من جهة الرافع فلم نجد من أوّل الفقه إلى آخره مورداً إلاّ وحکم الشارع فیه بالبقاء، إلاّ مع أمارة توجب الظنّ بالخلاف کالحکم بنجاسة البلل الخارج قبل الاستبراء، فإنّ الحکم بها لیس لعدم اعتبار الحالة السابقة، وإلاّ لوجب الحکم بالطهارة لقاعدة الطهارة، بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنی فی المخرج، فرجّح هذا الظاهر على الأصل (وهو أصالة الطهارة) کما فی غسالة الحمّام عند بعض، والبناء على الصحّة المستند إلى ظهور فعل المسلم، والإنصاف أنّ هذا الاستقراء یکاد یفید القطع» (انتهى).

أقول: ومن هذه الموارد حکم الشارع باستظهار الحائض بعد مضیّ أیّام العادة إلى عشرة أیّام فورد فی الحدیث: «تستظهر بیوم أو یومین أو ثلاثة» أی تستصحب.

ومنها قوله(علیه السلام): «صم للرؤیة وافطر للرؤیة» الذی قد یقال بأنّ منشأه الاستصحاب.

لکن الإنصاف أنّ هذا الاستقراء ناقص جدّاً فکیف یحصل القطع فی هذه المسألة المهمّة من ذکر أمثلة قلیلة؟ مع ما فیها من الإشکال، فقد یرد على المثال الأوّل من أنّه کما یحتمل أن یکون البلل الخارج قبل الاستبراء بولا، کذلک یحتمل أن یکون مذیاً أو ودیاً الذی لا إشکال فی طهارته ولو قبل الإستبراء لأنّ الملاقاة فی البواطن لا توجب النجاسة، فالمعلوم حینئذ خروج القطرات البولیة السابقة ووجود قطرات اُخرى مقامها یشکّ أنّها من مصادیق البول أو المذی، فلا یجری الاستصحاب فیها لأنّه حینئذ من قبیل استصحاب القسم الثالث من الکلّی، وهو لیس بحجّة.

الثالث: الإجماع

نقله الشیخ الأعظم(رحمه الله) عن مبادىء الوصول للعلاّمة(رحمه الله) وعن نهایته کما نقله أیضاً المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی الکفایة.

فقال فی المبادىء: «الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حکم ثمّ وقع الشکّ فی أنّه طرأ ما یزیله أم لا، وجب الحکم ببقائه، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لکان ترجیحاً لأحد طرفی الممکن من غیر مرجّح»(8).

وظاهره العموم بالنسبة إلى فقهاء الفریقین، وبالنسبة إلى الشبهة فی النسخ وسائر الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة.

وقال فی النهایة: «أنّ الفقهاء بأسرهم على کثرة اختلافهم اتّفقوا على إنّا متى تیقّنا حصول شیء، وشککنا فی حدوث المزیل له أخذنا بالمتیقّن».

لکن لا کلام فی عدم حجّیة هذا النوع من الإجماع لکونه محتمل المدرک على الأقل، ولعلّ مدرکه ما مرّ من سیرة العقلاء أو الاستقراء أو ما سیأتی ذیلا من الأخبار.

الرابع: الأخبار المستفیضة

وهى العمدة فی المسألة، وأوّل من طرحها فی الاُصول على التفصیل هو شیخنا الأعظم الأنصاری(رحمه الله):

1 ـ صحیحة زرارة، قال: «قلت له: الرجل ینام وهو على وضوء، أیوجب الخفقة والخفقتان علیه الوضوء؟ فقال (علیه السلام): یازرارة قد تنام العین ولا ینام القلب والاُذن فإذا نامت العین والاُذن والقلب وجب الوضوء، قلت: فإن حرّک على جنبه شیء ولا یعلم به؟ قال(علیه السلام): لا، حتّى یستیقن أنّه قد نام حتّى یجیء من ذلک أمر بیّن، وإلاّ فإنّه على یقین من وضوئه، ولا تنقض الیقین أبداً بالشکّ ولکنّه ینقضه بیقین آخر»(9).

ولا یخفى أنّ اضمار زرارة فی الحدیث لا یضرّ بصحّته، لأنّ مثله لا یسأل الحکم الشرعی إلاّ عن الإمام(علیه السلام)، مضافاً إلى لحن الحدیث والسؤال والجواب الواردان فیه حیث إنّ الإنسان یطمئنّ بأنّ مثله لا یصدر إلاّ من الإمام المعصوم(علیه السلام)(10)، وعلى هذا فلا کلام فی الروایة من ناحیة السند، إنّما البحث فی دلالتها وقد وقع فی تعیین جزاء کلمة «إلاّ» الواردة فیها، والتی هى مرکّبة من «إنّ» و «لا»، أی «وإن لم یستیقن أنّه نام»، فما هو جزاؤها؟ فنقول: فیه أربعة وجوه:

الأوّل: أن یکون الجزاء محذوفاً، أی: «وإن لم یستیقن أنّه قد نام فلا یجب علیه الوضوء، أو فهو باق على وضوئه» ویکون قوله(علیه السلام): «فإنّه على یقین من وضوئه» تعلیلا لذلک الجزاء فیکون بمنزلة کبرى کلّیة لا تختصّ بباب الوضوء.

الثانی: أن یکون قوله(علیه السلام): «فإنّه على یقین من وضوئه» بنفسه جزاءً فیکون بمنزلة جملة إنشائیّة، بمعنى: «فلیکن على وضوئه» فیختصّ بباب الوضوء لخروجه عن صیغة التعلیل الذی یتعدّى عن المورد.

الثالث: أن یکون الجزاء قوله(علیه السلام): «ولا ینقض الیقین بالشکّ أبداً»، ویکون قوله (علیه السلام): «فإنّه على یقین ...» توطئة له، فیختصّ أیضاً بباب الوضوء.

والإنصاف أنّ الترجیح مع التفسیر الأوّل، وأنّ الأخیرین بعیدان عن ظاهر الحدیث.

أمّا الأوّل منهما (أی التفسیر الثانی) فلأنّ کون قوله (علیه السلام): «فإنّه على یقین» بمنزلة جملة إنشائیّة، وبمعنى «فلیکن» بعید فی الغایة ـ کما قال به المحقّق الخراسانی (رحمه الله) ـ لأنّ الإخبار بجملة اسمیّة وإرادة الکنایة عن الإنشاء لا یکون أمراً مأنوساً عند أهل اللسان، فلا یقال مثلا: «أنت آکل» عوضاً عن قوله «کل»، أو «أنت قائم» کنایة عن قوله «قم»، أو «أنت على یقین» کنایة عن «کن على الیقین» (فی ما نحن فیه) نعم أنّه شائع فی الجملة الفعلیّة بصیغة المضارع کقوله(علیه السلام): «تعید» بمعنى «أعد».

وأمّا الثانی منهما (وهو التفسیر الثالث) فلأنّ لازمه أن یکون الجزاء معطوفاً على شرطه بالواو العاطفة، وهو واضح البطلان.

هذا ـ ولو سلّم کون أحدهما مراداً للإمام(علیه السلام) لکنّه یمکن أیضاً استفادة العموم من الحدیث لعدّة قرائن:

الاُولى: قوله(علیه السلام): «فإنّه على یقین من وضوئه» حیث إنّه إشارة إلى نکتة إرتکازیة عند العقلاء، وهى عدم صحّة نقض شیء محکم وطرده (وهو الیقین) بأمر مرهون ضعیف (وهو الشکّ) وبعبارة اُخرى: تناسب الحکم والموضوع یوجب إلغاء العرف الخصوصیّة عن باب الوضوء.

الثانیة: کلمة «أبداً» فإنّها مناسبة لجریان الحکم وسریانه فی سائر الأبواب.

الثالثة: ورود قوله(علیه السلام): «لا ینقض الیقین بالشکّ» فی سائر الأبواب أیضاً، مثل باب النجاسات والصّلاة والصوم فإنّه بمنزلة قرینة خارجیة على عموم الحکم فی المقام.

إن قلت: ذکر الیقین قبل هذه الجملة مرّتین وتعلّق فی المرّة الاُولى بالنوم وفی الثانیة بالوضوء، وحینئذ تکون اللام الواردة فی کلمة الیقین فی هذه الجملة ظاهرة فی العهد، ولازمه اختصاص الحکم بباب الوضوء.

قلنا: قد قرّر فی محلّه أنّ الأصل فی «اللام» أن تکون للجنس، ومجرّد وجود متعلّقها فی القبل لا غیر، کاف لرفع الید عن هذا الأصل، فإذا دار الأمر بین کونها للعهد أو الجنس فالترجیح مع الثانی، إلاّ إذا حصل الظهور فی العهدیة ومجرّد سبق عنوان الیقین غیر کاف فی إثبات هذا الظهور. هذا أوّلا.

