وقد ذکر بعضهم أنّ الاجتهاد فی المسائل الشرعیّة یبتنی على علوم کثیرة ربّما تربو على أربعة عشر علماً: علم اللغة، علم الصرف، علم النحو، علم التفسیر، علم الرجال، علم الحدیث، علم الدرایة، علم الکلام، علم اُصول الفقه، علم الفقه نفسه (ممارسة الفقه)، علم المنطق، الفلسفة، علم المعانی، علم البیان.
ولابدّ من البحث أوّلا: فی أصل وجوب تحصیل کلّ واحد من هذه العلوم واعتباره فی الاجتهاد والإستنباط، وثانیاً: فی المقدار اللازم منه.
فنقول: أمّا علم اللغة، فلا ریب فی لزومه أمّا اجتهاداً أو رجوعاً إلى أهل الخبرة، لأنّ عمدة الأدلّة هى الکتاب والسنّة، وهما صدرا بلسان عربی مبین، فلابدّ من معرفة مواد اللغة العربیة.
وهکذا علم الصرف، لوضوح دخالته فی فهم الکتاب والسنّة، وعلم النحو، لأنّ کلمة واحدة تستعدّ لمعان مختلفة على أساس إعرابات متفاوتة، فلابدّ من معرفته حتّى تتمیّز المعانی بعضها عن بعض، نعم اللازم منه ما یکون له أثر فی اختلاف المعانی فحسب لا أکثر.
وبالجملة لکلّ واحد من هذه الثلاثة دخل فی فهم المعانی، فإنّ علم اللغة یبیّن المادّة، وعلم الصرف یبیّن هیئة الکلمة وعلم النحو یبیّن هیئة الجملة.
وأمّا علم التفسیر، فالمراد منه ما یکون وراء الثلاثة السابقة وهو الإحاطة بالآیات القرآنیّة، وردّ بعضها إلى بعض، ومعرفة المحکم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وغیر ذلک من أشباهه فلا إشکال فی دخله فی إستنباط الأحکام.
وأمّا علم الرجال، فلا حاجة إلیه عند من یقول بحجّیة الأخبار المدوّنة فی الکتب المشهورة المعروفة، من الکتب الأربعة وغیرها، وهکذا عند القائلین بحجّیة الأخبار الواردة فی خصوص الکتب الأربعة، وأمّا بناءً على مبنى القائلین باعتبار الوثوق برجال السند أو الوثوق بالروایة (الذی قد یحصل من طریق الوثوق بالراوی وقد یحصل من طریق الموافقة لعمل المشهور، وقد یحصل من طریق علوّ المضامین، أو من طریق تظافر الروایات) فلا إشکال فی لزوم علم الرجال ودخله فی الاستنباط والاجتهاد کما لا یخفى.
وأمّا علم الحدیث فیکون بمنزلة علم التفسیر، ومورداً للحاجة فی طریق الاستنباط، لأنّ المراد منه معرفة لسان الروایة فإنّ لروایة الأئمّة المعصومین لسان خاصّ، ولحن مخصوص بها کالقرآن الکریم، یفترق عن لسان عبارات الفقهاء والعلماء ولحنها.
وأمّا علم الدرایة، فلا إشکال فی لزومه أیضاً، لأنّ المراد منه هو معرفة أقسام الروایة من حیث صفات الراوی من الصحیح والحسن والضعیف وغیرها، وبما أنّ المیزان فی حجّیة الروایة هو الوثوق بالروایة وأحد طرق حصوله هو الوثوق برجال الحدیث کما مرّ آنفاً فلابدّ من معرفة أقسام الحدیث على أساس رجال السند.
وأمّا علم الکلام، فکذلک لا إشکال فی لزومه لأنّ إثبات حجّیة کلام المعصوم وفعله وتقریره متوقّف على إثبات إمامته وعصمته فی الرتبة السابقة، کما أنّ إثبات حجّیة ظواهر الکتاب أیضاً مبنیّ على إثبات حقّانیّة أصل الکتاب وهکذا ...، ومحلّ البحث عن مثل هذه الاُمور إنّما هو علم الکلام کما لا یخفى.
إن قلت: لازم هذا البیان عدم صدق الاجتهاد والاستنباط على اجتهاد زندیق یکون من فحول علماء علم الاُصول (فرضاً) وعالماً فی سائر مبانی الاستنباط، وهو کما ترى.
