فإنّها تأمر بالترجیح، والأمر ظاهر فی الوجوب وهى على طوائف:
الطائفة الاُولى: ما یدلّ على أنّ المرجّحات أکثر من مرجّحین وهى عدیدة:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث فتحاکما إلى السلطان وإلى القضاة أیحلّ ذلک؟ قال: من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلى الطاغوت، وما یحکم له فإنّما یأخذ سحتاً وإن کان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحکم الطاغوت وما أمر الله أن یکفر به، قال الله تعالى: (یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحَاکَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ)، قلت: فکیف یصنعان؟ قال: ینظران من کان منکم ممّن قد روى حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنّما إستخفّ بحکم الله وعلینا ردّ، والرادّ علینا رادّ على الله وهو على حدّ الشرک بالله، فإن کان کلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضیا أن یکون الناظرین فی حقّهما واختلفا فیما حکما وکلاهما اختلفا فی حدیثکم (حدیثنا) فقال: الحکم ما حکم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما فی الحدیث وأورعهما ولا یلتفت إلى ما یحکم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضیّان عند أصحابنا لا یفضّل (لیس یتفاضل) واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: ینظر إلى ما کان من روایتهما عنّا فی ذلک الذی حکما به المجمع عیه عند أصحابک فیؤخذ به من حکمنا ویترک الشاذّ الذی لیس بمشهور عند أصحابک فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه، وإنّما الاُمور ثلاثة أمر بیّن رشده فیتّبع وأمر بیّن غیّه فیجتنب وأمر مشکل یردّ علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلک فمن ترک الشبهات نجى من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات إرتکب المحرّمات وهلک من حیث لا یعلم، قلت: فإن کان الخبران عنکم مشهورین قد رواهما الثقات عنکم؟ قال: ینظر فما وافق حکمه حکم الکتاب والسنّة وخالف العامّة فیؤخذ به ویترک ما خالف حکمه حکم الکتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداک إن رأیت إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرین موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأی الخبرین یؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففیه الرشاد، فقلت: جعلت فداک فإن وافقها الخبران جمیعاً؟ قال: ینظر إلى ما هم إلیه أمیل حکّامهم وقضاتهم فیترک ویؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حکّامهم الخبرین جمیعاً قال: إذا کان ذلک فارجه حتّى تلقى إمامک فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الإقتحام فی الهلکات»(1).
فإنّ هذه الروایة تأمر بالترجیح بالشهرة وبموافقة الکتاب ومخالفة العامّة ومخالفة میل الحکّام، ولکنّه إستشکل فیها سنداً ودلالة:
أمّا السند فلعمر بن حنظلة حیث إنّه لم یوثّق فی کتب الرجال، نعم نقل المحقّق المامقانی(رحمه الله) لتوثیقه روایتین:
إحدیهما: ما رواه یزید بن خلیفة قال: قلت لأبی عبدالله (علیه السلام) أنّ عمر بن حنظلة أتانا عنک بوقت فقال أبو عبدالله(علیه السلام) «إذاً لا یکذب علینا ... قال: صدق»(2).
ثانیهما: ما رواه عمر بن حنظلة نفسه عن أبی عبدالله (علیه السلام) فی جواب السؤال عن القنوت یوم الجمعة قال(علیه السلام)« أنت رسولی إلیهم ...»(3)، حیث إنّ رسالته عن الصادق(علیه السلام) دلیل على أنّ له شأناً من الشأن.
هذا ـ مضافاً إلى حکایة المجلسی(رحمه الله) فی روضة المتّقین(4) عن الشهید الثانی(رحمه الله) أنّه وثّقه فی الدرایة.
ولکن مع ذلک کلّه لا یتمّ السند بعد، لأنّ یزید بن خلیفة مجهول الحال فی علم الرجال، والروایة الثانیة راویها نفس عمر بن حنظلة فالاستدلال به دوری، وأمّا توثیق الشهید الثانی(رحمه الله) فلعلّ مبناه هاتان الروایتان نفسهما، فمن البعید أنّه وصل إلیه ما لم یصل إلى غیره، مضافاً إلى أنّه نفسه صرّح فی درایته، بوجود مجاهیل اُخرى فی الروایة منه محمّد بن عدی وداود بن حسین، والعجب منه أنه قال: عمر بن حنظلة لم ینصّ الأصحاب فیه بجرح ولا تعدیل لکن أمره عندی سهل لأنّی حقّقت توثیقه من محلّ آخر وإن کانوا قد أهملوه»(5).
ویالیته أشار إلى طریقه فإنّه لا یصحّ لنا الحکم بالمجهول.
إن قلت: «إنّ الصحیح بناءً على القاعدة المختارة فی الرجال (من توثیق من ینقل عنه أحد الثلاثة) صحّة سندها، وذلک باعتبار أنّه یمکن توثیق یزید بن خلیفة بهذه القاعدة حیث قدروى عنه صفوان بن یحیى (وهو أحد الثلاثة) بسند معتبر فی باب کفّارة الصوم من الکافی(6)فنثبت بذلک وثاقته، وبروایته نثبت وثاقة عمر بن حنظلة أیضاً فالمقبولة صحیحة سنداً»(7).