وثانیاً: سلّمنا أنّها تکون للعهد، ولکن العرف یلغی الخصوصیة عن باب الوضوء بما مرّ من تناسب الحکم والموضوع ووجود کلمة «أبداً» وغیرهما من القرائن.

ثمّ إنّه قد أجاب المحقّق الخراسانی(رحمه الله) عن هذه الشبهة بجواب لا یخلو من التکلّف جدّاً، وهو أنّ کون اللام فی قوله (علیه السلام): «ولا ینقض الیقین أبداً بالشکّ» للعهد مبنى على کون لفظة «من وضوئه» متعلّقة بلفظة «یقین» بنفسها، فیکون الیقین حینئذ فی الصغرى خاصّاً، فلیکن فی الکبرى أیضاً خاصّاً، وأمّا إذا کان متعلّقاً بالظرف أی بلفظة «على یقین» بحیث کان المعنى هکذا: «فإنّه من ناحیة وضوئه على یقین ولا ینقض الیقین أبداً بالشکّ» فلا یکون الیقین حینئذ فی الصغرى خاصّاً کی تکون اللام فی یقین الکبرى للإشارة إلیه، بل جنساً مطلقاً فیکون الیقین فی الکبرى أیضاً کذلک. (انتهى).

ولا یخفى أنّ فیه تکلّفاً ظاهراً، وأنّه لا یشبه العبارات العربیّة المتداولة، فالإنصاف أنّ المرتکز لمن یکون عارفاً باللسان کون «عن وضوئه» متعلّقاً بالیقین نفسه.

إن قلت: أنّ هذا الحدیث من ناحیة دلالته على الاستصحاب قد أعرض عنه الأصحاب، کما یظهر من تصریح الشیخ الأعظم(رحمه الله) بأنّ أوّل من تمسّک به هو والد الشیخ البهائی(رحمه الله) فی الحبل المتین.

قلنا: لعلّ عدم تمسّک الأصحاب به کان من جهة أنّهم یرون أنفسهم مستغنین عنه بوجود سیرة العقلاء على الاستصحاب، مع کون السیرة دلیلا قطعیّاً وخبر الواحد دلیلا ظنّیاً. هذا أوّلا.

وثانیاً: لعلّ إعراضهم کان من جهة وجود الشبهة عندهم من ناحیة الدلالة وعدم عمومیتها واختصاصها بأبواب معیّنة، لا من ناحیة السند، فلا یکون اعراضهم عن السند محرزاً عندنا.

ویؤیّد ذلک أنّ صاحب الوسائل وغیره من أکابر علماء الحدیث جعلوا هذه الأخبار فی أبواب خاصّة، ولم یجعلوا لها عنواناً مستقلا کلّیاً، وهذا دلیل على أنّهم لم یفهموا منها العموم، وکم ترک الأوّل للآخر.

2 ـ صحیحة ثانیة لزرارة قال: «قلت له: أصاب ثوبی دم رعاف أو شیء من منی فعلّمت أثره إلى أن اُصیب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسیت أنّ بثوبی شیئاً وصلّیت ثمّ إنّی ذکرت بعد ذلک، قال: تعید الصّلاة وتغسله، قلت: فإنّی لم أکن رأیت موضعه وعلّمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر علیه، فلمّا صلّیت وجدته، قال: تغسله وتعید، قال قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتیقّن ذلک فنظرت فلم أر فیه شیئاً ثمّ صلّیت فرأیت فیه، قال: تغسله ولا تعید الصّلاة، قلت: لِمَ ذاک؟ قال: لأنّک کنت على یقین من طهارتک ثمّ شککت فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبداً، قلت: فإنّی قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أین هو فأغسله، قال: تغسل من ثوبک الناحیة التی ترى أنّه أصابها، حتّى تکون على یقین من طهارتک، قلت: فهل علیّ إن شککت فی أنّه أصابه شیء فی ثوبی أن أنظر فیه؟ فقال: لا، ولکنّک إنّما ترید أن تذهب الشکّ الذی وقع فی نفسک، قلت: إن رأیته فی ثوبی وأنا فی الصّلاة، قال: تنقض الصّلاة وتعید إذا شککت فی موضع منه ثمّ رأیته، وإن لم تشکّ ثمّ رأیته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنیت على الصّلاة لأنّک لا تدری لعلّه شیء أوقع علیک فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ»(11).

هذه الروایة مشتملة على ستة أسئلة وأجوبة:

أوّلها: قول السائل: «أصاب ثوبی دم رعاف أو شیء من منی فعلمت أثره إلى أن أُصیب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسیت أنّ بثوبی شیئاً وصلّیت ثمّ إنّی ذکرت بعد ذلک؟» جواب الإمام(علیه السلام) عنه بقوله: «تعید الصّلاة وتغسله».

ثانیها: قول السائل: «فإنّی لم أکن رأیت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر علیه فلمّا صلّیت وجدته» وجوابه (علیه السلام) بقوله: «تغسله وتعید».

وهذان السؤالان لا یخفى خروجهما عمّا نحن فیه وهو البحث عن الاستصحاب، حیث إنّ مورد الأوّل نسیان النجاسة والتذکّر بعد إتمام الصّلاة، ومورد الثانی الشروع فی الصّلاة مع العلم الإجمالی بنجاسة موضع من الثوب.

ثالثها: قول السائل «فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتیقّن ذلک فنظرت فلم أر فیه شیئاً ثمّ صلّیت فرأیت فیه»؟ وجوابه (علیه السلام) بقوله: «تغسله ولا تعید الصّلاة (قلت: لِمَ ذاک؟) قال(علیه السلام): لأنّک کنت على یقین من طهارتک ثمّ شککت فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبداً».

وهذا السؤال والجواب ناظر إلى محلّ البحث صراحةً کما لا یخفى.

رابعها: قول السائل: «فإنّی قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أین هو؟ فأغسله؟» وجوابه(علیه السلام): «تغسل من ثوبک الناحیة التی ترى أنّه أصابها حتّى تکون على یقین من طهارتک».

وهذا السؤال فی بدء النظر غیر مرتبط بالمقصود بل مرتبط بمسألة العلم الإجمالی ولکنّه عند التأمّل یمکن أن یکون تتمیماً للسؤال الثالث، کما أنّ جواب الإمام(علیه السلام) أیضاً یمکن أن یکون تکمیلا للجواب عن السؤال الثالث، أو بیاناً لمدلوله الالتزامی، وهو قوله «انقضه بیقین آخر» فالمحتمل دلالة هذه الفقرة أیضاً على حجّیة الاستصحاب.

خامسها: قول السائل: «فهل علیّ إن شککت فی أنّه أصابه شیء فی ثوبی أن أنظر فیه؟» وجواب الإمام(علیه السلام): «لا ولکنّک إنّما ترید أن تذهب الشکّ الذی وقع فی نفسک».

وهذا الجواب ناظر إلى عدم لزوم الفحص فی الشبهات الموضوعیّة وخارج عمّا نحن بصدده.

إن قلت: قد مرّ فی مبحث عدم وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیّة استثناء موردین منها:

أحدهما: ما إذا کان العلم بالواقع سهل الوصول جدّاً.

وثانیهما: ما لا یحصل العلم به عادةً من دون فحص کمقدار النصاب وأرباح المکاسب والاستطاعة، وما نحن فیه من القسم الأوّل فلماذا لم یأمر فیه بوجوب الفحص؟

قلنا: یظهر من هذه الروایة وغیرها أنّ نظر الشارع التسهیل فی أمر الطهارة والنجاسة وإستثناءهما من القاعدة المذکورة، ولعلّ الوجه فیه هو الوقوع فی الوساوس المختلفة لو بنى على الفحص ولو بهذا المقدار.

سادسها: قول السائل: «إن رأیته فی ثوبی وأنا فی الصّلاة» وجواب الإمام(علیه السلام): «تنقض الصّلاة وتعید إذا شککت فی موضع منه ثمّ رأیته، وإن لم تشکّ ثمّ رأیته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنیت على الصّلاة لأنّک لا تدری لعلّه شیء أوقع علیک فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ».

وهذا السؤال والجواب أیضاً داخل فی الاستصحاب کما هو واضح.

فظهر أنّ الداخل من هذا الحدیث فی مبحث الاستصحاب هى الفقرة الثالثة والسادسة یقیناً، والفقرة الرابعة احتمالا.

لکن اُورد علیه إشکالات عدیدة لابدّ من حلّها:

الأوّل: فی تعبیر الإمام(علیه السلام) بـ «لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ»، حیث إنّه یستشمّ منه رائحة الاستحباب.

والجواب عنه واضح: لأنّه ورد فی مقام الاستدلال على حکم إلزامی، وهو عدم جواز إعادة الصّلاة، لظاهر النهی بلسان النفی، فمقام الاستدلال قرینة على أنّ المراد به عدم الجواز، وموارد استعمال «لا ینبغی» مختلفة کما یظهر بالرجوع إلیها.