قلنا: یعتبر فی صدق الاجتهاد تحصیل العلم بالحجّة، وهو لا یحصل لمثل هذا المفروض، وبما أنّه فرض غیر واقعی لا ینبغی البحث فیه أکثر من هذا.
وأمّا علم اُصول الفقه، فلزومه وشدّة الحاجة إلیه فی الاستنباط من القضایا قیاساتها معها، کما یلوح به تعریف علم الاُصول بأنّه هو العلم بقواعد تقع فی طریق الاستنباط.
إن قلت: فما دعوى الأخباریین فی مقابل الاُصولیین وعدّ بعضهم إیّاه من البدعة فی الدین؟
قلنا: لا إشکال فی أنّ قسماً من النزاع بین الطائفتین لفظی، لأنّ المحدّث الاسترابادی نفسه مثلا محتاج أیضاً فی إثبات الأحکام الشرعیّة إلى حجّیة خبر الواحد وحجّیة ظواهر الألفاظ، وإلى ملاحظة إمکان الجمع الدلالی، ثمّ العلاج السندی عند تعارض الأدلّة، وإلى الرجوع إلى الاُصول العملیّة عند فقدان النصّ (ولو کان الأصل عنده خصوص أصالة الاحتیاط) ولا یخفى أنّ هذه المسائل من أهمّ مسائل علم الاُصول.
ویشهد علیه ملاحظة ما بحث عنه صاحب الحدائق (وهو من المحدّثین المعروفین) فی مقدّمات الحدائق، وهى إثنتا عشرة مقدّمة فی 170 صفحة، ومن تلک المقدّمات حجّیة خبر الواحد (وهو المقدّمة الثانیة) ومنها مدارک الأحکام الشرعیّة، ومن جملتها حجّیة ظواهر الکتاب والإجماع وأصالة العدم وأصالة البراءة فی الشبهات الوجوبیّة ومقدّمة الواجب، ومسألة أنّ الأمر بالشیء مستلزم للنهی عن ضدّه أم لا؟ وقیاس الأولویة، وقیاس منصوص العلّة (وهذه کلّها هى المقدّمة الثالثة) ومنها التعارض بین الأدلّة (وهو المقدّمة السادسة) ومنها مسألة أنّ مدلول الأمر والنهی هل هو الوجوب والتحریم أو لا؟ (وهو المقدّمة السابعة) ومنها ثبوت الحقیقة الشرعیّة وعدمه (المقدّمة الثامنة) ومنها معنى المشتقّ (المقدّمة التاسعة) ومنها حجّیة دلیل العقل وعدمها (المقدّمة العاشرة) وقد ذکر فی المقدّمة الحادیة عشرة جملة من القواعد الفقهیّة فراجع.
فلا ریب فی أنّ البحث والنزاع بین الطائفتین فی هذا القسم من الاُصولی لفظی.
نعم هنا قسم من مباحث الاُصول یقع النزاع فیه معنویاً، وقد حکى(1) صاحب الحدائق عن المحدّث الشیخ عبدالله البحرانی صاحب کتاب منیة الممارسین: أنّ موارد الاختلاف فی هذا القسم تنتهى إلى ثلاثة وأربعین مسألة، ولکن الإنصاف أنّ هذا العدد لیس عدداً واقعیاً، فإنّ کثیراً ممّا عدّه من موارد الاختلاف هى من شقوق دلیل العقل، وتجمع تحت عنوان دلیل العقل، والصحیح أنّ العمدة من موارد النزاع بینهم هى اُمور ثلاثة:
أحدها: فی عدد الأدلّة، فإنّها عند الاُصولیین أربعة: الکتاب والسنّة والإجماع ودلیل العقل، بینما هى عند الأخباریین الأوّلان خاصّة، ولکن قد مرّ أنّ الإجماع الحجّة عند الاُصولیین یرجع فی الحقیقة إلى السنّة، فهو لیس دلیلا برأسه، وأمّا دلیل العقل فالبدیهیات العقلیّة وهکذا العلوم العقلیّة التی إستمدّت قضایاها من الحسّ، کالریاضیات فهى حجّة عند الجمیع، فتبقى النظریات غیر المعتمدة على الحسّ، فالأخباریون ذهبوا إلى عدم حجّیتها لما ظهر من الخطأ فی تاریخ العلوم فی هذا القسم من المدرکات العقلیّة (وهو نفس ما استدلّ به المذاهب الحسّیة والتجربیة فی الفلسفة الأوربیة) ولذلک قالوا بعدم حجّیة ما یدرکه العقل فی مثل مسألة مقدّمة الواجب ومسألة الترتّب ومسألة أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه أو لا؟ ومسألة إجتماع الأمر والنهی وغیرها من أشباهها.
