والمراد من التخطئة أنّه عند اختلاف الآراء لا یکون الصواب إلاّ واحد منها فیکون الباقی خطأً، وبعبارة اُخرى: أنّ لله تعالى فی کلّ واقعة حکماً یشترک فیه الکلّ، العالم والجاهل، فمن أصابه أصابه ومن أخطأه أخطأه.
والمراد من التصویب أنّه عند اختلاف الآراء کلّها أحکام الله وکلّها صواب.
والتحقیق فی المسألة یستدعی رسم اُمور:
الأمر الأوّل: لا إشکال ولا کلام فی بطلان التصویب فی الأحکام العقلیّة الحقیقیّة والمحسوسة فیکون الرأی الصحیح فیها واحداً بالإجماع، کما إذا وقع الاختلاف بین المنجّمین فی عدد سیّارات المنظومة الشمسیة أو بین الأطباء فی تشخیص کیفیة مرض زید مثلا وتعیین الدواء له، والوجه فی ذلک أنّ الواقع شیء واحد فلا یمکن إنقلابه إلى مؤدّى آراء المجتهدین، ولا فرق بین أن یکون متعلّق الحکم من الجواهر والأعراض کالمثالین المذکورین أو من الاُمور نفس الآمریة کاستحالة الجمع بین الضدّین (حیث إنّه لا یکون لا من الاعتباریات ولا من الاُمور الخارجیّة التکوینیّة).
نعم نقل عن عبدالله بن حسن العنبری التصویب فی العقلیات أیضاً (على ما حکی عن کتاب اُصول الأحکام للآمدی والمستصفى للغزالی) ولا توجیه لکلامه إلاّ أنّ الفقیه معذور، فلو حکم فقیه بکرّیة هذا الماء وفقیه آخر بعدم کریّته، أو حکم أحدهما بطلوع الفجر والآخر بعدمه فلا إشکال فی عدم کون کلیهما صادقین بل کلّ منهما معذور فی حکمه ولا عقاب علیه على فرض خطئه إذا لم یکن مقصّراً.
الأمر الثانی: ینقسم التصویب فی الشرعیات إلى أربعة أقسام:
1 ـ ما هو باطل عقلا.
2 ـ ما لیس بباطل عقلا ولکن یکون مجمعاً على بطلانه.
3 ـ ما لیس بباطل عقلا ولا مجمعاً على بطلانه ولکن الأقوى بطلانه.
4 ـ ما یکون خارجاً عن هذه الأقسام الثلاثة ولا إشکال فی صحّته.
أمّا التصویب الباطل عقلا (أی القسم الأوّل) فهو إنّ الله ینشأ أحکاماً إلهیّة على وفق آراء المجتهدین بعد اجتهادهم، والوجه فی بطلانه عند العقل أنّه لابدّ للطلب من مطلوب، فلو کان الله تعالى یجعل الحکم بعد اجتهاد المجتهد، والمجتهد یطلب فی استنباطه حکم الله الواقعی فما هو مطلوبه؟
وبعبارة اُخرى: یستلزم منه الدور المحال لأنّ اجتهاد المجتهد متفرّع على وجود حکم قبله، والمفروض أنّ الحکم أیضاً متوقّف على اجتهاده، وقد یسمّى هذا بتصویب الأشعری، ولیس بذلک، کما سیأتی بیانه.
وأمّا القسم الثانی: (وهو ما یکون مجمعاً على بطلانه) فهو أنّ الله تعالى ینشىء أحکاماً عدیدة بعدد آراء المجتهدین قبل اجتهادهم، فیکون کلّ مجتهد طالباً فی استنباطه لحکمه الذی جعله الله تعالى فی حقّه، وهذا وإن لم یکن محالا عقلا ولکنّه مجمع على بطلانه عند الإمامیة، حیث إنّهم یعتقدون أنّ لکلّ واقعة حکماً واقعیاً واحداً للعالم والجاهل، أصابه المجتهد أو لم یصیبه، وقد یسمّى هذا بتصویب المعتزلی ولیس بذلک، کما سیأتی بیانه أیضاً.
وأمّا القسم الثالث: فهو أن یکون حکم الله تعالى فی مقام الإنشاء واحداً ولکنّه متعدّد فی مقام الفعلیّة لأنّ طرقه الشرعیّة متعدّدة ویکون کلّ طریق سبباً لإیجاد المصلحة فی مؤدّاه فیکون منشأ التعدّد فی الأحکام الفعلیة هو القول بسببیّة الأمارات، وقد مرّ أنّ الصحیح المختار بطلان السببیّة، وأنّ المستفاد من أدلّة حجّیة الأمارات إنّما هو الطریقیّة فحسب، فالأقوى بطلان هذا القسم وإن لم یکن باطلا عقلا ولا مجمعاً على بطلانه.
وأمّا القسم الرابع: فهو التصویب فی الأحکام الظاهریّة الذی یوافق مبنى القائلین بأنّ أدلّة حجّیة الأمارات وإن لم تکن سبباً لإیجاد المصلحة ولکنّها توجب جعل حکم ظاهری مماثل کما هو المختار، وهو الظاهر من کلمات المشهور وفتاواهم، وقد یکون فی سلوک هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعیّة التی تفوت من المکلّف وهذا ما یعبّر عنه بالمصلحة السلوکیّة.