الثانی: أنّ الحدیث لعلّه فی مقام بیان قاعدة الیقین لا الاستصحاب، أی أنّه یناسب قاعدة الیقین کما یتناسب مع الاستصحاب، لأنّ لفظ الیقین فی قوله (علیه السلام): «لأنّک کنت على یقین من طهارتک» کما یحتمل أن یکون المراد منه الیقین بطهارة الثوب من قبل ظنّ الإصابة (فیکون المورد من الاستصحاب) کذلک یحتمل أن یکون المراد منه الیقین بالطهارة الذی حصل بالنظر فی الثوب مع عدم رؤیة شیء، ثمّ زال برؤیه النجاسة بعد الصّلاة لاحتمال حدوثها بعد الصّلاة (فیکون المورد من قاعدة الیقین لأنّ الشکّ یتسرّى إلى الیقین السابق) فیصیر الحدیث مجملا لا یصلح للاستدلال به على الاستصحاب.

وجوابه واضح أیضاً: فعند التأمّل فی الروایة یظهر أنّها ناظرة إلى خصوص الاستصحاب، وأنّ المستشکل لم یعطها حقّ النظر والدقّة، فإنّ معیار الاستصحاب وفرقه عن قاعدة الیقین، (وهو تغایر زمان متعلّق الیقین والشکّ) موجود فیها، حیث عبّر الإمام(علیه السلام) فیها بقوله: «لأنّک کنت على یقین ثمّ شککت» وهو ناظر إلى سؤال الراوی الذی کان على یین من طهارته ثمّ شکّ فی نجاستها فی زمان بعده.

الثالث: أنّ مورد الحدیث إنّما هو نقض الیقین بیقین آخر لا نقضه بالشکّ، فإنّ السائل یقول: «ثمّ صلّیت فرأیت فیه» وهو یعنی الیقین بالنجاسة ووقوع الصّلاة بها فإعادة الصلاة من قبیل نقض الیقین بالیقین لا نقض الیقین بالشکّ.

ویمکن الجواب عنه باُمور:

أوّلها (وهو أحسنها) أنّ جواب الإمام(علیه السلام) ناظر إلى أنّ الشرط فی صحّة الصّلاة هو الأعمّ من الطهارة الواقعیة والظاهریة، وأنّ الطهارة الظاهریة کانت حاصلة فی أثناء الصلاه لمکان الاستصحاب، وإن حصل القطع بعد الصّلاة بعدم وجود الطهارة الواقعیة، فعدم وجوب الإعادة إنّما هو لتحقّق الشرط الواقعی، وهو الطهارة الظاهریة الحاصلة بمقتضى الاستصحاب.

ثانیها: أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى مسألة الاجزاء فی الأوامر الظاهریة فیقول الإمام (علیه السلام) أنّ الأمر الظاهری حاصل فی المقام لمکان الاستصحاب (وإن قطعت بعد الصّلاة بعدم وجود الأمر الواقعی) وهو مجز عن إتیان الواقع.

وبعبارة اُخرى: أنّها ناظرة إلى صغرى قاعدة الإجزاء، وهى وجود أمر ظاهری ناش من الاستصحاب، وإلى کبراها وهى أنّ الأوامر الظاهریة مجزیة.

وهذا الجواب أیضاً تامّ على المختار من إجزاء الأوامر الظاهریة الشرعیّة وإن لم یتمّ على مختار المنکرین للاجزاء.

ولکن إستشکل فیه الشیخ الأعظم(رحمه الله) بما حاصله: أنّ لازمه اکتفاء الإمام فی مقام التعلیل ببیان الصغرى (وهى قوله(علیه السلام): «لأنّک کنت على یقین من طهارتک ثمّ شککت فلیس ینبغی لک ... الخ» الذی هو کنایة عن وجود أمر ظاهری) مع أنّ الشائع عرفاً إنّما هو بیان الکبرى (وهى فی المقام أنّ الأوامر الظاهریة مجزیة).

وفیه: أنّه یختلف باختلاف الموارد، فتارةً یکتفی ببیان الصغرى فقط لکون الکبرى أمراً إرتکازیاً کقوله: «لا تشرب الخمر لأنّه مسکر»، واُخرى یکتفی ببیان الکبرى لکون الصغرى إرتکازیاً کقول المولى لعبده «لا تفعل هذا فإنّ العاقل لا یلقی نفسه إلى حیث الضرر» فصغرى «لأنّه مضرّ» حذفت لوضوحها، وثالثة تذکر الصغرى والکبرى معاً.

وما نحن فیه داخل فی القسم الأوّل، فذکرت الصغرى فقط (وهو وجود الأمر الظاهری لأجل الاستصحاب) لعدم کونها مثل الکبرى (وهى إجزاء الأوامر الظاهریّة) فی الوضوح.

ثالثها: أنّ مورد السؤال فی الفقرة الثالثة إنّما هو ما إذا احتملنا وقوع النجاسة بعد الصّلاة، فیکون نهی الإمام(علیه السلام) بقوله: «لا تنقض الیقین بالشکّ» بالنسبة إلى أثناء الصّلاة.

لکنّه خلاف الظاهر لأنّ فی الروایة: «قلت فإن ظننت أنّه قد أصابه ... ثمّ صلّیت فرأیت فیه» وهو ظاهر فی أنّ ما وجده بعد الصّلاة إنّما هو نفس ما کان متفحّصاً عنه فی أثناء الصّلاة. فهذا الجواب غیر تامّ.

الرابع: ما یکون مرتبطاً بالفقرة السادسة، وحاصله، أنّ مفاد هذه الفقرة لزوم غسل الثوب ثمّ البناء على الصّلاة فیما إذا احتمل وقوع النجاسة فی نفس الوقت الذی رآها، ولزوم نقض الصّلاة ووجوب الإعادة إذا رآها وعلم بوجودها من أوّل الصّلاة، وهذا ـ أوّلا ـ مخالف لفتوى المشهور، فإنّها قائمه على عدم الفرق بین الصورتین، فحکموا فی الصورة الثانیة أیضاً بوجوب الغسل ثمّ البناء.

وثانیاً: مخالف لنفس الحدیث فی فقرته الثالثة إذ إنّ مدلولها صحّة الصّلاة فیما إذا وقعت بتمامها فی النجاسة، وهو یقتضی بالفحوى صحّتها فیما إذا وقعت بعضها فی النجاسة، فیقع التضادّ حینئذ بین الفقرتین الفقرة السادسة والفقرة الثالثة، ولازمه سقوط کلتیهما عن الحجّیة.

واُجیب عن هذا بوجهین:

أحدهما: الالتزام بالتفکیک فی الحجّیة بین فقرات حدیث واحد، بإسقاط بعض الفقرة السادسة عن الحجّیة والعمل بالفقرة الثالثة.

ولکن قد عرفت غیر مرّة أنّ مثل هذا التفکیک مشکل لمخالفة بناء العقلاء.

ثانیهما (وهو أحسن الوجوه): أنّ الأولویة ممنوعة، لاحتمال الفرق بین صورة الجهل فی تمام الصّلاة والجهل فی بعضها، فإنّ لازم الثانی وجود النجاسة المعلومة ولو آناً مّا.

إن قلت: العلم بالنجاسة آنّاً مّا موجود فیما إذا احتمل وقوع النجاسة فی نفس الوقت الذی رآها فکیف لم یحکم الإمام فیه بالبطلان؟

قلنا: لعلّ الشارع عفى عن ذلک، لوجود خصوصیّة فیها، وهى احتمال وقوعها فی نفس زمان رؤیتها.

فتلخّص من جمیع ما ذکرنا أنّ الاستدلال بالصحیحة تامّ لا إشکال علیه.

3 ـ صحیحة ثالثة لزرارة عن أحدهم(علیهما السلام) «قال: قلت له: من لم یدر فی أربع هو أم فی ثنتین وقد أحرز الثنتین؟ قال: یرکع برکعتین وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الکتاب، ویتشهّد، ولا شیء علیه، قال: إذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إلیها اُخرى ولا شیء علیه، ولا ینقض الیقین بالشکّ، ولا یدخل الشکّ فی الیقین، ولا یخلط أحدهما بالآخر، ولکنّه ینقض الشکّ بالیقین ویتمّ على الیقین فیبنی علیه، ولا یعتدّ بالشکّ فی حال من الحالات»(12).