قلنا: هذه القاعدة غیر ثابتة عندنا لأنّ أحد هؤلاء الثلاثة هو ابن أبی عمیر، وقد روى عن علی بن حدید وقد ضعّفه الشیخ(رحمه الله) فی مواضع من کتابه وبالغ فی تضعیفه وقد روى هو أیضاً وصفوان (فرد آخر من الأعلام الثلاثة) عن یونس بن ظبیان وهو من أضعف الضعاف إلى غیر ذلک من الضعاف الذین روى هؤلاء عنهم(8) وکیف یصحّ مع ذلک الاعتماد على تلک القاعدة وأنّ الأعلام الثلاثة لا یروون إلاّ عن الثقات؟
فظهر أنّه لا یمکن توثیق عمر بن حنظلة بهاتین الروایتین، نعم لا أقلّ من تأییدهما لوثاقته، کما یمکن التأیید بأنّه نقلها المشایخ الثلاثة فی ثلاث من الکتب الأربعة، والمهمّ فی المقام إنّما هو عمل الأصحاب بهذه الروایة فتلقّوه بالقبول حتّى سمّیت مقبولة.
وأمّا الدلالة فقد نوقش فیها من جهات شتّى:
1 ـ من أنّ ظاهرها جواز کون القاضی إثنین مع أنّه ممنوع فی فقهنا.
2 ـ سلّمنا ولکن من البعید جدّاً وقوع قضائهما فی آن واحد بل أحدهما یتقدّم على الآخر غالباً، وحینئذ لا إشکال فی عدم جواز نقض المتأخّر قضاء المتقدّم وإن کان أعلم منه مع أنّ ظاهر هذه الروایة جوازه.
3 ـ إنّ ظاهره أنّ أحدهما إعتمد فی قضائه على الخبر الشاذّ وغفل عن المعارض المشهور، وهذا دلیل على نقصان فحصه أو عدم فحصه عن الأدلّة رأساً، ومعه کیف یتمّ له القضاء؟
4 ـ ظاهر قوله(علیه السلام): ینظر إلى ما کان من روایتهما ... وکذلک قوله(علیه السلام): «ینظر فما وافق ...» وقوله(علیه السلام): «ینظر إلى ما هم إلیه أمیل ...» جواز نظر أرباب الدعوى ودخالتهم فی القضاء وهو ممنوع بلا ریب.
5 ـ إنّ ظاهرها تقدّم الترجیح بصفات القاضی على الترجیح بموافقة الکتاب مع أنّ المشهور خلافه.
6 ـ الظاهر جواز الترجیح فی صفات القاضی بأحد الصفات المذکورة فی هذه الروایة (وهى الأعدلیّة والأفقهیّة والأصدقیّة والأورعیّة) مع أنّ ظاهرها بقرینة واو الجمع لزوم اجتماعها.
7 ـ إنّ الاحتجاج بها على وجوب الترجیح فی مقام الفتوى لا یخلو عن إشکال لقوّة احتمال الترجیح بها بمورد الحکومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة کما هو موردها ولا وجه معه للتعدّی منه إلى غیره.
توضیح ذلک: أنّ الإمام (علیه السلام) بعد ما ذکر مرجّحات القاضیین وإن کان قد ذکر مرجّحات الخبرین أیضاً ولکن الترجیح فی الخبرین إنّما یکون لدفع خصومة المتخاصمین فلا یمکن الاحتجاج بها لوجوب الترجیح فی مقام الفتوى أیضاً، وذلک لقوّة احتمال اختصاص الترجیح بتلک المزایا المنصوصة بمورد الحکومة والقضاء فقط، فإنّ قطع الخصومة عند اختلاف القاضیین لاختلاف ما استند إلیه من الخبرین لا یکاد یمکن إلاّ بالترجیح، بخلاف مقام العمل والفتوى فیمکن الأخذ فیه بأیّهما شاء من باب التسلیم.
8 ـ إنّها مختصّة بزمان الحضور والتمکّن من لقاء الإمام (علیه السلام) بقرینة أمره فی آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامک.
9 ـ إنّ صدرها معارض لذیلها لأنّ الصدر ظاهر فی أنّ أرباب الدعوى کانوا مقلّدین والذیل ظاهر فی اجتهادهم بقرینة قوله(علیه السلام): «ینظر ...» فإنّ النظر والدقّة من عمل المجتهد لا المقلّد.
هذه هى جهات تسعة فی المناقشة من ناحیة الدلالة.
ولابدّ لحلّها والجواب عنها من البحث فی أنّ هذه الروایة هل هى واردة فی باب القضاء أو فی باب الفتوى أو الحکومة والولایة، أو أنّ صدرها وارد فی باب الحکومة وذیلها فی باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد فی باب القضاء وذیلها فی باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد فی باب القضاء ووسطها فی باب الاجتهاد والتقلید وذیلها فی باب تعارض الخبرین والافتاء؟ فالاحتمالات فیه ستّة، أظهرها هو الأخیر.
والشاهد على أنّ صدرها مخصوص بباب القضاء أوّلا: التعبیر بـ «المنازعة فی دَین أو میراث» فإنّ رفع المنازعة من شؤون القاضی وهو المرجع فیها، بل الرجوع إلى ولیّ الأمر فی مثل ذلک إنّما یکون بما هو قاض لا بما هو حاکم.
وثانیاً: الجمع بین تعبیری «إلى السلطان» و «إلى القضاة» بواو الجمع، حیث إنّ ظاهره کون التحاکم إلى السلطان من باب أنّه قاض لا بما أنّه حاکم.
ثالثاً: التعبیر بالحکم فی قوله(علیه السلام): «وما یحکم به ...»، فإنّ الحکم من شؤون القاضی لا الحاکم بما هو حاکم، حیث إنّ مقام الحکومة والولایة مقام الإجراء لا مقام إصدار الحکم.
رابعاً: الاستدلال بقوله تعالى: (یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحَاکَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ) لأنّ هذه الآیة إنّما وردت فی مورد القضاء فی قصّة یهودی ومسلم منافق رضی الیهودی بقضاء رسول الله (صلى الله علیه وآله) ولم یرض المسلم المنافق به).
خامساً: التعبیر بقوله(علیه السلام): «کلاهما اختلفا فی حدیثکم» لما مرّ من أنّ وظیفة الحاکم الشرعی بما هو حاکم إجراء الأحکام لا ملاحظة أدلّة الأحکام والبحث عن تعارضها والاختلاف فیها.
سادساً: اعمال المرجّحات فیها لأنّه أیضاً لیس من شؤون الحاکم.
فظهر أنّ هذه الروایة قد وردت فی الشبهة الموضوعیّة ومورد القضاء، غایة الأمر حیث إنّ الأمر فیها إنتهى إلى الشبهة الحکمیّة والاختلاف فی الأحادیث فی الأثناء وصلت النوبة فی الذیل إلى مسألة التعارض واعمال المرجّحات.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى الجواب عن الإشکالات التسعة فنقول ومن الله التوفیق والهدایة:
أمّا الإشکال الأوّل فجوابه: أنّ تعدّد القاضی ممنوع فی المنصوب منه لا فی التحکیم.
وأمّا الإشکال الثانی فجوابه أیضاً: أنّ عدم جواز نقض حکم القاضی لا یأتی فی قاضی التحکیم فإنّ من لوازم جواز تعدّده نقض أحد القاضیین حکم الآخر، فتأمّل.
وأمّا الإشکال الثالث فجوابه: أنّه لا منافاة بین طرد روایة وکونها مشهورة لأنّ المراد من الشهرة إنّما هى الشهرة الروائیة لا الفتوائیة.
وظهر ممّا ذکرنا من المقدّمة الجواب عن الإشکال الرابع (وهو عدم جواز دخالة أرباب الدعوى فی القضاء) حیث إنّ المسألة تبدّلت من القضاء إلى الفتوى، ومنها إلى منبع الفتوى أی الخبرین، وفیه لابدّ من النظر إلى المرجّحات فرجوعهما إلى المرجّحات إنّما یکون لاستنباط الحکم من ناحیتهما لا بما أنّهم أرباب الدعوى.
وهکذا الجواب عن الإشکال الخامس (وهو عدم جواز تقدیم الترجیح بالصفات على الترجیح بموافقة الکتاب)، لأنّ الرجوع إلى الصفات إنّما هو لتقدیم حاکم على حاکم أو مفت على مفت لا تقدیم إحدى الروایتین على الاُخرى، ولذا قال: «الحکم ما حکم به أعدلهما ...» وقال بعده: «ینظر إلى ما کان من روایتهما ...» فالأوّل مزیّة للحاکم أو المفتی، والثانی مزیّة للروایة.
وأمّا الإشکال السادس: (وهو أنّ ظاهر المقبولة لزوم اجتماع الصفات الأربعة) فجوابه: أنّ الواو فیها بمعنى «أو»، والشاهد علیه ما ورد فی الذیل من قول(علیه السلام) السائل: «لا یفضل واحد منهما على صاحبه» فإنّ ظاهره لزوم ترجیح من یفضّل بواحدة من هذه الصفات وأنّه هو المراد من ما قبله بقرینة المقابلة.
وظهر ممّا ذکرنا فی المقدّمة أیضاً الجواب عن الإشکال السابع (وهو احتمال اختصاص الترجیح بها بمورد الحکومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة) لأنّ الوارد فی باب الحکومة وفصل الخصومة إنّما هو صدر الروایة لا ذیلها، فإنّه وارد فی باب تعارض الخبرین فی مقام الفتوى.
وأمّا الإشکال الثامن: (وهو اختصاص الروایة بزمن الحضور) فجوابه أوّلا: إنّ مقتضى قاعدة الاشتراک فی التکلیف عدم الفرق بین الزمنین ما لم تقم قرینة على الخلاف، وثانیاً: إذا کان الحکم فی زمن الحضور مع إمکان لقاء الإمام(علیه السلام) هکذا، ففی زمن الغیبة وعدم التمکّن من الإمام یکون کذلک بطریق أولى.
وأمّا الإشکال التاسع: (وهو وجود تناقض بین الصدر والذیل، فإنّ الصدر ظاهر فی التقلید والذیل فی الاجتهاد) فجوابه أنّه فرق بین الاجتهاد فی عصر الحضور والاجتهاد فی أعصارنا فإنّ قواعد الفقه والاُصول وفروعاتهما فی أعصارنا متشعّبة معقّدة على خلاف تلک الأعصار فإنّها کانت بسیطة جدّاً یمکن الوصول إلیها لکثیر من آحاد الناس، ولا مانع من صیرورة المقلّد بعد الحصول علیها إجمالا مجتهداً ولو فی بعض المسائل.
هذا کلّه فی الروایة الاُولى من الطائفة الاُولى من أخبار الترجیح.
ومنها: مرفوعة زرارة وقد رواها محمّد بن علی بن إبراهیم بن أبی جمهور الأحسائی فی کتابه غوالی اللئالی عن العلاّمة(رحمه الله) مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) فقلت: «جعلت فداک یأتی عنکم الخبران أو الحدیثان المتعارضان فبأیّهما آخذ؟ فقال: یازرارة خذ بما إشتهر بین أصحابک ودع الشاذّ النادر. فقلت: یاسیّدی إنّهما معاً مشهوران مرویّان مأثوران عنکم. فقال: خذ بما یقول أعدلهما عندک وأوثقهما فی نفسک. فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضیّان موثّقان. فقال: اُنظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاترکه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فیما خالفهم، قلت: ربّما کانا معاً موافقین لها أو مخالفین فکیف أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فیه الحائطة لدینک واترک ما خالف الاحتیاط. فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتیاط أو مخالفان له فکیف أصنع؟ فقال: إذن فتخیّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»(9).
وقد نقلها الشیخ الأعظم(رحمه الله) فی رسائله ولکن بتفاوت مع ما ورد فی غوالی اللئالی فی مواضع کثیرة (عشرة مواضع) لکنّها غیر مؤثّرة فی المقصود.
والمهمّ إشکالها السندی أوّلا: من ناحیة عدم کون الإحسائی معاصراً للعلاّمة(رحمه الله) فلابدّ أنّه نقله من کتابه مع أنّه قد یقال: إنّه لم یجدها المتتبّعون فی کتب العلاّمة(رحمه الله)، واحتمال أخذه من بعض تلامیذه أیضاً لا یفیدنا لأنّه مجهول لنا.
وثانیاً: من ناحیة الارسال بین العلاّمة(رحمه الله) وزرارة بسقوط وسائط کثیرة لفصل طویل بینهما.
قال صاحب الحدائق (فیما حکى عنه): أنّ الروایة لم نقف علیها فی غیر کتاب العوالی مع ما علیها من الارسال وما علیه الکتاب المذکور من نسبة صاحبه إلى التساهل فی نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمینها وصحیحها بسقیمها کما لا یخفى على من لاحظ الکتاب المذکور (انتهى).
وقد ذکر شیخنا الأنصاری رضوان الله علیه فی بعض کلماته فی مباحث الشهرة: (فی مباحث الظنّ) «أنّه قد أشکل فی سند هذا الخبر من لیس دأبه الإشکال ...» والظاهر أنّه ناظر إلى کلام الحدائق.
نعم یستفاد من بعض الکلمات عمل المشهور بها، فقال الشیخ الأعظم(رحمه الله) فی مباحث التعادل والترجیح: «فإنّه وإن کانت ضعیفة السند إلاّ أنّها موافقة لسیرة العلماء فی باب الترجیح فإنّ طریقتهم مستمرّة على تقدیم المشهور على الشاذّ، والمقبولة وإن کانت مشهورة بین العلماء حتّى سمّیت مقبولة إلاّ أنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن کانت شاذّة من حیث الروایة حیث لم توجد مرویّة فی شیء من جوامع الأخبار المعروفة ولم یحکها إلاّ ابن أبی جمهور عن العلاّمة مرفوعاً» (انتهى).
ثمّ أورد علیها بما حاصله: أنّ العمل بالمرفوعة یقتضی عدم العمل بها حیث إنّها معارضة مع المقبولة فی تقدیم الشهرة على الصفات وتأمر بالأخذ بالمشهور من الروایتین المتعارضتین لأنّ ولا إشکال فی أنّ المشهور بینهما إنّما هى المقبولة.
أقول: ولکنّه متوقّف على وجود التعارض بینهما مع أنّه لیس کذلک، لأنّ صدر المقبولة وارد فی باب الحکم والفتوى لا الخبرین المتعارضین کما مرّ، وإنّما المتعلّق منها بباب تعارض الخبرین قوله(علیه السلام): «ینظر إلى ما کان من روایتهما المجمع علیه ...» ولا یخفى أنّ أوّل المرجّحات حینئذ الشهرة کما فی المرفوعة.
نعم، یبقى إشکال ضعف السند على حاله لأنّ استناد عمل الأصحاب بها غیر معلوم فلعلّ مدرکهم هو المقبولة بناءً على ما ذکرنا.
فتحصّل أنّ المرجّحات الواردة فی کلّ واحدة من هاتین الروایتین أربعة، أمّا ما ورد فی المقبولة فهى: الشهرة، وموافقة الکتاب، ومخالفة العامّة، ومخالفة ما هو أمیل إلیه حکّامهم وقضاتهم، وما ورد فی المرفوعة فهى: الشهرة، وصفات الراوی، ومخالفة العامّة، والموافقة مع الاحتیاط.
