(وهو أنّ لله فی کلّ واقعة حکماً ولکن لمن وصل إلیه الخطاب، وأمّا من لم یصل إلیه الخطاب فلا حکم فی حقّه، بل تصل النوبة حینئذ إلى تقنین الفقیه) فهو أیضاً باطل بکلتا مقدّمتیه، لأنّ القول بأنّ الأحکام مخصوصة للعالمین فقط مخالف لظاهر جمیع أدلّتها، فإنّ مثل قوله تعالى: (کُتِبَ عَلَیْکُمْ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ) وقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ کَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ کِتَاباً مَوْقُوتاً) عامّ للجاهل والعالم، ولیس العلم مأخوذاً فی موضوعه، بل العلم طریق إلیه، ولو سلّمنا اختصاص الأحکام بالعالمین فلا دلیل أیضاً على إعطاء حقّ التقنین بید الفقیه کما مرّ فی نظیره (التصویب الأشعری).
وأمّا القسم الثالث: وهو التصویب المبنی على القول بسببیّة الأمارات.
ففیه أیضاً: أنّه لا دلیل على سببیّة الأمارات فإنّ ظاهر أدلّتها هو الطریقیّة کما مرّ بیانه فی محلّه، فإنّا قد قلنا هناک أنّ قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ) مثلا بمعنى «فأسألوا حتّى تعلموا»، وممّا یؤکّد هذا المعنى ما مرّ کراراً من أنّ الأمارات الشرعیّة جلّها ـ لولا کلّها ـ امضاءات لبناءات العقلاء، ولا إشکال فی أنّها طرق إلى الواقع عندهم فقط.
وأمّا القسم الرابع: وهو أنّ یکون المراد من التصویب جعل أحکام ظاهریّة مماثلة لمؤدّیات الطرق والأمارات فقد قلنا سابقاً أنّه هو الصحیح المختار، بل لا یسمّى هذا تصویباً.
والدلیل علیه: أنّ أدلّة حجّیة الأمارات ظاهرة فی الجعل والإنشاء، ولیس مفادها مجرّد المنجّزیة أو المعذّریة، والشاهد علیه هو السیرة العملیّة للفقهاء وارتکازهم الفقهی والمتشرّعی، حیث إنّهم یعبّرون فی رسائلهم العملیّة عن مؤدّیات الأمارات بالواجب والحرام، ویحکمون بأنّ هذا واجب وذاک حرام، لا أنّک معذور إن کان هذا حراماً ولست معذوراً إن کان هذا واجباً.
ولکن ـ کما عرفت ـ فإنّ تسمیة هذا بالتصویب خلاف الاصطلاح، لأنّ مصطلح الفقهاء فیه إنّما هو فی الأحکام الواقعیّة.
ثمّ إنّه قد مرّ فی أوائل البحث عن أقسام التصویب فی ذیل هذا القسم، أنّه قد یکون فی سلوک هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعیّة التی تفوت المکلّف، وهى التی یعبّر عنها بالمصالح السلوکیّة، وبهذا یندفع ما أورد على حجّیة الأمارات من أنّ لازمه تفویت المصلحة أو القاء العبد فی المفسدة کما لا یخفى.
نعم، قد إستشکل بعض الأعلام فی المحاضرات فی هذا القسم (وبتعبیر آخر فی هذا المعنى للسببیة، وبتعبیر ثالث فی المصلحة السلوکیّة) من جهتین:
الاُولى: «أنّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة لتصحیح اعتبار الأمارات وحجّیتها (ودفع الإشکال المزبور) والسبب فی ذلک أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتّب علیه مصلحة وإن کان لغواً فلا یمکن صدوره من الشارع الحکیم، إلاّ أنّه یکفی فی ذلک ترتّب المصلحة التسهیلیة علیه، حیث إنّ تحصیل العلم الوجدانی بکلّ حکم شرعی لکلّ واحد من المکلّفین غیر ممکن فی زمان الحضور فضلا عن زماننا هذا، ولو أمکن هذا فبطبیعة الحال کان حرجیّاً لعامّة المکلّفین فی عصر الحضور فما ظنّک فی هذا العصر، ومن الواضح أنّ هذا مناف لکون الشریعة الإسلامیّة شریعة سهلة وسمحة.
الثانیة: أنّ مردّ هذه السببیّة إلى السببیّة المعتزلیة فی انقلاب الواقع وتبدّله لأنّنا إذا افترضنا قیام مصلحة فی سلوک الأمارة التی توجب تدارک مصلحة الواقع فالإیجاب الواقعی عندئذ تعییناً غیر معقول»(1).
أقول: أمّا الإشکال الأوّل فهو عجیب فإنّ مصلحة التسهیل هى نفس المصلحة السلوکیّة ومصداق بیّن منها، فلولا هذه المسألة لما أمر الشارع بسلوک هذه الطرق.
وأمّا الثانی فالجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من أنّ مصلحة التسهیل هى من المصالح السلوکیّة، فما یجاب عن هذه المصلحة هو الجواب فی أشباهها. وبعبارة أوضح: لیست المصلحة السلوکیّة فی عرض مصلحة الواقع، فإنّ المصالح الواقعیّة إنّما هى مصالح فی أفعال المکلّفین، وأمّا المصلحة السلوکیّة فإنّما هى مصلحة فی سلوک هذا الطریق بقصد الوصول إلى الحکم الواقعی، فیکون أحدهما فی طول الآخر، ولا معنى للتخییر حینئذ.