وتقریب الاستدلال بهذا الحدیث لحجّیة الاستصحاب واضح، ولکن یرد علیه أمران:

أحدهما: أنّه یحتمل فی قوله(علیه السلام): «قام فأضاف إلیها اُخرى» ثلاث احتمالات:

الأوّل: أن یکون المراد من القیام فیه القیام بعد التسلیم إلى رکعة اُخرى مفصولة ویکون المراد من الیقین فیها الیقین بالبراءة الحاصلة بالبناء على الأکثر والإتیان برکعة مستقلّة، وحینئذ تکون الصحیحة أجنبیة عن الاستصحاب، وناظرة إلى قاعدة الإشتغال.

الثانی: أن یکون المراد من القیام فیه القیام للرکعة الرابعة من دون التسلیم فی الرکعة المردّدة بین الثالثة والرابعة، فیکون حاصل الجواب هو البناء على الأقل والمراد من الیقین هو الیقین بإتیانه ثلاث رکعات، وحینئذ تکون الصحیحة دالّة على الاستصحاب.

ولکنّها موافقة لقول العامّة ومخالفة للمذهب ولظاهر الفقرة الاُولى من قوله: «یرکع برکعتین ... بفاتحة الکتاب» فإنّ ظاهره بقرینة تعیین الفاتحة إرادة رکعتین منفصلتین، أعنی صلاة الاحتیاط.

فلابدّ حینئذ من الالتزام بالتفکیک فی الحجّیة بین ما ذکر فی ذیل الحدیث من کبرى کلّیة دالّة على الاستصحاب وبین مورده، القول بالحجّیة فی الکبرى، وأنّ الصغرى محمولة على التقیّة، فیأتی فیه مشکل التفکیک فی الحجّیة بین فقرات الحدیث، الذی هو فی المقام آکد وأشنع، لأنّه تفکیک بین کبرى وصغراها، لا بین فقرتین اللتین یدلّ کلّ منهما على حکم مستقلّ.

الثالث: أن یکون المراد من القیام القیام للرکعة الرابعة مع التسلیم، أی إتیانها منفصلة، کما هو مذهب أهل البیت فی صلاة الاحتیاط.

وعلیه یکون المراد من قوله(علیه السلام): «ولا یدخل الشکّ فی الیقین» النهی عن إدخال صلاة الاحتیاط المشکوکة فی ما أتى به متیقّناً، أی یأتی بها مستقلا ومفصولة.

ویکون المراد من قوله (علیه السلام)، ولکنّه ینقض الشکّ بالیقین» تأکیداً لذلک، وقوله (علیه السلام) «ویتمّ على الیقین» أیضاً إشارة إلى إتیان صلاة الاحتیاط منفصلة.

وحینئذ تکون ثلاث فقرات من الفقرات الستّة الواردة فی الذیل ناظرة إلى لزوم انفصال صلاة الاحتیاط، وثلاث فقرات اُخر مرتبطة بقاعدة الاستصحاب، فیندفع بذلک إشکال کثرة التأکیدات فی حدیث واحد، وکذلک إشکال الحمل على التقیّة والتفکیک بین الصغرى والکبرى.

ثمّ إنّ الترجیح یؤید الحمل على الاستصحاب، أی أحد الاحتمالین الأخیرین، وذلک بقرینة الروایات الاُخرى، وقرینة داخلیّة وهى لحن الروایة والتعبیر بـ «لا تنقض الیقین بالشکّ» الوارد فیها، حیث إنّ التعبیر المناسب مع قاعدة الاشتغال هو لزوم العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال، وهذا المعنى غیر موجود فی الحدیث، ولا سیّما إنّ أخبار الباب الناظرة إلى وجوب العمل بالاحتیاط مصرّحة بلزوم البناء على الیقین فما ورد فی هذا الحدیث مناسب للاستصحاب لا غیر، لأنّه عبّر بعدم نقض الیقین بالشکّ لا البناء على الیقین.

کما أنّ الترجیح فی هذین الاحتمالین یتّفق مع الحمل على الاحتمال الأخیر، لأنّ قوله(علیه السلام): «قام فأضاف إلیه اُخرى» وإن کان ظاهراً فی الإتّصال مجرّداً عن صدره، ولکنّه بقرینة صدر الروایة (الذی ظاهر فی الإنفصال بقرینة تعیین فاتحة الکتاب کما مرّ آنفاً) لابدّ من حمله على الانفصال، مضافاً إلى محذور التفکیک فی الحجّیة الموجود فی الاحتمال الآخر، أی الاحتمال الثانی من الاحتمالات الثلاثة فی الروایة.

وحینئذ یتعیّن الاحتمال الثالث، وبذلک یتمّ دلالة الصحیحة على المقصود من دون أی محذور.

ثمّ إنّ المحقّق العراقی(رحمه الله) بعد أن التزم بهذا التفکیک، وجعله من قبیل ما ذکره المحقّق النائینی(رحمه الله) (وهو ما ورد فی بعض الأخبار من قوله (علیه السلام) للخلیفة العبّاسی بعد سؤال اللعین عن الإفطار فی الیوم الذی شهد بعض بأنّه یوم العید: «ذاک إلى إمام المسلمین إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه» حیث إنّ الإمام(علیه السلام) إنّما قال ذلک تقیّة ومخافة على نفسه، کما بیّن (علیه السلام) ذلک بعد خروجه عن مجلس اللعین، ومع هذا یکون قوله(علیه السلام) «ذاک إلى إمام المسلمین» لبیان حکم الله الواقعی کما أنّ الفقهاء استدلّوا به على اعتبار حکم الحاکم فی الهلال، ولیس ذلک إلاّ لأجل أنّ تطبیق القول على المورد للتقیّة لا ینافی صدور أصل القول لبیان حکم الله الواقعی فلتکن الصحیحة فیما نحن فیه من هذا القبیل) قال: ونظیر ذلک أیضاً ما ورد من استشهاد الإمام(علیه السلام)بحدیث الرفع المروی عن النبی(صلى الله علیه وآله) على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما یملک عند الإکراه.»(13).

أقول: مما استدلّ به غیر واحد من الأصحاب على أنّ حدیث الرفع یعمّ الأحکام الوضعیّة فی مبحث البراءة صحیحة المحاسن التی استشهد فیها الإمام(علیه السلام)بحدیث الرفع على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما یملک، مع أنّ الحلف بهذه الثلاثة باطل عند الإمامیّة ذاتاً ولو لم تکن عن إکراه، فالإمام (علیه السلام)استند لبطلانه فی صورة الإکراه بحدیث الرفع، وهو أمر عرضی ولم یستند من جهة التقیّة ببطلانه الذاتی، فنلتزم بالتفکیک بین أصل الاستناد إلى حدیث الرفع، أی مدلوله المطابقی وهو جریان حدیث الرفع فی الأحکام الوضعیّة، وبین تطبیقه على المورد، أی مدلوله الالتزامی وهو صحّة الطلاق والعتاق والصدقة بما یملک لولا الإکراه، ونقول بأنّ الإمام (علیه السلام) کان فی الأوّل فی مقام بیان حکم الله الواقعی، وفی الثانی کان فی مقام التقیّة فلیکن مقامنا أیضاً کذلک.

لکن الإنصاف أنّ هذا القیاس مع الفارق، لأنّ کون استناد الأصحاب لشمول حدیث الرفع للأحکام الوضعیّة هناک بتلک الروایة من قبیل التفکیک بین فقرتی حدیث واحد، مبنى على دلالته على صحّة الطلاق وأخویه عند العرف بالدلالة الالتزامیّة البیّنة، مع أنّها لیست أکثر من حدّ الإشعار، بخلاف ما نحن فیه الذی یکون للکبرى فیه مدلول، ولصغراها مدلول آخر وهو الظهور فی الإتّصال، فلا ینتقض مختارنا هنا (وهو کون التفکیک خلاف بناء العقلاء) بما ذهب إلیه الأصحاب هناک.

وأمّا روایة الهلال فالاستناد إلى کبراها أیضاً قابل للتأمّل.

ثانیهما: أنّ المستفاد من الحدیث قضیّة جزئیة خاصّة بصورة الشکّ بین الثلاثة والأربع، لأنّ مرجع تمام الضمائر فیه إنّما هو المصلّى، وإن أبیت عن ذلک فلا أقلّ من الإجمال.

والجواب عنه: إنّا نفهم الشمول والعموم من ثلاث قرائن:

1 ـ تناسب الحکم والموضوع.

2 ـ تعبیر الإمام(علیه السلام) بقوله: «لا یعتدّ بالشکّ فی حال من الحالات».

3 ـ قرینة خارجیة وهو إشتراک هذا الحدیث مع غیر واحد من روایات الاستصحاب فی التعبیر بـ «لا تنقض ...».