ومنها: مرسلة الکلینی فإنّه قال فی أوّل الکافی: «إعلم یاأخی أنّه لا یسع أحد تمییز شیء ممّا اختلفت الروایة فیه عن العلماء برأیه إلاّ ما أطلقه العالم(علیه السلام)بقوله: أعرضوهما على کتاب الله عزّوجلّ فما وافق کتاب الله عزّوجلّ فخذوه وما خالف کتاب الله فردّوه، وقوله(علیه السلام): دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد فی خلافهم، وقوله(علیه السلام): خذوا بالمجمع علیه فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه»(10).
فالمرجّحات الواردة فیها ثلاثة: موافقة کتاب الله، ومخالفة العامّة، والشهرة، ولکن المظنون بالظنّ القوی أنّها لیست إلاّ ضمّ روایات بعضها ببعض فلیست روایة مستقلّة غیر ما مرّ علیک.
هذا کلّه فی الطائفة الاُولى وهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات أکثر من إثنین.
الطائفة الثانیة: فهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات اثنان (وهما الموافقة مع کتاب الله والمخالفة مع العامّة) وهى روایة واحدة رواها عبدالرحمن بن أبی عبدالله قال: قال الصادق(علیه السلام): «إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فأعرضوهما على کتاب الله فما وافق کتاب الله فخذوه، وما خالف کتاب الله فردّوه، فإن لم تجدوهما فی کتاب الله فأعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه»(11).
الطائفة الثالثة: ما تدلّ على مرجّح واحد (وهو الموافقة مع الکتاب والسنّة القطعیّة) وهى ثلاثة:
إحدیها: ما رواه أحمد بن الحسن المیثمی أنّه سأل الرض(علیه السلام) یوماً ... قلت: «فإنّه یرد عنکم الحدیث فی الشیء عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) ممّا لیس فی الکتاب وهو فی السنّة ثمّ یرد خلافه فقال: کذلک فقد نهى رسول الله(صلى الله علیه وآله) عن أشیاء ... فما ورد علیکم من خبرین مختلفین فأعرضوهما على کتاب الله فما کان فی کتاب الله موجوداً حلالا أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الکتاب، وما لم یکن فی الکتاب فأعرضوه على سنن رسول الله (صلى الله علیه وآله)...»(12). (ومن الواضح أنّ المراد من السنّة فیها هو السنّة القطعیّة).
ثانیها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرض(علیه السلام) قال: قلت له: «تجیئنا الأحادیث عنکم مختلفة فقال: ما جاءک عنّا فقس على کتاب الله عزّوجلّ وأحادیثنا فإن کان یشبهها فهو منّا وإن لم یکن یشبهها فلیس منّا»(13) (فالأحادیث القطعیّة عنهم بمنزلة السنّة النبویة القطعیّة).
ثالثها: ما رواه الحسن بن الجهم عن العبد الصالح(علیه السلام) قال: «إذا جاءک الحدیثان المختلفان فقسهما على کتاب الله وأحادیثنا فإن أشبهها فهو حقّ وإن لم یشبهها فهو باطل»(14).
الطائفة الرابعة: ما تدلّ على مرجّح واحد، وهو مخالفة العامّة وهى أربعة:
1 ـ ما رواه الحسین بن السرّی قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»(15).
2 ـ ما رواه الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح(علیه السلام): «هل یسعنا فیما ورد علینا منکم إلاّ التسلیم لکم؟ فقال: لا والله لا یسعکم إلاّ التسلیم لنا فقلت: فیروى عن أبی عبدالله(علیه السلام)شیء ویروى عنه خلافه فبأیّهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه»(16).
3 ـ ما رواه محمّد بن عبدالله قال: قلت للرض(علیه السلام): «کیف نصنع بالخبرین المختلفین؟ فقال: إذا ورد علیکم خبران مختلفان فانظروا إلى ما یخالف منهما العامّة فخذوه وانظروا إلى ما یوافق أخبارهم فدعوه»(17).
4 ـ ما رواه سماعة بن مهران عن أبی عبدالله(علیه السلام) قلت: «یرد علینا حدیثان: واحد یأمرنا بالأخذ به، والآخر ینهانا عنه قال: لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبک فتسأله، قلت: لابدّ أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فیه خلاف العامّة»(18).
الطائفة الخامسة: ما تدلّ على الترجیح بالموافقة مع الشهرة وهى روایة واحدة رواها فی الإحتجاج مرسلا، قال: وروی عنهم(علیهم السلام) أنّهم قالوا: إذا إختلف أحادیثنا علیکم فخذوا بما اجتمعت علیه شیعتنا فإنّه لا ریب فیه»(19).
ولکن لا یبعد أن تکون مأخوذة من مقبولة عمر بن حنظلة.
الطائفة السادسة: ما تدلّ على ترجیح الأحدث، وهى أربعة، مرّت ثلاثة(20) منها فی المقام الأوّل، والرابعة ما رواه محمّد بن مسلم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قلت له: «ما بال أقوام یروون عن فلان وفلان عن رسول الله(صلى الله علیه وآله) لا یتّهمون بالکذب فیجیء منکم خلافه؟ قال: إنّ الحدیث ینسخ کما ینسخ القرآن».
ولا یخفى أنّه لا یمکن الأخذ بظاهر هذا الحدیث (وهو أنّ الإمام (علیه السلام) یمکن له نسخ ما روى عن رسول الله (صلى الله علیه وآله)) لأنّ الإمام حافظ للشریعة لا مشرّع، فلیکن المراد منه إمّا أنّ الإمام(علیه السلام) یبرز ویبیّن ما کان منسوخاً فی زمن رسول الله (صلى الله علیه وآله)ولم تساعد الظروف على تبیینه، وحینئذ یخرج الحدیث عن محلّ البحث لأنّ البحث فی ما نحن فیه عن الأخبار الظنّیة، والناسخ یعتبر فیه أن یکون قطعیّاً.
أو المراد منه الأخذ بالأحدث، أی بما یکون ناسخاً للحکم الظاهری (لا للحکم الواقعی کما فی الاحتمال الأوّل) فیکون الحدیث دالا على الترجیح بالأحدثیّة.
هذه هى الطوائف الستّة الواردة فی المرجّحات.
ولکن الإنصاف أنّ الطائفة السادسة بجمیع روایاتها خارجة عن محلّ الکلام لأنّها واردة فی باب التقیّة کما لا یخفى، ومحلّ البحث ما إذا کان الخبران کلاهما فی مقام بیان حکم الله الواقعی.
فتبقى خمس طوائف اُخرى لابدّ من علاجها ورفع التعارض بینها.
والعجب من المحقّق الخراسانی(رحمه الله) حیث إنّه رفضها من دون ذکرها جمیعاً وتبیین معانیها ونسبها، مع أنّ اللازم فی جمیع هذه الأبواب ذکر جمیع ما ورد عنهم(علیهم السلام) واحداً بعد واحد والدقّة فی مضامینها، وقد جرت عادة شیخنا الأنصاری(رحمه الله) على هذه الطریقة، ولکن مع الأسف تغیّرت عادة کثیر من المتأخّرین والمعاصرین من الاُصولیین إلى غیر هذا، حفظنا الله تعالى من مزال الإقدام.
وعلى أی حال الاشکال الأول الذی یرد على هذه الروایات هو أنّها معارضة مع أخبار التخییر التی مرّ تفصیلها فی المقام الأوّل.
ویجاب عنه: بحمل المطلق على المقیّد، حیث إنّ تلک الروایات مطلقة تعمّ موارد وجود المرجّحات وعدمها فتقیّد بهذه الروایات وتحمل على موارد تساوی الخبرین.
والإشکال الثانی: تعارض نفس هذه الطوائف بعضها مع بعض، فإنّ بعضها یدلّ على ثلاث مرجّحات أو أربعة، وبعضها على إثنین، وبعضها الآخر على أنّها واحدة، والتی تدلّ على مرجّح واحد أیضاً مختلفة کما مرّ آنفاً.
ولکن هذا الإشکال أیضاً یندفع بحمل المطلق على المقیّد، فإنّ ما تدلّ على مرجّح واحد مثلا تکون مطلقة بالنسبة إلى سائر المرجّحات کما یتّضح بالتأمّل فیها.
والإشکال الثالث: فی المقام إشکال الترتیب الموجود بین المرجّحات، فإنّ الترتیب الموجود فی المقبولة مثلا یخالف الترتیب الموجود فی المرفوعة.
وسیأتی الجواب عنه إن شاء الله تعالى عند الجواب عن إشکالات المحقّق الخراسانی(رحمه الله)على وجوب الترجیح فانتظر.
ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی(رحمه الله) بعد أن اعتبر المقبولة والمرفوعة أجمع خبر للمزایا المنصوصة فی الأخبار حاول أن یناقش فی دلالتهما على وجوب الترجیح فأورد على الإحتجاج بهما باُمور:
1 ـ ما یختصّ بالمرفوعة فقط، وهو ضعف سندها، وقد مرّ الکلام فیه فلا نعید.
2 ـ ما یختصّ بالمقبولة فقط، وهو ما مرّ تفصیله من أنّها مختصّه بباب القضاء ورفع الخصومة فلا ربط لها للترجیح فی مقام الفتوى، وقد مرّ توضیح إشکاله هذا والجواب عنه أیضاً.
3 ـ ما یختصّ بالمقبولة أیضاً وهو اختصاصها بزمان الحضور والتمکّن من لقاء الإمام (علیه السلام)بقرینة أمره فی آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامک، ووجوب الترجیح فی زمان الحضور لا یلازم وجوبه فی زمان الغیبة، وقد مرّ الجواب عن هذا الإشکال أیضاً فراجع.
4 ـ أنّ تقیید جمیع إطلاقات التخییر الواردة فی مقام الجواب عن سؤال حکم المتعارضین بلا استفصال عن کونهما متعادلین أو متفاضلین بأخبار الترجیح من المقبولة والمرفوعة وغیرها وحمل الإطلاقات المذکورة جمیعاً على موارد تساوی الخبرین مع ندرتها بعید قطعاً.
ولکن الإنصاف أنّ هذا الاستبعاد یزول بعد ملاحظة أخبار التخییر وقلّة إطلاقاتها، فقد لاحظت فی المقام الأوّل أنّ روایات التخییر التامّة دلالة هى روایة الحسن بن الجهم (وهى الروایة الاُولى من ذلک المقام) وروایة الحارث بن المغیرة (وهى الروایة الثانیة) ومرفوعة زرارة (وهى الروایة الثامنة) ومرسلة کلینی.