هذا هو المختار فی معنى الطریقیّة، وهناک قول آخر بأنّ المراد من الطریقیّة هو جعل المنجّزیة والمعذّریة مع القول بالمصلحة السلوکیّة، وعلى کلّ حال یکون القول بالطریقیّة خارجاً عن التصویب بأی معنى فرض کما سیأتی.
الأمر الثالث: فی أنّ هذا التقسیم الرباعی ناش من وقوع خلط فی معنیی الاجتهاد، وهو الخلط بین الاجتهاد بالمعنى العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ، وإلاّ یکون التقسیم ثلاثیاً.
توضیح ذلک: قد مرّ أنّ الاجتهاد بالمعنى العام هو استنباط الحکم عن أدلّته التفصیلیّة وأنّ الاجتهاد بالمعنى الخاصّ هو تقنین المجتهد وتشریعه فیما لا نصّ فیه، ولا إشکال فی عدم لزوم التصویب المحال بناءً على الاجتهاد بالمعنى الخاصّ لأنّه لیس فیما لا نصّ فیه حکم على زعمهم حتّى یقال بأنّه لابدّ للطلب من مطلوب، وقد نصّ على ذلک الغزالی فی مستصفاه، وقال: «إنّه لیس فی الواقعة التی لا نصّ فیها حکم معیّن یطلب بالظنّ، بل الحکم یتبع الظنّ، وحکم الله تعالى على کلّ مجتهد ما غلب على ظنّه، وهو المختار، وإلیه ذهب القاضی، وذهب قوم من المصوّبة إلى أنّ فیه حکماً معیّناً یتوجّه إلیه الطلب، إذ لابدّ للطلب من مطلوب، لکن لم یکلّف المجتهد إصابته، فلذلک کان مصیباً وإن أخطأ ذلک الحکم المعیّن الذی لم یؤمر بإصابته، بمعنى أنّه أدّى ما کلّف فأصاب ما علیه»(1).
وقد نسب مؤلّف الاُصول العامّة القول الأوّل إلى محقّقی المصوّبة، وقال بعد ذلک: «وقد عرف القسم الأوّل من التصویب على ألسنة بعض الباحثین من الاُصولیین بالتصویب الأشعری کما عرف القسم الثالث بالتصویب المعتزلی»(2).
فظهر أنّه بناءً على ما ذهب إلیه مشاهیر المصوّبة أنّه لا موضوع للقسم الأوّل من التصویب فیکون التقسیم ثلاثیّاً، نعم أنّه رباعی بناءً على قول غیرهم، کما ظهر أنّ التصویب الأشعری هو هذا المعنى المنسوب إلى مشاهیر المصوبة، لا ما مرّ من القسم الأوّل، وأنّ التصویب المعتزلی هو نفس ما علیه المخطئة لا القسم الثانی من الأقسام الأربعة السابقة.
والحاصل أنّ الاشتباه فی دعوى إستحالة القسم الأوّل من التصویب نشأ من توهّم کون المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد بالمعنى المعروف، أی استفراغ الوسع فی کشف الحکم الشرعی عن أدلّتها، بینما لیس مرادهم ذلک، بل الاجتهاد عندهم هو استفراغ الوسع فی طلب المصالح والفاسد وتشریع الأحکام على وفقها من ناحیة المجتهد فلیس هناک حکم واقعی یطلبه المجتهد حتّى یلزم المحال.
ثمّ إنّ للغزالی هنا فی توجیه نظره کلاماً حاصله ما یلی: الکلام الکاشف للغطاء(رحمه الله) عن هذا الکلام المبهم هو أنّا نقول: المسائل منقسمة إلى ما ورد فیها نصّ وما لم یرد، أمّا ما ورد فیه نصّ، فالنصّ کأنّه مقطوع به من جهة الشرع، لکن لا یصیر حکماً فی حقّ المجتهد إلاّ إذا بلغ وعثر علیه، وأمّا إذا لم یبلغه ولم یعثر علیه فلیس هو حکماً فی حقّه إلاّ بالقوّة، لأنّ الحکم الفعلی عبارة عن النصّ البالغ المعثور علیه، وأمّا ما لم یرد فیه نصّ فیعلم أنّه لا حکم فیها لأنّ حکم الله تعالى خطابه، وخطابه یعرف بأن یسمع من الرسول أو یدلّ علیه دلیل قاطع من فعل النبی(صلى الله علیه وآله) أو سکوته، فإذا لم یکن خطاب لا مسموع ولا مدلول علیه فکیف یکون فیه حکم؟(3).
أقول: إنّ هذا التقسم قد نشأ من الخلط بین مراتب الحکم الثلاثة:
مرتبة الجعل، وهى مرحلة الإنشاء، نظیر ما یصوّب فی مجالس التقنین فی زماننا هذا قبل الإبلاغ إلى الدولة والموظفین للإجراء، فإنّه وإن کان مصوباً فی هذه المجالس ولکن لا یکلّف المواطنون بالعمل به إلاّ بعد إبلاغه رسمیّاً إلى الدولة.
ومرحلة الفعلیّة وهى مرحلة الإبلاغ والبعث أو الزجر فیلزم العمل على طبقه.
ومرحلة التنجیز، وهى مرحلة استحقاق العقاب فی صورة ترک العمل، وهى لا تشمل الجاهل القاصر أو العالم العاجز عن العمل به وأمثالهما.