بقی هنا أمران:

الأمر الأوّل: فیما أورده المحقّق العراقی(رحمه الله) على ما یستفاد من کلام الشیخ الأعظم(رحمه الله) ـ من أنّ مقتضى الاستصحاب فی الشکّ فی الرکعات إتیان صلاة الاحتیاط متّصلة، فیکون موافقاً لمذاق العامّة (إلاّ إذا قامت قرینة خارجیة على خلافه) لأنّ مقتضى الاستصحاب عدم الإتیان بالرکعة الرابعة ـ ما حاصله: أنّ وجوب التشهّد والتسلیم على ما یستفاد من الأدلّة مترتّب على رابعیة الرکعة، وهذا لا یثبت باستصحاب عدم إتیانه إلاّ من باب الأصل المثبت، لأنّ إتّصاف الرکعة المأتیة بکونها رابعة من اللوازم العقلیّة لعدم الإتیان بها بمقتضى الاستصحاب(14).

ویجاب عنّه أوّلا: بکون الواسطة خفیّة فی نظر العرف قطعاً، ولولا ذلک یکون مورد روایات الباب أیضاً من الأصل المثبت، لأنّ المستصحب فیها هو الطهارة، بینما الأثر المطلوب ترتّبه علیها إنّما هو کون الصّلاة متّصفة بالطهارة أو مقیّدة بها، ولا یخفى أنّ تقیّد الصّلاة أو إتّصافها بها من اللوازم العقلیّة لوجود الطهارة.

وثانیاً: بأنّه لا دلیل على ترتّب وجوب التشهّد والتسلیم على رابعیة الرکعة، بل المستفاد من الأدلّة کون التسلیم فی آخر الصّلاة، کما ورد فی روایة القداح عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله علیه وآله): افتتاح الصّلاة الوضوء، وتحریمها التکبیر وتحلیلها التسلیم»(15).

فموضع التسلیم هو آخر الصّلاة، وهذا أمر ثابت بالوجدانوهکذا ما ورد فی أبواب التشهّد، وأنّه یأتی به فی بعض الصلوات مرّه وفی بعضها الآخر مرّتین (فلیس فیها أثر من تقییده بالرابعة).

الأمر الثانی: قد مرّ أنّ المقصود من قوله (علیه السلام) «یبنی على الیقین» هو العمل بالاحتیاط بإتیانه رکعة مفصولة، ولکن لابدّ أن نشیر هنا إلى أنّ هذا الاحتیاط احتیاط نسبی تعبّدی لأنّه بنفسه متضمّن لخلاف الاحتیاط فی اُمور أربع:

1 ـ وجوب إتیان التشهّد بعد الرکعة المردّدة، مع احتمال کونها هى الرکعة الثالثة.

2 ـ وجوب التسلیم بعد الرکعة المردّدة أیضاً، مع وجود نفس الاحتمال أیضاً.

3 ـ وجوب التکبیر لافتتاح صلاة الاحتیاط مع احتمال کونه فی أثناء الصّلاة.

4 ـ تخییره فی بعض الموارد بین إتیانها قائماً أو قاعداً مع أنّ الواجب على المکلّف السالم أن یأتی بالصلاه قائماً بالتعیین.

فظهر أنّ هذا عمل بالاحتیاط تعبّداً لابدّ فی کیفیة أدائه من بیان الشارع المقدّس.

نعم، یمکن أن یجاب عن الثلاثة الاُولى منها بأنّ التشهّد ذکر الله لا تضرّ زیادته بالصلاة، وأمّا السلام فهو وإن کان من کلام الآدمی، ولذلک لا یجوز الإبتداء به فی أثناء الصّلاة (ووجوب الجواب عنه فی أثنائها یکون من باب وجود دلیل خاصّ) ولکنّه صادق فی غیر السلام المأثور فی باب الصّلاة، وأمّا السلام المأثور فلا یصدق علیه أنّه من کلام الآدمیین، لأنّ المراد منه الکلام الرائج بین عامّة الناس والسلام الخاصّ بباب الصّلاة لیس من هذا القبیل، فتأمّل.

وأمّا تکبیرة الإحرام فهى توجب بطلان الصّلاة فیما إذا کانت فی أوّلها وافتتاحها، وأمّا إذا صدرت فی الأثناء فتعدّ من ذکر الله الحسن على کلّ حال.

فیتعیّن الإشکال فی خصوص الأخیر، وهو التخییر بین إتیان صلاة الاحتیاط قائماً أو قاعداً فی بعض موارد الشکّ فی الرکعات.

4 ـ ما رواه الصدوق(رحمه الله) فی الخصال بإسناده عن علی(علیه السلام) (فی حدیث الأربعمائة) قال: «من کان على یقین ثمّ شکّ فلیمض على یقینه، فإنّ الشکّ لا ینقض الیقین»(16).

وهذا الحدیث مع عمومه وسلامته عن إشکال خصوصیة المورد وسائر الإشکالات الواردة على الروایات السابقة، أورد علیها أیضاً سنداً ودلالة:

أمّا السند فللقاسم بن یحیى الذی ضعّفه العلاّمة فی الخلاصة، وابن داود فی رجاله.

نعم، یمکن أن یقال: الأصل فی هذا القدح ابن الغضائری الذی لا اعتبار بتضعیفاته وإن کان توثیقاته معتبرة، ولکنّه مع ذلک لم یوثّق، ولابدّ فی تصحیح السند من إثبات الوثاقة.

اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الناقل عنه أحمد بن محمّد بن عیسى القمّی الذی أخرج أحمد بن محمّد بن خالد البرقی عن قم لنقله عن الضعاف، ولکنّه أیضاً لیس أکثر من قرینة على الوثاقة لا دلیلا علیها.

وأمّا الدلالة فلأنّ المراد منها غیر واضح، فهل هى تدلّ على قاعدة الیقین أو قاعدة الاستصحاب؟ فلابدّ أوّلا من بیان الفرق بین القاعدتین، فنقول: قد مرّ کون زمان الشکّ والیقین فی الاستصحاب واحداً، وزمان متعلّقهما متعدّداً، وأمّا قاعدة الیقین فیکون (بالعکس) زمان المتعلّقین فیها واحداً، وزمان نفس الیقین والشکّ متعدّداً.

وفی هذا الحدیث هناک فقرة منه (وهى قوله(علیه السلام): «من کان على یقین ثمّ شکّ») تناسب قاعدة الیقین، لأنّها ظاهرة فی أنّ الشکّ حصل فی زمان آخر غیر زمان الیقین وتعلّق بنفس ما تعلّق به الیقین، وتناسب فقرة اُخرى منه الاستصحاب، وهى قوله(علیه السلام): «إنّ الشکّ لا ینقض الیقین» حیث إنّها ظاهرة فی بقاء الیقین حین حصول الشکّ، ولذلک نهى عن نقضه به، فالتعلیل الوارد فی هذا الحدیث ظاهر فی قاعدة الاستصحاب، وصدره ظاهر فی قاعدة الیقین، ولا إشکال فی أنّ ظهور التعلیل مقدّم، والذی یسهل الخطب هى قرینیة سائر الروایات کما لا یخفى.

5 ـ ما رواه علی بن محمّد القاسانی قال: «کتبت إلیه وأنا بالمدینة أسأله عن الیوم الذی یشکّ فیه من رمضان هل یصام أم لا؟ فکتب: الیقین لا یدخل فیه الشکّ، صمّ للرؤیة وافطر للرؤیة»(17).

وقد عدّه الشیخ الأعظم(رحمه الله) من أحسن روایات الباب، واختار المحقّق الخراسانی والمحقّق النائینی(رحمه الله)عدم دلالته رأساً، وذهب جماعة إلى دلالته فی الجملة.

فلابدّ حینئذ من البحث فیه سنداً ودلالة:

أمّا السند فاختلف فی أحمد بن محمّد القاسانی، قال بعض: أنّه متّحد مع أحمد بن محمّد الشیره وهو ثقة، وقال بعض آخر: أحمد بن محمّد الشیره ثقة والقاسانی ضعیف، فالسند مشترک لا یمکن الاعتماد علیه، مضافاً إلى إشکال الاضمار.

أمّا الدلالة فالعمدة من الاحتمالات الموجودة فیها إثنان:

أحدهما: ما ذکره الشیخ الأعظم (رحمه الله)، وهو أنّ الحدیث ناظر إلى الاستصحاب، والمراد من الیین هو الیقین بشهر شعبان والیقین بشهر رمضان، والمراد من الشکّ هو الشکّ فی شهر رمضان والشکّ فی شهر شوّال، وقوله (علیه السلام) «لا یدخل» أی «لا ینقض»، وقوله(علیه السلام): «صم للرؤیة وافطر للرؤیة» عبارة اُخرى عن قوله(علیه السلام): «انقضه بیقین آخر» فی بعض الروایات الاُخر.

ثانیهما: ما فی أجود التقریرات تبعاً للمحقّق الخراسانی(رحمه الله): وحاصله أنّ الحدیث أجنبی عن الاستصحاب لأنّه لم یعهد أن یکون «لا یدخل» بمعنى لا ینقض، بل المراد من الحدیث قاعدة الیقین فی خصوص باب رمضان، وهو أنّ الشارع إعتبر أن یکون صوم شهر رمضان وإفطاره یقینیین(18).