أمّا مرفوعة زرارة فإنّ الأمر بالتخییر فیها ورد بعد الأمر بالترجیح فلا تعدّ من المطلقات، وأمّا مرسلة الکلینی فقد احتملنا کونها مأخوذة من سائر الروایات، فتبقى الروایة الاُولى والثانیة، ولا إشکال فی أنّ حملهما على موارد التساوی لیس ببعید.
5 ـ وجود الاختلاف الکثیر فی نفس أخبار الترجیح، فإنّه شاهد على الحمل على مراتب الاستحباب والفضل (کما فعله الأصحاب بالنسبة إلى الروایات المختلفة الواردة فی باب منزوحات البئر).
وهذا أیضاً یرتفع بعد التأمّل فی الأخبار والنسبة الموجودة بینها، فإنّ المهمّ من الطائفة الاُولى إنّما هى المقبولة (لعدم اعتبار المرفوعة سنداً کما مرّ) والمرجّحات الواردة فیها عبارة عن الشهرة وموافقة الکتاب ومخالفة العامّة (وأمّا المخالفة مع میل حکّامهم فهى من مصادیق مخالفة العامّة فترجع إلیها کما لا یخفى) ولا إشکال فی أنّ الطائفة الثانیة وهى ما تدلّ على إثنین من هذه الثلاثة (وهما الثانی والثالث منها) مطلقة بالنسبة إلى المرجّح الأوّل منها، وهکذا کلّ من الطائفة الثالثة والرابعة التی تدلّ على مرجّح واحد من الثلاثة مطلقة بالنسبة إلى مرجّحین آخرین فیجمع بینها بالتقیید.
6 ـ ما یختصّ بالأخبار المشتملة على الترجیح بموافقة الکتاب والسنّة فقط أو الترجیحبمخالفة العامّة فقط، أو الترجیح بموافقة الکتاب ومخالفة العامّة معاً، وحاصله: أنّها لیست من أخبار الباب، أی ترجیح الحجّة على الحجّة، وإنّما هى فی مقام تمییز الحجّة عن اللاّحجّة، أمّا بالنسبة إلى الخبر المخالف للکتاب والسنّة فلقوّة احتمال أن یکون مثله فی نفسه غیر حجّة ولو لم یکن له معارض أصلا، وذلک بشهادة ما ورد فی شأنه من أنّه زخرف أو باطل أو أنّه لم نَقُله، أو أمر بطرحه على الجدار، مضافاً إلى أنّ الصدور أو الظهور فی مثله یکون موهوناً بحیث لا یعمّه أدلّة اعتبار السند أو الظهور.
وأمّا بالنسبة إلى الخبر الموافق للقوم فلأنّه بملاحظة الخبر المخالف له مع الوثوق بصدوره (المخالف) لو لم ندع القطع بصدوره تقیّة فلا أقلّ من عدم جریان أصالة الجدّ فیه.
ولکن الإنصاف أنّ هذا أیضاً نشأ من عدم التأمّل فی أخبار الباب، أمّا المشتملة على الترجیح بموافقة الکتاب والسنّة فلأنّها على قسمین: قسم لا ربط له بما نحن فیه، أی بباب التعارض، بل إنّه وارد فی مطلق ما یکون مخالفاً للکتاب، وقسم آخر ورد فی خصوص باب التعارض، والتعبیر بـ «أنّه زخرف» أو «باطل» أو غیرهما ورد فی خصوص القسم الأوّل لا الثانی.
فإنّ من القسم الأوّل: ما رواه السکونی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): أنّ على کلّ حقّ حقیقة وعلى کلّ صواب نوراً، فما وافق کتاب الله فخذوه وما خالف کتاب الله فدعوه»(21).
ومنها: ما رواه أیّوب بن راشد عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «ما لم یوافق من الحدیث القرآن فهو زخرف»(22).
ومنها: ما رواه أیّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: کلّ شیء مردود إلى الکتاب والسنّة، وکلّ حدیث لا یوافق کتاب الله فهو زخرف»(23).
ومنها: ما رواه هشام بن الحکم وغیره عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «خطب النبی(صلى الله علیه وآله) بمعنى وقال: أیّها الناس ما جاءکم عنّی یوافق کتاب الله فأنا قلته، وما جاءکم یخالف کتاب الله فلم أقله»(24).
ومنها: ما ورد فی تفسیر العیاشی عن سدیر قال: «قال أبو جعفر وأبو عبدالله (علیهما السلام): لا تصدّق علینا إلاّ ما وافق کتاب الله وسنّة نبیّه(صلى الله علیه وآله)»(25).
فتلاحظ أنّ جمیعها واردة فی کلّ خبر یکون مخالفاً للکتاب والسنّة ولا ربط لها بباب الخبرین المتعارضین، وحینئذ یکون المراد من المخالفة فیها هى المخالفة على نحو التباین لا العموم والخصوص أو الاطلاق والتقیید، فإنّا نقطع بورود مخصّصات أو مقیّدات کثیرة لعمومات الکتاب وإطلاقاتها فی الأخبار الظنّیة المعتبرة.
