وفیه یبحث أیضاً عن مسألة العدول عن مجتهد إلى آخر، من حی إلى حی أو من میّت إلى حی لاشتراک المسألتین فی الأدلّة، وهو بحث مبتلى به کثیراً، ویطرح تارةً بالنسبة إلى المجتهد نفسه فی العمل برأیه، واُخرى بالنسبة إلى مقلّدیه.
کما أنّ الکلام فیه تارةً یقع فی العبادات واُخرى فی المعاملات بالمعنى الأخصّ، کما إذا اشترى داراً بالبیع الفضولی أو المعاطاة، ثمّ تبدّل رأیه إلى بطلانه، وثالثة فی المعاملات بالمعنى الأعمّ، کما إذا تزوّج بالعقد الفارسی، ثمّ تبدّل رأیه وذهب إلى إشتراط العربیة، أو کان قائلا فی باب الرضاع باعتبار أکثر من عشر رضعات فی حصول المحرمیّة فتزوّج بمن إرتضعت من اُمّه عشر رضعات، ثمّ تبدّل رأیه وذهب إلى کفایتها فی حصول المحرمیّة، أو کان قائلا فی باب النجاسات بعدم نجاسة عرق الجنب عن الحرام، وفی باب الطهارة بعدم اعتبار عصر الثوب فی التطهیر، ثمّ تبدّل رأیه إلى نجاسة عرق الجنب عن الحرام أو اعتبار العصر.
ومن جانب آخر تارةً یکون الموضوع موجوداً، کما إذا کانت الذبیحة موجودة أو کان متلبّساً بثوب لم یعصره حین تطهیره، واُخرى یکون معدوماً.
ثمّ لیعلم أنّ هذا کلّه إنّما هو فی ما إذا کانت الفتوى السابقة موافقة للاحتیاط، وأمّا إذا کانت مخالفة له کما إذا کان قائلا باعتبار إتیان التسبیح ثلاث مرّات وتبدّل رأیه إلى کفایة مرّة واحدة فلا إشکال فی أنّه خارج عن محلّ النزاع.
وکیف کان، لابدّ هنا من تقدیم اُمور:
الأوّل: فی الأقوال فی المسألة، وهى کثیرة:
قول بالإجزاء مطلقاً.
وقول بعدم الإجزاء مطلقاً.
وقول بالتفصیل، وهو بنفسه متعدّد:
تفصیل المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی الکفایة بین ما إذا کان مدرک الاجتهاد الأوّل هو القطع بالحکم، أو کان هو الطریق المعتبر شرعاً، وکان المبنى اعتبار الأمارات من باب الطریقیّة، فیعامل حینئذ مع الأعمال السابقة معاملة البطلان، وبین ما إذا کان مدرک الاجتهاد السابق هو الطریق المعتبر شرعاً کان المبنى اعتبار الأمارات من باب السببیّة والموضوعیّة، أو کان ملاک الاجتهاد السابق هو الاستصحاب أو البراءة الشرعیّة فیعامل معها معاملة الصحّة.
وتفصیل صاحب الفصول(رحمه الله) بین ما إذا کان الاجتهاد الأوّل فی نفس الحکم الشرعی فیتغیّر الحکم الشرعی بتغیّر الاجتهاد الأوّل ولا یبقى إلى الآخر، فلو بنى على حلّیة حیوان فذکّاه، ثمّ رجع وبنى على تحریم المذکّى، وبین ما إذا کان الاجتهاد الأوّل فی متعلّق الحکم الشرعی، وقد وقع المتعلّق فی الخارج على طبق ذلک الاجتهاد الأوّل، ثمّ تغیّر الاجتهاد، فلا یتغیّر المتعلّق عمّا کان علیه من الصحّة، بل یبقى على آثاره حتّى بعد الرجوع، کما إذا بنى على عدم جزئیّة شیء للعبادة أو عدم شرطیّته فأتى بها على الوجه الذی بنى علیه ثمّ رجع، فیبنی على صحّة ما أتى به.