وقد اعتمد المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی هذا على روایات اُخرى وردت فی الباب وهى کثیرة:

منها: ما رواه الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «إنّه سئل عن الأهلّة فقال هى أهلّة الشهور، فإذا رأیت الهلال فصم وإذا رأیته فأفطر»(19).

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: إذا رأیتم الهلال فصوموا، وإذا رأیتموه فأفطروا، ولیس بالرأی ولا بالتظنّی ولکن بالرؤیة»(20).

ومنها: ما رواه عمرو بن عثمان والفضل وزید الشحّام جمیعاً عن أبی عبدالله(علیه السلام): «أنّه سئل عن الأهلّة، فقال: هى أهلّة الشهور، فإذا رأیت الهلال فصم وإذا رأیته فأفطر الحدیث»(21). إلى غیر ذلک.

وظاهرها اعتبار حصول القطع والیقین بمشاهدة الهلال، فلیکن الروایة الثالثة عشر من هذا الباب (وهى روایة القاسانی المذکورة) أیضاً کذلک.

وأمّا الاحتمالات الاُخرى فی الحدیث فهى ثلاثة:

1 ـ أن یکون المراد من الحدیث لزوم العمل على الیقین بدخول شهر رمضان فقط، وهو جزء من احتمال المحقّق الخراسانی (رحمه الله).

وأورد علیه بأنّه ینافی ذیل الحدیث: «وأفطر للرؤیة».

2 ـ أن یکون المراد منه اعتبار الیقین فی کلّ یوم من شهر رمضان لا خصوص الأوّل والآخر.

وفیه: أنّه یستلزم عدم وجوب الصیام فی الیوم الآخر المشکوک کونه من رمضان أو من شوّال، ولا یقول به أحد.

3 ـ أن یکون الحدیث ناظراً إلى قاعدة الإشتغال أساساً (الإشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیة).

ویرد علیه: أنّ لازمه وجوب الصیام فی الیوم الأوّل المشکوک کونه من رمضان أو من شعبان، وهو أیضاً لا یقول به أحد.

ثمّ إنّه یستفاد من مجموع کلمات المحقّق الخراسانی والمحقّق النائینی والمحقّق الأصفهانی(رحمه الله)مؤیّدات لیکون المراد من الحدیث قاعدة الیقین فی خصوص باب الصوم، أی اعتبار الیقین فی الصیام والإفطار، وأنّه لیس ناظراً إلى الاستصحاب:

منها: التعبیر بـ «لا یدخل» عوضاً عن التعبیر بـ «لا ینقض».

ومنها: الأحادیث الواردة فی الباب الثالث من أبواب أحکام شهر رمضان کروایة سماعة (رفاعة) قال: «صیام شهر رمضان بالرؤیة ولیس بالظنّ»(22).

وروایة إسحاق بن عمّار عن أبی عبدالله(علیه السلام) أنّه قال: «فی کتاب علی(علیه السلام) صمّ لرؤیته وافطر لرؤیته وإیّاک والشکّ والظنّ ...»(23).

وروایة إبراهیم بن عثمان الخزّاز عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث قال: «إنّ شهر رمضان فریضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّی»(24).

فلا یخفى أنّ الملحوظ فی هذه الروایات کون صیام رمضان بالرؤیة والمشاهدة وأنّ الظنّ لا یکفی فیه، ولا نظر لها إلى الیقین بشهر شعبان حتّى یتوهّم أنّها فی مقام بیان الاستصحاب.

ویمکن الاستشهاد أیضاً بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمْ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ)بناءً على أن یکون المراد من الشهود مشاهدة الهلال.

ولکنّه یندفع بذیل الآیة الواردة فی حقّ المسافر وکذلک بالروایات الواردة فی تفسیرها، فإنّها تدلّ على أنّ الشهود بمعنى الحضور فی الوطن فی مقابل السفر.

ومنها: تفریع الإمام (علیه السلام) قوله «الیقین لا یدخل فیه الشکّ» بقوله: «صم للرؤیة وافطر للرؤیة»، حیث إنّه لو کان المراد منه الاستصحاب لکان المناسب أن یقول: فلا تصم عند الشکّ فی رمضان ولا تفطر عند الشکّ فی شوّال» فإنّ تعبیره بالرؤیة شاهد على أنّ المراد هو قاعدة الیقین المختصّة بباب الصیام.

ومنها: أنّه لو کان المراد الاستصحاب للزم أن یکون الیقین بمعنى المتیقّن، وهو خلاف الظاهر.

أقول: یمکن الجواب عن جمیع هذا بما ملخّصه: أنّه لا تضادّ بین المعنیین بل إنّهما متلازمان، لأنّ لازم حجّیة الاستصحاب اعتبار القطع والیقین فی وجوب الصیام ووجوب الإفطار، فالعدول من أحد التعبیرین إلى الآخر ممّا لا إشکال فیه.

توضیح ذلک: أمّا المؤیّد الأوّل ففیه أنّ الدخول والنقض متلازمان لأنّ النقض بمعنى عقد البناء أو عقد الحبل، ولازم نقض البناء مثلا دخول الماء ونفوذه فیه.

وأمّا المؤیّد الثانی فمقتضى الجمع بین هذه الروایات والروایات الواردة فی الباب الثالث عشر حصول الاطمئنان أیضاً بأنّ هذه الروایات تکون فی مقام بیان لازم الاستصحاب ونتیجته، وهکذا بالنسبة إلى المؤیّد الثالث.

وأمّا المؤیّد الرابع فجوابه أنّ الیقین فی الغالب طریق إلى المتیقّن، فیکون ناظراً غالباً إلى المتیقّن کما هو کذلک فی الروایات الثلاثة لزرارة التی لا إشکال فی دلالتها على الاستصحاب.

فظهر أنّ الأرجح فی النظر بالنسبة إلى هذا الحدیث إنّما هو کلام الشیخ(رحمه الله)وهو دلالته على الاستصحاب.

6 ـ ما رواه عمّار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «کلّ شیء نظیف حتّى تعلم أنّه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فلیس علیک»(25).

ونظیره ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «الماء کلّه طاهر حتّى یعلم أنّه قذر»(26).

وکذلک ما رواه معاویة بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال: «کنت عند أبی جعفر(علیه السلام)فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر(علیه السلام): أنّه طعام یعجبنی وساُخبرک عن الجبن وغیره، کلّ شیء فیه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعینه»(27).

وغیره من روایات الباب (الباب 61، من أبواب الأطعمة المباحة) وعلى هذا فالروایات المتظافرة بهذا المضمون، وهو یغنینا عن البحث فی إسنادها.

وأمّا الدلالة: فالأقوال فیها خمسة لابدّ لتوضیحها من بیان مقدّمة، وهى أنّ هنا نوعین من الطهارة أو الحلّیة: أحدهما الطهارة أو الحلّیة الواقعیة، والثانی الطهارة أو الحلّیة الظاهریّة، والظاهریّة بنفسها أیضاً على قسمین: الطهارة أو الحلّیة المستفادة من قاعدة الطهارة أو قاعدة الحلّیة التی لا تلاحظ فیها الحالة السابقة، والطهارة أو الحلّیة المستفادة من قاعدة الاستصحاب الملحوظة فیها الحالة السابقة.

والبحث فی ما نحن فیه فی أنّه هل هذه الطهارة أو الحلّیة واقعیّة أو ظاهریّة؟ وعلى فرض کونها ظاهریّة هل هى من باب تطبیق قاعدة الطهارة أو الحلّیة، أو من باب تطبیق قاعدة الاستصحاب.

ولا یخفى أنّ هذا القبیل من الروایات إنّما یفیدنا فی المقام إذا کانت الحلّیة أو الطهارة فیها ظاهرة أوّلا، ومن باب قاعدة الاستصحاب ثانیاً.

وکیف کان، فالأقوال فی المسألة خمسة:

1 ـ قول المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی حاشیة الرسائل بأنّها ناظرة إلى الواقعیّة والظاهریّة بکلتا قسمیها.

2 ـ القول بأنّها ناظرة إلى الواقعیّة بصدرها، واستصحاب الطهارة أو الحلّیة بذیلها، ولا نظر لها إلى قاعدة الحلّیة أو قاعدة الطهارة، وهذا هو ظاهر المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی الکفایة.

3 ـ أن یکون صدر الروایة ناظراً إلى قاعدة الحلّیة أو قاعدة الطهارة، وذیلها إلى قاعدة الاستصحاب، وهذا هو قول صاحب الفصول، ولعلّه أوّل من استدلّ بها على الاستصحاب فی المقام.

4 ـ أن تکون ناظرة إلى قاعدة الطهارة أو الحلّیة فحسب، وهذا منسوب إلى المشهور.