ثانیها: أصالة البراءة فی الشبهات الحکمیّة التحریمیّة.
ثالثها: حجّیة ظواهر کتاب الله، فإنّ بعض الأخباریین ذهب إلى عدم حجّیتها إلاّ بعد ضمّ تفسیر الأئمّة المعصومین(علیهم السلام) إلیها.
فقد ظهر أنّ موارد الاختلاف بینهم قلیلة، والإنصاف أنّ هذا المقدار من الخلاف أمر قهری طبیعی قد یکون بین الاُصولیین أنفسهم أیضاً، فلا یوجب تشنیعاً ولا تکفیراً من جانب الأخباریین بالنسبة إلى الاُصولیین أو بالعکس کما نبّه عنه المحدّث البحرانی فی المقدّمة الثانیة عشرة، فالجدیر بالمقام نقل کلامه فی هذا المجال، وإلیک نصّه فی الحدائق: «وقد کنت فی أوّل الأمر ممّن ینتصر لمذهب الأخباریین، وقد أکثرت البحث فیه مع بعض المجتهدین من مشایخنا المعاصرین، وأودعت کتابی الموسوم بالمسائل الشیرازیة مقالة مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافیة والأخبار الکافیة تدلّ على ذلک وتؤیّد ما هنالک، إلاّ أنّ الذی ظهر لی ـ بعد إعطاء التأمّل حقّه فی المقام وإمعان النظر فی کلام علمائنا الأعلام ـ هو إغماض النظر عن هذا الباب، وإرخاء الستر دونه والحجاب، وإن کان قد فتحه أقوام وأوسعوا فیه دائرة النقض والإبرام:
أمّا أوّلا: فلاستلزامه القدح فی علماء الطرفین والإزراء بفضلاء الجانبین، کما قد طعن به کلّ من علماء الطرفین على الآخر، بل ربّما إنجرّ إلى القدح فی الدین، سیّما من الخصوم المعاندین، کما شنّع به علیهم الشیعة من إنقسام مذهبهم إلى المذاهب الأربعة، بل شنّع به کلّ منهم على الآخر أیضاً.
وأمّا ثانیاً: فلأنّ ما ذکروه فی وجوه الفرق بینهما جلّة بل کلّه عند التأمّل لا یثمر فرقاً فی المقام ... ـ إلى أن قال ـ.
وأمّا ثالثاً: فلأنّ العصر الأوّل کان مملوءاً من المحدّثین والمجتهدین، مع أنّه لم یرتفع بینهم صیت هذا الخلاف، ولم یطعن أحد منهم على الآخر بالإتّصاف بهذه الأوصاف، وإن ناقش بعضهم بعضاً فی جزئیات المسائل، واختلفوا فی تطبیق تلک الدلائل، وحینئذ فالأولى والألیق بذوی الإیمان، والأحرى والأنسب فی هذا الشأن هو أن یقال: أنّ عمل علماء الفرقة المحقّة والشریعة الحقّة ـ أیّدهم الله تعالى بالنصر والتمکین ورفع درجاتهم فی أعلى علّیین سلفاً وخلفاً ـ إنّما هو على مذهب أئمّتهم صلوات الله علیهم وطریقهم الذی أوضحوه لدیهم، فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم ودرعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر على مرّ الأیّام والدهور یمنعهم من الخروج عن تلک الجادّة القویمة والطریقة المستقیمة، ولکن ربّما حادّ بعضهم أخباریاً کان أو مجتهداً عن الطریق غفلة أو توهّماً أو لقصور إطّلاع أو قصور فهم أو نحو ذلک فی بعض المسائل، فهو لا یوجب تشنیعاً ولا قدحاً، وجمیع تلک المسائل ـ التی جعلوها مناط الفرق ـ من هذا القبیل، کما لا یخفى على من خاض بحار التحصیل، فإنّا نرى کلا من المجتهدین والأخباریین یختلفون فی آحاد المسائل، بل ربّما خالف أحدهم نفسه، مع أنّه لا یوجب تشنیعاً ولا قدحاً، وقد ذهب رئیس الأخباریین الصدوق (رحمه الله تعالى) إلى مذاهب غریبة لم یوافقه علیها مجتهد ولا أخباری، مع أنّه لم یقدح ذلک فی علمه وفضله، أو لم یرتفع صیت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الإعتساف إلاّ من زمن صاحب الفوائد المدنیة سامحه الله تعالى برحمته
المرضیّة، فإنّه قد جرّد لسان التشنیع على الأصحاب وأسهب فی ذلک أی إسهاب، وأکثر من التعصّبات التی لا تلیق بمثله من العلماء الأطیاب، وهو وإن أصاب الصواب فی جملة من المسائل التی ذکرها فی ذلک الکتاب، إلاّ أنّها لا تخرج عمّا ذکرنا من سائر الاختلافات ودخولها فیما ذکرنا من التوجیهات، وکان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد، إن لم یجد ما یدفع به عن کلامهم الفساد، فإنّهم رضوان الله علیهم لم یألوا جهداً فی إقامة الدین وإحیاء سنّة سیّد المرسلین(صلى الله علیه وآله)، ولا سیّما آیة الله العلاّمة(رحمه الله)الذی قد أکثر من الطعن علیه والملامة، فإنّه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفین من الحجج القاطعة والبراهین حتّى آمن بسببه الجمّ الغفیر، ودخل فی هذا الدین الکبیر والصغیر والشریف والحقیر، وصنّف من الکتب المشتملة على غوامض التحقیقات ودقائق التدقیقات، حتّى أنّ من تأخّر عنه لم یلتقط إلاّ من درر نثاره، ولم یغترف إلاّ من زاخر بحاره، قد صار له من الید العلیا علیه وعلى غیره من علماء الفرقة الناجیة ما یستحقّ به الثناء الجمیل ومزید التعظیم والتبجیل لا الذمّ والنسبة إلى تخریب الدین، کما اجترأ به قلمه علیه(رحمه الله) وعلى غیره من المجتهدین»(2) (انتهى).
وأمّا علم الفقه نفسه، أی ممارسة الفقه فقد یتوهّم أنّه لا معنى لکونه من مبانی الاجتهاد من باب أنّه یکون غایة لغیره وذا المقدّمة بالنسبة إلى سائره، ولکن قد مرّ کراراً أنّ ملکة الاجتهاد لا تتحقّق إلاّ بالتمرین والممارسة فی الفقه کما فی غالب العلوم، وهى تحصل أوّلا: بتطبیق الاُصول على الفروع، وثانیاً: بردّ الفروع إلى الاُصول، فإذا سئل عنه مثلا عن رجل صلّى الظهرین وهو یعلم إجمالا بأنّه کان فی أحدهما فاقداً للطهارة، فلیعلم أنّه هل یجب علیه الاحتیاط فیکون المورد من موارد تطبیق قاعدة الاحتیاط، أو أنّه من موارد تطبیق قاعدة الفراغ؟ وأنّه هل یکون الترتیب بین الظهر والعصر ترتیباً واقعیّاً، أو لا؟ فیکفی إتیان صلاة رباعیة بقصد ما فی الذمّة، أو سئل عمن صار مستطیعاً وقد استُؤجر سابقاً لمناسک الحجّ فهل یبطل عقد الإجارة أو لا؟ من باب عدم کونه مستطیعاً شرعاً والممنوع شرعاً کالممنوع عقلا، وهکذا ... إلى سائر الفروعات والمسائل.
وأمّا علم المنطق، فقد یقع الشکّ فی الحاجة إلیه، لأنّ المقدار اللازم منه أمر فطری لکلّ إنسان فإنّ عمدة المنطق إنّما هى الأشکال الأربعة، وجلّ استدلالات الناس (لولا کلّها) ترجع إلى الشکل الأوّل، وقد ذکروا أنّه بدیهی الإنتاج، وأمّا السائر المسائل فقلّما یتّفق الحاجة إلیها فی الفقه، نعم الإحاطة ببعض المصطلحات فیها ربّما توجب سهولة الأمر فی بیان الاستدلالات، کالإحاطة بالنسب الأربعة والکلّیات الخمس والوَحَدات المعتبرة فی التناقض وغیرها.
وهکذا الفلسفة، فلا دخل لها بعلم الفقه لأنّها تبحث عن الاُمور الحقیقیّة، بینما الفقه یبحث عن الاعتباریات، نعم یمکن أن یقال: أنّ لها تأثیراً فی الفقه من باب تأثیرها فی علم الکلام فلیس لها دخل مباشرة وبلا واسطة.
هذا ـ وقد أوجد الخلط بین مسائلها ومسائل اُصول الفقه غوامض وتعقیدات کثیرة قد أشرنا إلى بعضها فی بعض الأبحاث السابقة، ومن تلک المسائل الفلسفیة التی أوردوها فی الاُصول قاعدة الواحد، مع أنّه قد قرّر فی محلّه أنّها مختصّة بالواحد البسیط الحقیقی، ولا مساس لها بالاعتباریات، ومنها قاعدة عدم جواز الجمع بین النقیضین فی باب إجتماع الأمر والنهی، مع أنّه أیضاً یتکلّم عن الحسن والقبح فی الاعتباریات لا عن الإمکان والاستحالة فی الحقائق، ولا استحالة فی اعتبار النقیضین، ومنها تنزیلهم الحکم والموضوع بمنزلة العرض والمعروض وإسراء أحکامهما علیهما، ومنها أحکام العلّة والمعلول فی باب الواجب المشروط وباب تداخل الأسباب الشرعیّة.
نعم، قد یلزم البحث عنها فی عصرنا هذا للمنع عن هذا التداخل.
وأمّا علم المعانی والبیان فغایة ما قد یقال فی تأثیره فی الاستنباط والاجتهاد: أنّ من المرجّحات فی الخبرین المتعارضین البلاغة والفصاحة، مع أنّ الصحیح أنّهما لیسا من المرجّحات، لأنّ کلمات الأئمّة المعصومین(علیهم السلام) مختلفة، قسم منها عبارة عن الخطب والمواعظ، وقد أعملوا فیها قواعد الفصاحة والبلاغة وبدائعها، نظیر خطب نهج البلاغة وأدعیة الصحیفة السجّادیة وأشباهها.
وقسم آخر صدر لبیان الأحکام الفرعیّة والمسائل العملیّة، فلم یصدر عنهم صلوات الله علیهم ببدائع الفصاحة والبلاغة کما لا یخفى على الخبیر، وفی الواقع القسم الأوّل نظیر الآیات القرآنیة، بینما یکون القسم الثانی شبیه الأحادیث القدسیة الإلهیّة.
هذا مضافاً إلى ما قد مرّ سابقاً من وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة (ولیس هذا منها).
نعم، هیهنا أبحاث من علم المعانی والبیان کمسألة تقدیم ما حقّه التأخیر، وأبواب المجاز والحقیقة والکنایات والاستعارات، یکون لها دخل فی فهم الأحکام عن الأدلّة اللفظیّة، ولکنّها مسائل یبحث عنها فی علم الاُصول أیضاً، وأمّا غیرها من سائر مسائل هذا العلم فلا أثر لها فی الاستنباط، نعم قد یقال: إنّ لها أثراً مع الواسطة من حیث دخلها فی تبیین کون کتاب الله معجزة خالدة.
بقی هنا أمران:
الأوّل: لا شکّ فی أنّ القواعد الفقهیّة لها دور عظیم فی استنباط الأحکام الفرعیّة، ولعلّ عدم ذکرها فی العلوم التی یبتنی علیها الاستنباط من باب عدّهم إیّاها من الفقه نفسه، ولکن قد ذکرنا فی محلّه أنّها علم برأسه ولیست من اُصول الفقه، کما أنّها لیست من الفقه نفسه فراجع(3).
الثانی: لا ینبغی الشکّ فی أنّ للزمان والمکان دخلا فی الاجتهاد.
وتوضیحه: أنّ لکلّ حکم موضوعاً، والمعروف فی الألسنة أنّ تشخیص الموضوع لیس من شؤون الفقیه، ولکن الصحیح أنّه لا یمکن للفقیه تجرید الذهن وتفکیک الخاطر عنه، فإنّ لموضوعات الأحکام مصادیق معقّدة غامضة لا یقدر العوام على تشخیصها، بل لابدّ للفقیه تفسیرها وتبیین حدودها وخصوصیاتها، کما یشهد على ذلک أنّ کثیراً من الفروعات المعنونة فی الکتب الفقهیّة (کالمبسوط للشیخ، والقواعد للعلاّمة، والعروة الوثقى للسیّد الیزدی(رحمهم الله)) هى من هذا القبیل.
وإن شئت قلت: إن کان المراد من الموضوع فی المقام هو الموضوعات الجزئیّة، أی مصادیق الموضوعات الکلّیة للأحکام، کمصادیق الدم والخمر والماء المطلق والمضاف وغیرها فإنّه کذلک، أی لیس تشخیصها من شؤون الفقیه، وأمّا إن قلنا بأنّ المراد منه هو نفس الموضوعات الکلّیة الواردة فی لسان الأخبار فلا إشکال فی أنّ تشخیصها وتعیین حدودها من شؤون الفقیه.
وبعبارة أدقّ: أنّ هذا القسم من الموضوعات ـ فی الواقع ـ یستنبطها الفقیه بإرتکازه العرفی، ویستخرجها ویأخذها من بین العرف بما أنّه من أهل العرف، ثمّ یرجعها إلى العرف ویجعلها بأیدیهم بعد تفسیر الخصوصیات وتبیین حدودها، وإن شئت فانظر إلى فتاوی الفقهاء مثلا فی ما یصحّ السجود علیه، فقد ورد فی الدلیل أنّه یجوز السجود على الأرض وما یخرج منها إلاّ ما أکل وما لبس، فهذا عنوان عرفی، وقد تکلّم فقهاؤنا رضوان الله علیهم فی مصادیقه وأنّه أی شیء یعدّ من المأکول والملبوس وأی شیء لا یعد منهما فقد یکون هناک مصادیق لا یقدر العرف على تشخیص أنّها منهما أو لیست منهما، ولذا أورد المحقّق الیزدی(رحمه الله)فی هذا الباب من العروة الوثقى فروعاً کثیرة لتبیین هذه المصادیق المشتبهة کجواز السجود وعدمه على الاُمور التالیة:
1 ـ الأدویة والعقاقیر کلسان الثور.
2 ـ قشر الفواکه.
3 ـ تفالة الشای.
4 ـ نخالة الحنطة.
5 ـ نواة الفواکه.
6 ـ ورق الکرم بعد الیبوسة وقلبها.
7 ـ ما یؤکل فی بعض الأوقات دون بعض.
8 ـ ما هو مأکول فی بعض البلاد دون بعض.
9 ـ النبات الذی ینبت على وجه الماء (فهل هو داخل فی عنوان «ما أنبته الأرض» الوارد فی الروایة أو لا؟).
10 ـ التنباک... إلى غیر ذلک من أشباهها.
إن قلت: کیف یکون رجوع العوام إلى الفقیه فی هذا القسم من المصادیق من قبیل رجوع الجاهل إلى العالم؟ أی کیف تشملها أدلّة التقلید؟
قلنا: إنّ أدلّة التقلید تشملها ویکون الرجوع فیها من قبیل رجوع الجاهل إلى العالم من باب أنّه لیس لها متخصّص وخبیر غیر الفقیه، نعم لو کانت هناک موضوعات یکون لها فی العرف خبراء معروفون یجب الرجوع إلیهم دون الفقیه.
ومن الأمثلة التی یمکن أن تذکر فی هذا المجال عنوان النظر المحرّم إلى الأجنبیّة فإنّه أیضاً من الموضوعات المشکلة من باب أنّ لها مصادیق معقّدة مبهمة، فهل یصدق على النظر إلى تصویر الأجنبی فی المرآة مثلا أو الماء الصافی أو فی تلفزیون عنوان النظر إلى الأجنبیة أو لا؟
هذا من ناحیة، ومن ناحیة اُخرى نعلم أنّ الأحکام تابعة لموضوعاتها متابعة الظلّ لذی الظلّ وقد یتبدّل الموضوع بتبدلّ الزمان أو المکان، فترى الماء فی المفازة والصحاری مالیة فیجوز بیعه فیها، بینما لا یکون له مالیة على الشاطىء، فیبطل بیعه (هذا من قبیل دخل المکان فی الموضوع) وترى الشیخ(رحمه الله) یجوّز بیع الثلج فی الصیف دون الشتاء لکونه مالا فی الأوّل دون الثانی (وهذا من قبیل دخل الزمان فی الموضوع).
ومن أمثلتها الواضحة فی یومنا هذا الدم الذی کان بیعه وشراؤه حراماً فی الأزمنة السابقة باعتبار عدم وجود منفعة محلّلة معتدّ بها له. ولکن الآن لا إشکال فی جواز بیعه وشرائه لما له من منافع محلّلة مقصودة، حیث لا تنحصر منافعه فی الأکل المحرّم أو الصبغ الذی یعدّ من المنافع النادرة، فإنّ الدم فی یومنا هذا عنصر حیاتی یمکن به إنقاذ نفس إنسان من التهلکة، ولذا تکون له مالیّة عظیمة محلّلة معتدّ بها لنجاة المصدومین والجرحى وکثیر من المرضى، لا سیّما فی العملیات الجراحیّة فلِما لا یجوز بیعه فی زماننا والحال هذا؟ وکذا بیع الکُلْیة وشرائها لنجاة بعض المرضى الذین فسدت کِلیَتهم، مع أنّها بعد فصلها عن صاحبها تکون بحکم المیتة، ولا سیّما أنّها من غیر المأکول، فلم یکن بیعها فی الأزمنة السابقة جائزاً لعدم منفعة محلّلة لها، ولکن الآن جاز بیعها فی زماننا هذا لتغیّر الموضوع وتبدّله، ولذا یشترونها بالأثمان الغالیة جدّاً (نعم قد یقال: إنّها وإن جاز بیعها من هذه الناحیة أی کونها ذات منفعة محلّلة مقصودة، ولکن لا یجوز بیعها من باب حرمة بیع المیتة من کلّ شیء وإن کان لها منفعة مقصودة، للنصوص الخاصّة الواردة فیها، فالواجب حینئذ عدم جواز أخذ الثمن فی مقابل نفسها بل فی مقابل إجازه التصرّف فی بدن صاحب الکِلوة فتأمّل جیّداً).
ومن أمثلتها فی عصرنا ما قد یقال فی مسألة تقلیل الموالید وأنّها کانت مرجوحة فی الأعصار السابقة، بینما هى راجحة فی زماننا، لا أقلّ فی بعض البلاد التی تکون کثرة النفوس فیها موجبة للفقر الشدید والتأخّر والمفاسد الأخلاقیّة العظیمة.
فإنّ ما ورد فی الترغیب على تکثیر النسل والموالید کالنبوی المعروف: «تناکحوا تکثروا فإنّی اُباهى بکم الاُمم یوم القیامة ولو بالسقط»(4) ناظرة إلى الأعصار السابقة التی کانت کثرة النفوس فیها سبباً للقدرة والسلطة، فما کان من الجوامع الإنسانیّة أکثر نفراً کان أشدّ قدرة وأکثر قوّة کما یشهد علیه قوله تعالى: (کَانُوا أَشَدَّ مِنْکُمْ قُوَّةً وَأَکْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلاَداً)(5). وقوله تعالى: (وَقَالُوا نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلاَداً)(6)، وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَکُمْ وَتَکَاثُرٌ فِی الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلاَدِ)(7) وقوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ ... وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَال وَبَنِینَ)(8) فهذه الآیات تدلّ بظاهرها على أنّ کثرة الأولاد کانت موجبة للقدرة والشوکة کما کانت کثرة الأموال أیضاً کذلک، ومثل النبوی المعروف قد ورد فی مثل هذا الظرف من المجتمع الإنسانی، فهذه الخصیصة الاجتماعیة الموجودة فی عصر صدوره تکون بمنزلة قرینة لبّیة قد توجب انصرافه إلى خصوص ذلک الزمان، وهذه الدعوى وإن لم تکن ثابتة بالقطع والیقین، ولکنّها قابلة للدقّة والتأمّل.
فقد ظهر ممّا ذکر دخل الزمان والمکان فی الاجتهاد والاستنباط لکن لا على نحو دخلهما فی الحکم بلا واسطة بل من طریق دخلهما فی الموضوع، فإنّ الأحکام ثابتة إلى الأبد، «وحلال محمّد (صلى الله علیه وآله) حلال إلى یوم القیامة وحرامه حرام إلى یوم القیامة»، والمتغیّر على مرّ الدهور والأزمان، والمتبدّل فی الأمکنة والأقطار إنّما هو الموضوعات، وبتبعها تتغیّر الأحکام قهراً.