ومن القسم الثانی (الذی هو خال عن تلک التعبیرات) المقبولة والمرفوعة. وما رواه عبدالرحمن بن أبی عبدالله عن الصادق(علیه السلام) (وقد مرّ ذکرها فی الطائفة الثانیة من أخبار المرجّحات).
ولیس فی شیء منها واحد من تلک التعبیرات الظاهرة فی عدم الحجّیة، فیکون المراد من المخالفة فیها المخالفة لظهور الکتاب لا لنصّه وصریحه.
وممّا یشهد علیه وقوع الترجیح بموافقة الکتاب فی المقبولة بعد الترجیح بالشهرة أنّ معنى تقدیمه علیه هو الأخذ بالخبر المشهور المجمع علیه وإن کان مخالفاً للکتاب والسنّة، فلو کان المراد من المخالف للکتاب والسنّة هو المخالف لنصّهما وصریحهما لم یجز الأخذ به ولو فرض کونه مشهوراً مجمعاً علیه عند الأصحاب کما لا یخفى.
کما یشهد علیه أیضاً فرض الراوی فی المقبولة موافقة کلا الخبرین للکتاب بقوله: «إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب والسنّة» فإنّه إذا کان المراد من المخالفة المخالفة على نحو التباین فلا معنى لأن یکون کلّ من الخبرین المتعارضین المتباینین موافقاً لکتاب الله.
ویشهد علیه ثالثاً وقوع الترتیب بین الترجیح بموافقة الکتاب والترجیح بمخالفة العامّة فی المقبولة أیضاً، فإنّ اعتبار الترتیب لا یلائم عدم الحجّیة کما لا یخفى. وبالجملة لیس المراد من المخالفة للکتاب فی أخبار الترجیح هى المخالفة لنصّ الکتاب وصریحه، بل المراد منها بقرینة هذه الشواهد الثلاثة هى المخالفة لظهوره.
وبهذا یظهر الجواب عن الأمر الثانی فی کلامه (وهو عدم شمول أدلّة اعتبار السند والظهور للخبر المخالف للکتاب والسنّة) فإنّه إذا کان المراد من المخالفة هو المخالفة لظاهر الکتاب فالصدور أو الظهور فی الخبر المخالف ممّا لا وجه له (لوهنه بعد القطع بصدور أخبار کثیرة مخالفة لظاهر الکتاب تخصیصاً کما مرّ بیانه).
هذا کلّه بالنسبة إلى الأخبار المشتملة على الترجیح بموافقة الکتاب.
وأمّا المشتملة على الترجیح بمخالفة العامّة (وإلیه یرجع الترجیح بمخالفة میل الحکّام کما مرّ) فکذلک لیست من قبیل تمییز الحجّة عن اللاّحجّة لأنّه لا ریب فی أنّ المراد من الموافقة للعامّة أو المخالفة لهم إنّما هى موافقة بعضهم، أو مخالفة بعضهم لما ورد فی ذیلها من فرض موافقة کلا الخبرین لهم، حیث لا معنى لأن یکون کلّ من الخبرین المتضادّین موافقاً لجمیع العامّة، ولا إشکال فی أنّ الخبر الذی یوافق بعضهم لا یحمل على التقیّة حتّى یکون من قبیل اللاّحجّة.
هذا مضافاً إلى أنّ عدم حجّیته لا یلائم الترتیب الواقع فی المقبولة أیضاً.
7 ـ ما یرجع من جهة إلى التأیید للوجه السابق، وهو أنّ ما ذکرنا (من کون أخبار الترجیح فی مقام تمییز الحجّة عن اللاّحجّة لا فی مقام ترجیح الحجّة عى الحجّة) ممّا یقتضیه التوفیق بین أخبار الترجیح وبین إطلاقات التخییر، فإنّ مقتضى الجمع بینهما إمّا حمل أخبار الترجیح على ما ذکرنا أو حملهما على الاستحباب، لأنّه لو لم نوفّق بینهما هکذا بل وفّقنا بینهما بتقیید إطلاقات التخییر بأخبار الترجیح (کما فعله المشهور) لزم التقیید فی نفس أخبار الترجیح أیضاً (لما مرّ من اختلافها على طوائف) مع أنّها آبیة عنه جدّاً، وکیف یمکن تقیید مثل «ما جاءکم یخالف کتاب الله فلم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» بما إذا لم یکن أحدهما أشهر روایةً بحیث لو کان أحدهما أشهر أخذنا به ولو خالف الکتاب.
وقد ظهر ممّا ذکرنا فی الجواب عن الوجه السابق الجواب عن هذا الوجه أیضاً، فإنّ هذه التعبیرات (من الزخرف والباطل ولم أقله) لیس منها فی أخبار الترجیح عین ولا أثر، وإنّما هى فی الأخبار الناهیّة عن الخبر المخالف للکتاب والسنّة ولو لم یکن له معارض، وأمّا روایة الحسن بن الجهم(26) المشتملة على بعض هذه التعبیرات فهى ضعیفة بالارسال.
إلى هنا تمّ الکلام عن الدلیل الأوّل على مقالة المشهور (وجوب اعمال المرجّحات) وهو فی الواقع یرجع إلى ظهور الأمر بالترجیح الوارد فی أخبار الترجیح فی الوجوب.