5 ـ قول الشیخ الأعظم(رحمه الله) فی الرسائل وهو التفصیل بین حدیث «الماء کلّه طاهر حتّى یعلم أنّه قذر» فیکون ناظراً إلى الحکم الواقعی والاستصحاب، وبین حدیثین آخرین (حدیث کلّ شیء نظیف(28)... وحدیث کلّ شیء لک حلال) فیکونان ناظرین إلى خصوص القاعدة.

واستدلّ القائلون بعدم دلالة هذا الحدیث على الطهارة الواقعیّة:

أوّلا بأنّ الطهارة والنجاسة أمران طبیعیان عرفیّان لا مجعولان شرعیّان.

أضف إلى ذلک أنّه لو کانتا مجعولین من ناحیة الشرع المقدّس للزم إمکان خلوّ الواقع من کلیهما، وهو خلاف إرتکاز المتشرّعة.

ویرد علیه: أنّ الطهارة والنجاسة أمران مجعولان من ناحیة الشارع قطعاً وأنّ النسبة بین الطهارة والنجاسة الشرعیتین والطهارة والنجاسة العرفیتین عموم من وجه، فربّ شیء نظیف بحسب الإرتکاز العرفی ولکنّه نجس وقذر شرعاً، کالکافر النظیف وعرق الجنب عن الحرام الذی لا فرق بینه وبین عرق الجنب عن الحلال عند العرف (بناءً على ما ذکره المشهور من نجاسة الکافر، وما ذهب إلیه جمع من الأصحاب من نجاسة عرق الجنب من الحرام)، وربّ شیء طاهر شرعاً ولکنّه قذر عرفاً، کالمسلم غیر النظیف وغسالة الإستنجاء.

وأمّا ما ذکر من اللازم فإنّا نلتزم به ولا ضیر فیه، فلا إشکال فی إمکان خلوّ الواقع عن کلّ واحد من الطهارة والنجاسة.

وأمّا إرتکاز المتشرّعة فهو مختصّ بالوقوع الخارجی ومقام الإثبات لا بالإمکان ومقام الثبوت.

واستدلّوا ثانیاً: بأنّ الحدیث ناظر إلى الحکم الظاهری، وإنّ نظره إلى الحکم الواقعی یستلزم منه الجمع بین اللحاظین فی آن واحد.

توضیح ذلک: أنّ کلمة «شیء» الواردة فی الحدیث لو کان المراد منه الشیء الواقعی فیکون هو الشیء بعنوانه الأوّلی، أی الشجر مثلا بما هو شجر، والفاکهة بما هى فاکهة، ولو کان المراد منه الحکم الظاهری فیکون المراد منه الشیء بما هو مشکوک، ولا یخفى أنّ الحکم الظاهری متأخّر عن الحکم الواقعی برتبتین، فإنّ الحکم الواقعی متأخّر عن موضوعه برتبة، والشکّ فیه موضوع للحکم الظاهری، فیکون الحکم الظاهری متأخّراً عن الحکم الواقعی برتبة اُخرى، ومع هذا لا یمکن کون لفظ واحد فانیاً فی المعنیین فی آن واحد.

وهکذا بالنسبة إلى کلمة «نظیف» (أو طاهر) فلا یمکن أن یرید منه النظافة الواقعیّة والظاهریّة معاً بنفس البیان.

وکذلک بالنسبة إلى قوله(علیه السلام): «حتّى تعلم» لأنّه إذا کان المراد من الطهارة الطهارة الواقعیة کان العلم فیها مأخوذاً بعنوان الطریق إلى الواقع، لأنّه لا یمکن أن تکون الطهارة الواقعیة مغیّاة بالعلم بالنجاسة، بل إنّها مغیّاة بالنجاسة الواقعیّة.

وإن کان المراد منها الطهارة الظاهریة کان العلم فیها مأخوذاً بعنوان الموضوع، لأنّ العلم یرتفع به موضوع الطهارة الظاهریة وهو الشکّ.

ولا إشکال فی أنّ اللحاظ فی العلم الطریقی آلی، وفی الموضوعی استقلالی، والجمع بینهما محال، وحینئذ نقول: لا کلام فی کون الطهارة الظاهریة مرادة قطعاً، فیستحیل أن تکون الطهارة الواقعیّة أیضاً مرادة.

ولکن یمکن الجواب عنه: بأنّ کلّ هذه مبنى على مبنى فاسد فی حقیقة الاستعمال، وهو أنّ حقیقة الاستعمال فناء اللفظ فی المعنى کما هو مختار المحقّق الخراسانی ومن تبعه، وأمّا إذا قلنا بأنّ الاستعمال نوع من التعهّد والالتزام، أی التعهّد بأنّ هذا اللفظ علامة لهذا المعنى فلا إشکال فی البین ولا استحالة.

إن قلت: فکیف یکون المتکلّم غافلا عن اللفظ وملتفتاً إلى خصوص المعنى حین التلفّظ؟ وکیف یسری القبح أو الحسن من المعنى إلى اللفظ؟

قلنا: کلّ هذا لأجل کثرة الاستعمال، ولا ربط بالفناء ونحوها، وإن أبیت فانظر إلى من کان حدیث العهد بلغة جدیدة، فإنّه ینظر إلى اللفظ أیضاً حین الاستعمال، ولا یحسّ قبحاً أو حسناً بالنسبة إلى الألفاظ التی لها معان قبیحة أو معان حسنة، فإذا ضممنا هذا إلى ما اخترناه فی محلّه من جواز استعمال لفظ واحد فی أکثر من معنى بلا إشکال، وإنّ کثیراً من البدائع والظرائف الکلامیة مبنیة علیه (کما جاء فی قول الشاعر:

المرتمى فی الدجى والمبتلى بعمى *** والمبتغی دیناً والمشتکی ظمأً

یأتون سدّته من کلّ ناحیة *** ویستفیدون من نعمائه عیناً

والنتیجة إندفاع إشکال الجمع بین اللحاظین، کما مرّ تفصیله فی محلّه.

إلى هنا ثبت إمکان إرادة المعانی الثلاثة معاً (الحکم الواقعی والقاعدة والاستصحاب) من الحدیث وأنّه لا استحالة فیه.

لکن الکلام بعدُ فیما هو الظاهر منه، فنقول: الصحیح أنّ الظاهر منه بصدره وذیله وبغایته ومغیّاه إنّما هو قاعدة الطهارة والحلّیة، کما نسب إلى المشهور، فلا یستفاد منها الحکم الواقعی ولا الاستصحاب، وذلک لقرائن مختلفة:

أحدها: أنّ الغایة (وهى کلمة «حتّى تعلم») سواء کانت قیداً للموضوع (أی کلّ شیء مقیّد بعدم العلم بنجاسته طاهر) أو کان قیداً للحکم (أی کلّ شیء طاهر بالطهارة المقیّدة بعدم العلم بالنجاسة) أو کان قیداً للنسبة کما هو الموافق مع الوجدان العرفی والإرتکاز العقلائی (أی أنّ الطهارة ثابتة ما لم یعلم بالنجاسة) لا تناسب کون المراد الحکم الواقعی، لأنّ الأحکام الواقعیّة مغیّاة بقیود واقعیّة وعناوین حقیقیة، ولیست تابعة للعلم والجهل، فإنّ ماء الکرّ مثلا طاهر واقعاً إلى أن یتغیّر لونه أو طعمه أو ریحه بالنجاسة واقعاً، لا إلى أن یعلم بتغیّره.

الثانیة: أنّ العرف إذا اُعطیت بیده الغایة (حتّى تعلم) یؤخذ ضدّها (وهو الشکّ) فی موضوع المغیّى فیحکم بأنّ المغیّى فی ما نحن فیه عبارة عن «کلّ شیء مشکوک»، أی «کلّ شیء مشکوک طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، أو «کلّ شیء طاهر ما دمت فی شکّ حتّى تعلم أنّه قذر»، ولا یخفى أنّ المأخوذ فی موضوعه الشکّ حکم ظاهری لا واقعی.

الثالثة: ظاهر التعبیر بـ «حتّى تعلم أنّه قذر» أنّه قد سبقه جعل حکم واقعی بالطهارة أو القذارة ثمّ شکّ فیه، فلا یکون المقام إلاّ مقام الحکم الظاهری.

هذه قرائن یندفع بها احتمال إرادة الحکم الواقعی، ویثبت أنّ الظاهر هو جعل حکم ظاهری، وحینئذ یبقى الکلام فی أنّ الظاهر من الحدیث هل هو قاعدة الطهارة أو الحلّیة، أو الظاهر منه استصحاب أحدهما؟ فنقول: الصحیح هو الأوّل، لأنّ معنى الاستصحاب یحتاج إلى ما یدلّ على استمرار الحالة السابقة، وهو غیر ظاهر فی الحدیث.

