إذا اختلفت العلماء فی العلم والفضیلة فهل یجب على العامی إختیار الأعلم، أو لا؟
المعروف بین الأصحاب وجوب تقلید الأعلم، بل حکی عن المحقّق الثانی(رحمه الله) دعوى الإجماع علیه، بل عن السیّد المرتضى(رحمه الله) أنّه من المسلّمات عند الشیعة، ومع ذلک کلّه حکی عن جماعة من المتأخّرین عدم وجوبه.
وهنا قول ثالث وهو مختارنا ومختار جماعة اُخرى، وهو التفصیل بین ما علم إجمالا أو تفصیلا بوجود الخلاف فیه مع کونه محلا للابتلاء فیکون تقلید الأعلم واجباً، وبین غیره من سائر الموارد فلا یکون واجباً، ولعلّ مقصود من یدّعی الإجماع فی وجوب تقلید الأعلم إنّما هو الصورة الاُولى فقط.
وکیف کان: لا إشکال فی أنّ الأصل فی المسألة هو عدم حجّیة قول غیر الأعلم لما مرّ فی أوّل مبحث الظنّ من أنّ الأصل فی موارد الشکّ فی حجّیة الظنون هو عدم الحجّیة.
وإن شئت قلت: إنّا نعلم إجمالا باشتغال الذمّة بعدّة من التکالیف الشرعیّة والاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة، وهى لا تحصل إلاّ بالعمل بآراء الأعلم.
ومن هنا یظهر بطلان کلام من توهم أنّ الأصل فی المسألة هو الجواز من باب أنّ الأمر فیها یدور بین التعیین والتخییر، والأصل فیه التخییر، فإنّ فی التعیین کلفة زائدة تنفی بأصالة البراءة.
وذلک لأنّ أصالة التخییر عند دوران الأمر بین التعیین والتخییر إنّما هى فی باب التکالیف أی فیما إذا کان الشکّ فی أصل التکلیف لا فی ما إذا کان الشکّ فی الحجّیة، فإنّ أصالة التخییر فی الواقع عبارة عن أصالة البراءة عن تلک الکلفة الزائدة الموجودة فی التعیین، ولا إشکال فی أنّ مجرى أصالة البراءة إنّما هى التکالیف.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ على جواز تقلید غیر الأعلم باُمور:
الأمر الأوّل: أنّ المسألة من باب دوران الأمر بین التعیین والتخییر، وقد مرّ بیانه والجواب عنه آنفاً.
الأمر الثانی: قاعدة العسر والحرج ببیان أنّ معرفة مفهوم الأعلم (وهل هو عبارة عن الأعلم بالاُصول، أو الأعلم بالفروع والتفریعات، أو من هو أعلم فی تشخیص المذاق العرفی والظواهر عند العرف، أو من هو أعلم فی علم الرجال، أو من هو أدقّ نظراً من غیره، أو جمیع هذه؟) أولاً، ومعرفة مصادیقه ثانیاً، مشکل جدّاً لتلامذه الأعلام المجتهدین فضلا عن العوام المقلّدین، ولذلک یجاب غالباً عند السؤال عن الأعلم» بـ «أنّی لا أعرف مصداق الأعلم ولکن فلان یجوز تقلیده» أو «کلّ واحد من فلان وفلان یجوز تقلیده».
والجواب عنه: أوّلا المنع عن الکبرى فإنّه لا عسر ولا حرج فی تعیین مفهوم الأعلم لأنّ المراد منه «من یکون أعرف بالقواعد والمدارک للمسألة، وأکثر إطّلاعاً لنظائرها وأشباهها، وأجود فهماً للأخبار الواردة فیها، والحاصل أن یکون أجود إستنباطاً» وقد ذکر هذا التعریف المحقّق الیزدی فی العروة الوثقى فی المسألة 17، ولم یعلّق علیه أحد من المحشّین فیما رأینا.
توضیح ذلک: أنّ الأعلم فی علم الطبّ مثلا من هو أحسن معالجة للأمراض وأدقّها فی دواء الداء، والأعلم فی البناء من هو یقدر على بناء أحسن الأبنیة من دون فرق بین أن یکون تلمیذاً أو اُستاذاً، فربّ تلمیذ یکون أعلم من اُستاذه، کما لا فرق بین أن یکون شاباً أو کهلا، فربّ مجتهد شابّ یکون أعلم من الشیخ الهرم وإن کان الشیخ أکثر حنکاً وتجربة وأکثر تسلّطاً على إعمال المصطلحات واستخدام القواعد، فإنّ المعیار هو شدّة القوّة والقدرة على إستخراج الأحکام الشرعیّة من أدلّتها.
نعم، إنّ تشخیص مصداق هذا المعنى مشکل جدّاً، ولکنّه فیما إذا کان البُعد والمسافة بین الأفراد قصیرة، أمّا إذا کانت التفاوت العلمی بینهم کثیر فلا عسر ولا حرج فی تشخیص الأعلم وتعیینه، کما أنّه کذلک فی باب الطبابة وغیرها.
وثانیاً: سلّمنا وجود العسر والحرج فیه، ولکن قد ذکرنا فی محلّه أنّ الحرج فی بابه شخصی لا نوعی، فوظیفة تعیین الأعلم تسقط عن کلّ من یقع فی العسر والحرج لا عن الجمیع.
کما أنّه کذلک فی باب الوضوء والصیام ونحوهما، فإذا لم یکن التوضّی بالماء لشخص زید حرجاً، لم یسقط عنه وإن کان لغیره حرجاً ومشقّة.
وثالثاً: إنّ أکثر ما یلزم من العسر والحرج إنّما هو التخییر بین عدّة من المجتهدین الذین هم فی مظنّة الأعلمیّة، لا أن یسقط اعتبارها برأسها، فیجوز تقلید غیرهم من آحاد المجتهدین وإن کانوا بمکان بعید من الأعلمیّة.
الأمر الثالث: (وهو العمدة) الرجوع إلى إطلاقات آیة النفر أو آیة السؤال أو اطلاق الروایات التی استدلّ بها للمقام (کقوله(علیه السلام) «فللعوام أن یقلّدوا») فإنّ آیة النفر لا تقول: «ولینذر أعلمهم» ولیس فی آیة السؤال «فاسألوا أعلمهم» وفی الروایة: «فللعوام أن یقلّدوا أعلمهم» وفی روایة اُخرى: «فارجعوا إلى أعلم رواة أحادیثنا» وهکذا الروایات التی ترجع المکلّفین إلى أصحابهم(علیهم السلام).
ویرد علیه: أوّلا: أنّ هذه الإطلاقات منزّلة على بناء العقلاء وإمضاء له فإنّه قد مرّ أنّ الأساس فی باب التقلید إنّما هو بناء العقلاء، وهو قائم على تقلید الأعلم فی موارد العلم بالمخالفة على الأقل، والظاهر أنّ الإطلاقات المذکورة ناظرة إلى دائرة هذا البناء لا أن تکون رادعة عنها وموسعة لها.
ثانیاً: قد مرّ أیضاً أنّ إطلاقات أدلّة الحجّیة لا تعمّ الحجّتین المتعارضتین کما فی ما نحن فیه، وحینئذ لابدّ أن یقال إمّا بتعارضهما ثمّ تساقطهما، أو یقال بأنّ القدر المتیقّن منهما هو الأعلم، ولا ریب فی أنّ المتعیّن هو الثانی.
هذا کلّه فی أدلّة المنکرین لإعتبار الأعلمیّة.
وأمّا أدلّة وجوب تقلید الأعلم فأوّلها: الإجماع، بل نقل عن السیّد المرتضى(رحمه الله) أنّه من مسلّمات الشیعة.
ولکن لا إشکال فی أنّه مدرکی.
والثانی: سیرة العقلاء، وهى العمدة، فإنّه کما أشرنا آنفاً لا أقلّ من بنائهم على تقلید الأعلم فی موارد العلم بالمخالفة کما إذا وقع الإختلال بین الأطباء أو بین خبراء أی فنّ من الفنون الاُخرى.
نعم لازم هذا الدلیل ما سیأتی من التفصیل فانتظر.
الثالث: الروایات:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة.
واُجیب عنها أوّلا: أنّها مخصوصة بباب القضاء، ولا ریب فی أنّ فصل الخصومة فیه لا یمکن إلاّ بالرجوع إلى الأعلم عند اختلاف القضاة.
ثانیاً: أنّ المراد من الأعلمیّة فی مورد الروایة هى الأعلمیّة بالنسبة إلى مورد المخاصمة لا مطلق الموارد کما هو محلّ النزاع فی المقام، فتأمّل.
وقد إستشکل فیها أیضاً من ناحیة السند، ولکنّه قد مرّ أنّ الأصحاب تلقّوه بالقبول حتّى سمّیت مقبولة.
ومنها: ما جاء فی عهده(علیه السلام) إلى مالک الأشتر النخعی: «فاختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک»(1).
ولکنّه أیضاً خاصّ بباب القضاء وفصل الخصومة الذی لا إشکال فی اعتبار اختیار أعلم القضاة فیه عند اختلافهم، هذا أوّلا.
وثانیاً: إنّ عهده(علیه السلام) إلى مالک الأشتر مشتمل على مستحبّات کثیرة وأوصاف غیر لازمة للحاکم أو القاضی التی هى کمال لهما (لا سیّما فی هذا المورد، فقد ذکر فیه إثنا عشر صفة ـ کثیر منها صفات کمال)، فلا یمکن استفادة اللزوم من فقرة من فقراته بمجرّد التعبیر بصیغة الأمر.
ومنها: ما رواه فی البحار عن کتاب الاختصاص قال: قال رسول الله (صلى الله علیه وآله): «وإنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها ومن دعى الناس إلى نفسه وفیهم من هو أعلم منه لم ینظر الله إلیه یوم القیامة»(2).
وفیه: أنّ التعبیر بالرئاسة قرینة على أنّ الحدیث ورد فی مقام بیان شرائط الولایة والحکومة لا المرجعیّة للتقلید، ولا ملازمة بین الأمرین کما لا یخفى، مضافاً إلى ضعف سنده.
ومنها: ما رواه فی البحار أیضاً عن الإمام الجواد (علیه السلام) ـ أنّه قال مخاطباً عمّه ـ «یاعمّ أنّه عظیم عند الله أن تقف غداً بین یدیه فیقول لک لِمَ تفتی عبادی بما لم تعلم وفی الاُمّة من هو أعلم منک»(3).
وفیه: أنّه ضعیف من ناحیة السند، مضافاً إلى ضعف الدلالة لأنّه فی مقام النهی عن إفتاء الجاهل وغیر العالم فی مقابل العالم لا العالم فی مقابل الأعلم، وذلک لمکان التعبیر بـ «ما لم تعلم» الظاهر فی الجاهل لا فی العالم بالنسبة إلى الأعلم منه.
فتلخّص أنّ جمیع الروایات التی استدلّ بها فی المقام غیر تامّة دلالة أو سنداً، وهکذا الإجماع، بل التامّ إنّما هو بناء العقلاء وهو أیضاً لا یقتضی وجوب تقلید الأعلم مطلقاً بل مقتضاه هو التفصیل الآتی ذکره.