وتفصیل المحقّق الیزدی(رحمه الله) فی العروة الوثقى (المسألة 53) بین ما إذا کان موضوع اجتهاده باقیاً بنفسه فلا یکون مجزیاً، کما إذا أفتى بجواز الذبح بغیر الحدید مثلا فذبح حیواناً کذلک فمات المجتهد (أو تبدّل رأیه) وقلّد من یقول بحرمته وکان الحیوان المذبوح موجوداً فلا یجوز بیعه ولا أکله، وبین غیره من موارد العبادات والمعاملات ممّا قد مضى فیکون مجزیاً، فلو قلّد من یکتفی بالمرّة مثلا فی التسبیحات الأربع، أو أوقع عقداً أو إیقاعاً بتقلید مجتهد یحکم بالصحّة ثمّ مات، وقلّد من یقول بعدم کفایة المرّة وبالبطلان، یجوز له البناء على صحّة العبادة والعقد، ولا یجب علیه إعادة الأعمال السابقة.
الثانی: أنّ هذه المسألة جزئی من جزئیات مسألة الإجزاء ومصداق من مصادیقها، لأنّ من أقسامه هو الإجزاء فی الأوامر الظاهریّة، والمقام من هذا القبیل، لأنّ حجّیة فتوى المجتهد للمقلّد حکم ظاهری له.
نعم أنّها أعمّ منها من جهة اُخرى، فإنّ مسألة الإجزاء مختصّة بباب الأوامر والأحکام التکلیفیّة فحسب، ولا تعمّ الأحکام الوضعیّة، بینما البحث هنا أی مسألة التبدّل والعدول یعمّ الأحکام التکلیفیّة والوضعیّة معاً، فکلّ من المسألتین أعمّ من الاُخرى من جهة، وأخصّ منها من جهة اُخرى.
الثالث: فی مقتضى الأصل فی المسألة، ولا یخفى لزوم تعیینه حتّى یطالب من یخالفه بالدلیل فنقول: لا إشکال فی أنّ مقتضى الأصل والقاعدة الأوّلیّة فی المقام هو الفساد فإنّ الأصل مثلا هو عدم وقوع التذکیة شرعاً أو عدم الإتیان بالصلاة الصحیحة (مع قطع النظر عن القواعد الخاصّة التی یمکن جریانها کقاعدة الفراغ ونحوها) فهو یوافق القول بعدم الإجزاء فلابدّ للقائلین بعدم الفساد من إقامة الدلیل علیه.
إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه إذا کان مدرک الاجتهاد السابق هو القطع ثمّ انکشف خلافه بالقطع أیضاً فلا وجه حینئذ للقول بالإجزاء، لأنّ المفروض أنّه لم یکن فی الواقع أمر من جانب المولى، بل إنّه امتثل أمراً خیالیاً منقوشاً فی الذهن فقط، وذلک لأنّ القطع لیس من الأمارات الشرعیّة حتّى یقال: إنّه أمارة کسائر الأمارات یتولّد منها حکم ظاهری شرعی، بل هو من الأمارات العقلیّة التی تکون مجرّد طرق إلى الواقع فحسب، ومنه یعلم الحال فیما إذا زال القطع السابق وقامت أمارة شرعیّة على خلافه.
لکن موارد تبدّل رأی المجتهد لیست من هذا القبیل غالباً لأنّ ما یتبدّل عند المجتهد فی غالب الموارد إنّما هو الأمارات الظنّیة المعتبرة، کما أنّ رجوع المقلّد إلى مجتهد آخر أیضاً لیس من هذا القبیل أصلا، لأنّ الحجّة عنده إنّما هو قول المجتهد وهو أمارة ظنّیة عقلائیة أمضاها الشارع المقدّس.
والمهمّ فی المقام هو ما إذا کانت فتوى المجتهد على أساس أمارة شرعیة وکان المبنى فی حجّیة الأمارات، الطریقیّة (کما هو الحقّ)، وحینئذ یستدلّ للإجزاء بوجوه عدیدة:
الوجه الأوّل: (وهو العمدة) إنّ إطلاقات أدلّة حجّیة الأمارات لا تشمل الأعمال السابقة التی أتى بها المکلّف وفقاً لأمارات کانت حجّة علیه حین العمل، وبعبارة اُخرى: إنّ أدلّة حجّیة الأمارات وإن کانت مطلقة من حیث الزمان، ولکنّها منصرفة إلى زمان الحال والاستقبال، ولا تشمل ما عمل سابقاً على وفق أمارة اُخرى، أی أنّ القدر المتیقّن منها إنّما هو الحال والمستقبل، کما أنّه کذلک فی الأمارات العرفیّة، فمن أعطى دراهم بید وکیله، وأمره بأن یتّجر بها أحسن التجارة وأنفعها، والوکیل لا یعلم ما هو أنفعها وأحسنها فیعتمد فیها على قول الخبرة، ویسأل زید الخبرة عنها مثلا، فیعمل على وفق رأیه، ثمّ بعد مضیّ زمان یسأل عن عمرو الخبرة نفس ذلک، فیجیبه بما یخالف رأی زید، فحینئذ هل یکون معنى حجّیة کلام عمرو إبطال جمیع العقود السابقة لأنّه لم یکن وکیلا فی إبتیاع غیر الأنفع، فالعقود الواقعة علیها فضولیّة، أو أنّ القدر المتیقّن منها إنّما هو بالنسبة إلى الحال والاستقبال؟ لا إشکال فی أنّ وجداننا العرفی یحکم بالثانی.
وعلى أی حال: لا اطلاق فی الاجتهاد الثانی حتّى یعمّ الواقعة السابقة، ولا أقلّ من الشکّ فی ذلک، ولعلّ هذا هو مراد من قال (وهو صاحب الفصول وغیره): «الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادین»، ولعلّه هو العلّة للسیرة المدّعاة فی کلمات بعضهم على عدم إعادة الأعمال السابقة (وکون الإعادة أمراً مستغرباً فی أذهان أهل الشرع بأن یعمل بفتوى مجتهد عشرات سنة، ثمّ بعد تبدّله أو تقلید مجتهد آخر یعید جمیع أعماله التی عملها فی هذه السنوات، وکذلک فیما بعده من تبدّلات الرأی، ولعلّه أیضاً المصدر الوحید لما ادّعى من الإجماع فی المسألة، ولا أقلّ فی العبادات.
وإن شئت قلت: الإجماع المدّعى والسیرة المستمرّة التی وردت فی کلمات بعضهم ـ ولا یبعد قبولها فی الجملة ـ أیضاً مؤیّدتان لما ذکرنا من الدلیل.
ثمّ إنّ هیهنا بیانین آخرین لا یمکن الالتزام بهما إلاّ إذا رجعا إلى البیان المزبور:
أحدهما: أنّ الاجتهاد اللاحق کالإجتهاد السابق، ولا دلیل على ترجیحه علیه حتّى یبطله. وهذا بحسب ظاهره باطل قطعاً، لأنّ المفروض أنّ المجتهد یرى الاجتهاد السابق فی الآن باطلا ولو ظنّاً، ویکون هذا الزمان زمان حکومة الاجتهاد الثانی، فکأنّه ظفر لمصدر الاجتهاد السابق معارضاً لم یظفر به سابقاً.
إلاّ أن یرجع إلى أنّ دلیل حجّیة الاجتهاد اللاحق لا یعمّ الأعمال السابقة وهو نفس ما ذکرناه.
ثانیهما: ما ذکره فی «التنقیح» من دون أن یقبله، وحاصله: أنّ الاجتهاد الأوّل کان حجّة فی ظرفه، والاجتهاد الثانی حجّة من زمن تحقّقه، ولا یعمّ السابق، فکلّ حجّة فی ظرفه الخاصّ به.
وبعبارة اُخرى: المفروض فی المقام هو ما إذا کان إنکشاف الخلاف بقیام حجّة معتبرة على الخلاف، فلا علم وجدانی بکون الاجتهاد السابق على خلاف الواقع، وحینئذ کما یحتمل أن یکون الاجتهاد الثانی مطابقاً للواقع، یحتمل أیضاً أن یکون الاجتهاد الأوّل کذلک، فهما متساویان من هذه الجهة لأنّ الاجتهاد اللاحق لا یکشف عن عدم حجّیة الاجتهاد السابق فی ظرفه، لأنّ انکشاف الخلاف فی الحجّیة أمر غیر معقول، بمعنى أنّ السابق یسقط عن الحجّیة فی ظرف الاجتهاد الثانی مع بقائه على حجّیته فی ظرفه(1).
وهذا أیضاً لا یمکن المساعدة علیه بظاهره، لأنّ الاجتهاد الثانی وإن کان زمان حجّیته حین وصوله، ولکنّه یمکن أن یکون عاماً من حیث المحتوى والمؤدّى فیشمل الأعمال السابقة أیضاً.
فمثلا إذا ظفر المجتهد بروایة تدلّ على وجوب صلاة الجمعة فإنّها وإن صارت حجّة من زمن وصولها ولکن مضمونها ومحتواها یدلّ على وجوب صلاة الجمعة من زمن الرسول(صلى الله علیه وآله)إلى یوم القیامة، لأنّ مقتضاها ثبوت مدلولها فی الشریعة المقدّسة من الابتداء، لعدم اختصاصه بعصر دون عصر، وحینئذ یکون العمل المأتی به على طبق الحجّة السابقة باطل بمقتضى الحجّة الثانیة.
إلاّ أنّ یقال: إنّ المقصود من هذا البیان أنّ المضمون المذکور منصرف من الأعمال السابقة التی عمل فیها بدلیل معتبر فی وقته، فیرجع إلى ما ذکرنا من البیان.
الوجه الثانی: أنّ عدم الإجزاء یؤدّی إلى العسر والحرج المنفیین عن الشریعة السمحة، لعدم وقوف المجتهد غالباً على رأی واحد، فیؤدّی إلى الاختلال فیما یبنی فیه علیها من الأعمال.
وفیه: أنّه أخصّ من المدّعى من وجه، وأعمّ منه من وجه آخر، أمّا کونه أخصّ منه فلأنّ المعروف أنّ المعیار إنّما هو الحرج الشخصی لا النوعی فلا یعمّ الدلیل جمیع المکلّفین، وأمّا کونه أعمّ منه فلشموله موارد القطع والیقین مع أنّه لا کلام فی عدم الإجزاء فی موارد القطع.
الوجه الثالث: الإجماع على الإجزاء مطلقاً أو فی خصوص العبادات على الأقلّ.
وفیه: أوّلا: أنّه منقول لا دلیل على حجّیته، وثانیاً: یکون محتمل المدرک لو لم یکن متیقّنه.
الوجه الرابع: السیرة المتشرّعة المستمرّة على عدم الإعادة والقضاء مع أنّ تبدّل الرأی أمر شائع بین المجتهدین.
وفیه: أنّ إرجاع هذه السیرة إلى زمن المعصوم (علیه السلام) أمر مشکل جدّاً، لأنّه وإن کان الاجتهاد موجوداً فی ذلک الزمان أیضاً ولکن لم یکن على نحو تبدّل الآراء والعدول عنها بحیث کان فی مرأى ومسمع من الأئمّة المعصومین (علیهم السلام)، ولعلّ منشأ هذه السیرة وکذا الإجماع هو الدلیل الأوّل الذی اخترناه، کما أشرناه إلیه آنفاً.
الوجه الخامس: أنّ عدم الإجزاء یوجب ارتفاع الوثوق فی العمل بآراء المجتهدین، من حیث إنّ الرجوع فی حقّهم محتمل، وهو مناف للحکمة الداعیة إلى تشریع حکم الاجتهاد.
وفیه: أنّه مجرّد إستحسان ظنّی لا یرکن إلیه ما لم یلزم منه عسر حرج اختلاف النظام.
الوجه السادس: ما استدلّ به بعضهم من الاستصحاب على بقاء آثار السابقة للأعمال التی أتى بها.
وفیه: أوّلا: ما ذکرناه غیر مرّة من عدم حجّیة الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة، وثانیاً: ـ وهو العمدة ـ : أنّ المقوّم للأحکام السابقة کان رأی المجتهد، والمفروض انتفاؤه فعلا وإنقلابه إلى غیره، فإذا عدم الرأی کیف یمکن استصحاب آثاره، وهو أشنع من الاستصحاب عند تبدّل الموضوع وتغیّره.
الوجه السابع: ما استدلّ به بعض الأعلام على الإجزاء وعدم انتقاض الآثار السابقة بعد تقسیمه الأحکام إلى التکلیفیّة والوضعیّة، وحاصله:
أمّا أحکام الوضعیّة: بالمعنى الأعمّ فإنّها تتعلّق غالباً بالموضوعات الخارجیّة، ولا معنى لقیام المصلحة بها،بل المصلحة قائمة بالأمر الاعتباری، ففی عقد المعاطاة مثلا المصلحة لا تقوم بالمال بل بالملکیّة الحاصلة من المعاطاة القائمة بالمال، فإذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّکة فقد وجدت المصلحة فی جعل الملکیّة، فإذا قامت الحجّة الثانیة على أنّ المعاطاة لا تفید الملکیة لم تکشف إلاّ عن أنّ المسألة من لدن قیامها إنّما هى فی جعل الإباحة فی المعاطاة لا فی جعل الملکیة، فقیام الحجّة الثانیة من قبیل تبدّل الموضوع.
وأمّا الأحکام التکلیفیّة: فهى وإن کانت تابعة للمصالح والمفاسد فی متعلّقاتها ویتصوّر فیها کشف الخلاف، إلاّ أنّ الحجّة الثانیة إنّما یتّصف بالحجّیة بعد إنقطاع الحجّة السابقة، فالحجّة الثانیة لم تکن حجّة فی ظرف الحجّیة السابقة، وإنّما حجّیتها تحدث بعد سلب الحجّیة عن السابقة، وإذا کان الأمر کذلک استحال أن تکون الحجّیة المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة علیها، (انتهى ملخّصاً)(2).
وفیه: أوّلا: أنّه (قدس سره) هل یتکلّم على مبنى القائلین بالسببیّة فی حجّیة الأمارات أو الطریقیّة؟ من الواضح أنّه لا یقول بالأوّل، وأمّا على الثانی فالحجج الشرعیّة لا تکشف عن المصالح الواقعیّة لأنّها تتضمّن أحکاماً ظاهریّة فحسب، والمصلحة السلوکیّة لا توجب الاجزاء، فما ذکره من أنّ المصلحة حاصلة فی عقد المعاطاة بعد قیام الحجّة أمر غریب على مبناه، وقوله: «إذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّکة فقد وجدت المصلحة فی جعل الملکیة فی المعاطاة» نفس القول بالسببیة من دون تفاوت.
وأمّا دعوى الاستحالة فی کون الحجّیة المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة فی الأحکام التکلیفیّة فهو أغرب منه، فإنّ الأعمال المتقدّمة لم تثبت صحّتها واقعاً وإنّما ثبتت صحّتها ظاهراً (کما هو المفروض) والانقلاب إنّما هو بالنسبة إلى آثارها الموجودة الآن من القضاء والإعادة، وهذا لیس من المستحیل أبداً.
اللهمّ إلاّ أن یعود کلامه إلى ما ذکرنا آنفاً من أنّ الحجّیة الثانیة لا تدلّ على ترتیب الآثار علیها إلاّ بالنسبة إلى أعماله فی الحال وفی المستقبل، لانصرافها عمّا أتى به وفقاً للحجّة السابقة، والانصراف العرفی أمر، ودعوى الاستحالة العقلیّة أمر آخر.
وثانیاً: ما أفاده من أنّه لا معنى لقیام المصلحة أو المفسدة بالجسم والموضوع الخارجی.
فیرد علیه: أنّ الطهارة والنجاسة من الأحکام الوضعیّة تتبّعان المصالح والمفاسد الموجودة فی الموضوعات الخارجیّة، وهکذا أشباههما.
بقی هنا شیء:
وهو أنّ ما ذکرناه هنا إنّما هو مقتضى القواعد الأوّلیة فی الأعمال السابقة المطابقة للإجتهاد الأوّل مع قطع النظر عن مقتضى القواعد الثانویة الخاصّة، فإنّ هیهنا قواعد خاصّة تقتضی صحّة الأعمال السابقة:
منها: ما یختصّ بباب الصّلاة، وهى قاعدة «لا تعاد الصّلاة إلاّ من خمس» لشمول إطلاقها للجاهل القاصر، وما نحن فیه من مصادیقه لأنّ المجتهد إذا أخطأ فی إجتّهاده کان من هذا القبیل، فإذا أدّى الاجتهاد الأوّل إلى عدم جزئیّة شیء للصّلاة مثلا والمکلّف أتى بالصلاة على طبقه، ثمّ تبدّل الرأی وانکشف الخلاف وظهرت جزئیة ذلک الشیء صحّت الصّلاة، ولا إشکال فی عدم وجوب الإعادة والقضاء.
ومنها: ما یختصّ بباب الصیام فإنّ الأدلّة التی تدلّ على أنّ الإفطار یوجب البطلان مختصّة بالعالم العامد فقط ولا تشمل ما نحن فیه، ولازمه صحّة الصیام الذی أتى به المکلّف وفقاً للاجتهاد الأوّل.
منها: الإجماع على الإجزاء فی بعضهم العبادات، وقد ادّعاه بعضهم وقال فی مستمسکه «نسب إلى بعض دعوى صریح الإجماع بل الضرورة علیه»(3).
ولکن فیه: أوّلا: أنّه من قبیل الإجماع المنقول الذی لا دلیل على حجّیته، فإنّ المحصّل منه فی أمثال المقام لم یتعرّض أکثر الأصحاب للمسألة فی کلماتهم أمر مشکل جدّاً.
وثانیاً: أنّه محتمل المدرک لو لم یکن متیقّنة فإنّا نحتمل (على الأقل) استنادهم فی ذلک إلى بعض الوجوه المستدلّ بها فی المقام، وقد مرّ علیک ذکرها آنفاً.
وثالثاً: أنّ المحکیّ عن العلاّمة والعمیدی(قدس سرهما) دعوى الإجماع على خلافه (على ما فی مستمسک الحکیم(قدس سره)).
هذا کلّه فیما إذا کانت فتوى المجتهد على أساس أمارة من الأمارات الشرعیّة.
ومنه یظهر الکلام فی الاُصول العملیّة العقلیّة أو الشرعیّة، فإنّ الحکم الحاصل منها حکم ظاهری، وقد عمل به المکلّف، ثمّ تبیّن بحسب الاجتهاد الثانی خلافه، فیأتی جمیع ما ذکرنا فی الأمارات والأدلّة الاجتهادیّة.
وملخّص الکلام فی المقام: أنّ تبدّل الرأی على ثلاثة صور:
تارةً یکون العمل قد مضى ثمّ تبدّل الرأی، ففی هذه الصورة لا إشکال فی الإجزاء إلاّ فیما إذا کان مدرک الاجتهاد السابق هو القطع.
واُخرى: السبب قد مضى والمسبّب باق على حاله کما فی مثال الذبیحة فإنّ عمل التذکیة فیه قد مضى وأمّا الحیوان المذکّى فهو موجود فی الحال، ومثل عقد النکاح بالفارسیة فالعقد قد مضى وأمّا مسبّبه ومنشأه وهو الزوجیة باق على حاله، ومثل ما إذا اشترى داراً بعقد المعاطاة فمسبّبه وهو ملکیة الدار باقیة على حالها، ففی هذه الصورة أیضاً إذا تبدّل رأی المجتهد، الصحیح هو الإجزاء من دون فرق بین مثال الذبیحة وإنشاء العقد باللغة الفارسیّة لأنّ کلیهما من باب واحد، والمسبّب (أو الموضوع على تعبیر المحقّق الیزدی(رحمه الله) فی العروة الوثقى) باق على حاله فی کلیهما، ولا وجه للفرق بینهما کما ذهب إلیه السیّد الیزدی(رحمه الله)، ولذلک علّق على کلامه وإستشکل علیه أکثر المعلّقین.
وثالثة: یکون الموضوع باقیاً على حاله، کما إذا اجتهد سابقاً ورأى کفایة سبعة وعشرین شبراً فی تحقّق الکرّیة، واجتهد فی اللاحق على عدم کفایتها، وکان الماء المحکوم بالکرّیة سابقاً باقیاً على حاله، ورأی سابقاً عدم نجاسة ملاقی الشبهة المحصورة أو عدم نجاسة عرق الجنب عن الحرام أو دم البیض، والآن یرى نجاستها وهى باقیة على حالها، ففی هذه الصورة لا إشکال فی عدم الإجزاء، لأنّ الکلام فیه لیس فی الأعمال الماضیة، بل بالنسبة إلى الحال والمستقبل، بأن یعامل مع هذا الماء معاملة الکرّ فی الحال والآتی فلا ریب فی عدم الإجزاء.
فالحقّ فی المسألة هو التفصیل بین الصورتین الأوّلیین والصورة الأخیرة، والقول بالإجزاء فی الأولیین دون الأخیرة، ومنه یظهر حال سائر التفاصیل المذکورة فی المقام والجواب عنها.
ثمّ إنّ هنا تفصیلا آخر اختاره سیّدنا الاُستاذ الحکیم(رحمه الله) فی مستمسکه، وحاصله: الفرق بین أعمال المجتهد نفسه وأعمال مقلّدیه، وعدم الإجزاء فی الاُولى والاجزاء فی الثانیة، أمّا حکم المجتهد نفسه بالإضافة إلى الأعمال السابقة على العدول فالظاهر وجود التدارک علیه، لأنّ الدلیل الأوّل فی نظره على الفتوى اللاحقة لا فرق فیه بین الوقائع السابقة واللاحقة، وأمّا بالنسبة إلى المقلّد فیمکن الاستدلال على صحّة الأعمال السابقة بأنّ ما دلّ على جواز العدول أو وجوبه إنّما دلّ علیه بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة سواء کان هو الإجماع أو غیره، مضافاً إلى استصحاب بقاء الحجّیة للفتوى السابقة بالإضافة إلى الوقائع السابقة، نعم لو کان العدول لأجل أعلمیة المعدول إلیه فوجوب العدول إلیه یقتضی تدارک الأعمال السابقة لإطلاق دلیل حجّیة فتوى الأعلم، (إنتهى کلامه ملخّصاً)(4).
وفیه: أنّ الإنصاف عدم الفرق بین المجتهد والمقلّد فی هذا الباب، ولا بین أن یکون تبدّل الفتوى للعدول إلى الأعلم أو غیر ذلک من أسباب العدول وتغییر الفتوى، فإنّ الفتوى الأخیرة التی استنبطها المجتهد عن الأدلّة غیر مقیّدة بزمان ولا مکان، ولا حال دون حال، بل محتواها أنّ الحکم الشرعی من زمن النبی (صلى الله علیه وآله)إلى آخر الدنیا هو هذا کما کانت الاُولى قبل کشف خلافها کذلک، فإذا ثبتت حجّیة فتوى المجتهد، فی زمان وجب ترتیب الآثار على کلامه بالنسبة إلى جمیع الأزمنة.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بانصراف حجّیتها إلى خصوص الوقائع اللاحقة، ولکن یجری مثل هذه الدعوى بالنسبة إلى المجتهد نفسه لأنّه وإن کان یعترف بالخطأ فی الجملة ولکن المفروض أنّه لیس معناه حصول القطع ببطلان الفتوى السابقة لأنّه خارج عن محلّ الکلام، بل یحتمل صحّتها أیضاً فی متن الواقع، وإن کانت وظیفته فعلا العمل بالثانیة.
وحینئذ یمکن دعوى انصراف أدلّة حجّیة الفتوى اللاحقة إلى الوقائع اللاحقة حتّى بالنسبة إلى المجتهد نفسه، هذا إذا کان الدلیل لفظیاً، وأمّا إذا کان دلیل الحجّیة لبّیاً فالقدر المتیقّن منه لیس إلاّ ما ذکرناه، وهذا الکلام یجری بالنسبة إلى الأعلم أیضاً.
إلى هنا تمّ الکلام عن المقام الأوّل من مباحث الاجتهاد والتقلید (وهو البحث عن أحکام الاجتهاد).