إن قلت: یدلّ علیه کلمة «حتّى»، لأنّها تدلّ على الاستمرار.

قلنا: هذا الاستمرار إنّما هو من جهة بقاء الحکم ببقاء موضوعه الثابت فی جمیع الموارد، لا الاستمرار الاستصحابی، فمعنى الحدیث أنّ حکم الطهارة ثابت لمشکوک الطهارة ما دام مشکوکاً، وأین هذا من الاستصحاب؟

إن قلت: یمکن أن یکون صدر الحدیث ناظراً إلى الحکم الواقعی وذیله إلى الاستصحاب (کما هو ظاهر المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی الکفایة) فیکون المعنى فی الواقع: «الأشیاء بعناوینها الواقعیة طاهرة، ویستمرّ هذا الحکم عند الشکّ حتّى تعلم أنّه نجس»، فیصیر «حتّى تعلم» غایة للجملة المقدّرة (أی لجملة «یستمرّ هذا الحکم») لا للحکم الواقعی حتّى یستشکل بعدم إمکان وقوع العلم غایة له.

قلنا: التقدیر خلاف الظاهر ومحتاج إلى قرینة، وهى مفقودة فی المقام.

إن قلت: أی مانع فی أنّ یکون صدر الحدیث ناظراً إلى القاعدة وذیله إلى الاستصحاب مع عدم ابتلائه بإشکال التقدیر؟

قلنا: هذا غیر ممکن فإنّه لولا التقدیر لکان الذیل غایة لما ثبت فی الصدر، فکما أنّ الذیل ناظر إلى الحکم الظاهری (أی الطهارة للمشکوک) لابدّ أن یکون صدره کذلک.

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ ما نسب إلیه المشهور هو الحقّ، وهو أنّ الحدیث دالّ على خصوص القاعدة بصدره وذیله.

بقی هنا شیء:

وهو استشهاد المحقّق الخراسانی(رحمه الله) لإثبات مقالته فی الحدیث (وهو أنّ صدر الحدیث ناظر إلى حکم الله الواقعی وذیله إلى الاستصحاب) بما ورد فی ذیل الحدیث، وهو «فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فلیس علیک»، حیث إنّ الفقرة الاُولى وهى (فإذا علمت فقد قذر) بمنزلة قوله(علیه السلام): «بل إنقضه بیقین آخر» والفقرة الثانیة وهى قوله(علیه السلام): «وما لم تعلم فلیس علیک» بمنزلة قوله(علیه السلام): «لا تنقض الیقین بالشکّ» فتکون الفقرتان متلائمتین ومرتبطتین معاً بالاستصحاب، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ صدر الروایة ناظر إلى القاعدة وذیلها إلى الاستصحاب، حیث إنّه حینئذ لابدّ من أن تکون الفقرة الثانیة ناظرة إلى قاعدة الطهارة، لأنّ معنى «ما لم تعلم» هو الشکّ الذی یکون موضوعاً لها، مع أنّ الفقرة الاُولى ناظرة إلى الاستصحاب بلا ریب، وبهذا یلزم التفکیک بین الفقرتین، وهو خلاف الظاهر، حیث إنّ الظاهر کون الثانیة من قبیل المفهوم للاُولى.

والجواب عنه: أنّه کذلک فیما إذا دار الأمر بین إرادة الحکم الواقعی والاستصحاب من الحدیث، أو القاعدة والاستصحاب، وأمّا بناءً على المختار (من کون الحدیث بصدره وذیله ناظراً إلى القاعدة) فیکون المراد من الفقرة الاُولى بیان أنّ الحکم یرتفع إذا تبدّل موضوع القاعدة وهو الشکّ إلى العلم، ومن الفقرة الثانیة بیان أنّ هذا الحکم ثابت ما دام الموضوع باقیاً، فهما ناظران إلى طرفی مفهوم واحد.

7 ـ ومن الروایات ما رواه عبدالله بن سنان قال: «سأل أبی أبا عبدالله(علیه السلام) وأنا حاضر، أنّی اُعیر الذمّی ثوبی وأنا أعلم أنّه یشرب الخمر ویأکل لحم الخنزیر فیردّه علیّ فأغسله قبل أن اُصلّی فیه؟ فقال أبو عبدالله(علیه السلام): صلّ فیه ولا تغسله من أجل ذلک فإنّک أعرته إیّاه وهو طاهر ولم تستیقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّی فیه حتّى تستیقن أنّه نجّسه»(29).

ولکن الإنصاف أنّها من الروایات الخاصّة التی لا یستفاد منها العموم، ولو سلّمنا ظهور التعلیل الوارد فیها فی العموم إلاّ أنّه مختصّ أیضاً بباب الطهارة والنجاسة ویشکل التعدّی عنه إلى غیره، فالأولى جعلها مؤیّدة للمقصود.

8 ـ ومنها ما رواه عبدالله بن بکیر عن أبیه قال: قال لی أبو عبدالله (علیه السلام): «إذا استیقنت إنّک قد أحدثت فتوضّأ، وإیّاک أن تحدث وضوء أبداً حتّى تستیقن أنّک قد أحدثت»(30).

وهذا أیضاً خاصّ بباب الوضوء وإن کان تعلیق الحکم فیه على وصف الیقین مشعراً العلّیة، فالأولى أیضاً جعلها مؤیّدة.


1. راجع نهایة الدرایة: ج5 ـ 6، ص12-31
2. راجع نهایة الدرایة: ج5 ـ 6، ص29، طبع مؤسسة آل البیت(علیهم السلام).
3. سورة النجم: الآیة23.
4. سورة یونس: الآیة66.
5. راجع نهایة الدرایة: ج6 ـ 6، ص30 ـ 31.
6. وهذا نظیر ما قد یقال فی باب قیمة الذهب فی جمیع الأعصار والأمصار من أنّها نوع من الإلهام الغیبی لتنظیم معاشهم الاقتصادی.
7. أجود التقریرات: ج2، ص357.
8. مبادىء الوصول إلى علم الاُصول: ص251.
9. وسائل الشیعة: ج1، أبواب نواقض الوضوء، الباب1، ح1.
10. ولعلّ من هذا الباب بدّل صاحب الفصول الضمیر باسم الظاهر، وإلاّ فمن البعید جدّاً حصوله على منبع ذکر فیه اسم الظاهر مقام الضمیر ولم یصل إلینا مع أنّه قریب العصر منّا.
11. وسائل الشیعة: ج2، أبواب النجاسات، ح2، من الباب42، وح1، من الباب41، مع ما ورد فی الهامش، وح1، من الباب44، وح1، من الباب37، فأنت بالمراجعة إلى هذه المواضع الخمسة تجد الروایة إلى قوله(علیه السلام): «الذی وقع فی نفسک» وبمراجعتک إلى التهذیب: ج1، ص421 طبع الآخوندی تجدها بمجموعها.
12. وسائل الشیعة: ج5، الباب10 و11، من أبواب الخلل، ح3، فی کلا البابین.
13. راجع نهایة الأفکار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص58.
14. راجع نهایة الأفکار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص59 ـ 60.
15. وسائل الشیعة: الباب1، من أبواب التسلیم، ح1.
16. وسائل الشیعة: ج1، أبواب نواقض الوضوء، الباب1، ح1.
17. وسائل الشیعة: ج7، أبواب أحکام شهر رمضان، الباب3، ح13.
18. راجع أجود التقریرات: ج2، ص373، طبع مؤسسة مطبوعات دینی.
19. وسائل الشیعة: الباب3، من أبواب أحکام شهر رمضان، ح1.
20. المصدر السابق: ح2.
21. وسائل الشیعة: الباب 3، من أبواب أحکام شهر رمضان، ح3.
22. المصدر السابق: ح6.
23. وسائل الشیعة: الباب 3، من أبواب أحکام شهر رمضان، ح11.
24. المصدر السابق: ح16.
25. وسائل الشیعة: الباب37، من أبواب النجاسات، ح4.
26. المصدر السابق: ح5.
27. المصدر السابق: ح7.
28. لا یخفى أنّ تعبیر الشیخ الأعظم(رحمه الله) فی الرسائل عن هذا الحدیث: «کلّ شیء طاهر حتّى یعلم ورود النجاسة علیه» بینما الوارد فی الوسائل إنّما هو «کلّ شیء نظیف حتّى تعلم أنّه قذر» (وسائل الشیعة: أبواب النجاسات، الباب37، ح4).
29. وسائل الشیعة: الباب74، من أبواب النجاسات، ح1.
30. وسائل الشیعة: الباب1، من أبواب نواقض الوضوء، ح7.

 

الأمر السابع: الفرق بین قاعدة الاستصحاب وقاعدتى الیقین والمقتضی والمانعنتیجة البحث فی أدلّة الاستصحاب
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma