أمّا الطائفة الاُولى: فهى روایات کثیرة:
1 ـ ما رواه الحسن بن الجهم عن الرض(علیه السلام) قال: قلت له: «تجیئنا الأحادیث عنکم مختلفة فقال: ما جاءک عنّا فقس على کتاب الله عزّوجلّ ... قلت: یجیئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحدیثین مختلفین ولا نعلم أیّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت»(1).
2 ـ ما رواه الحارث بن المغیرة عن أبی عبدالله (علیه السلام) قال: «إذا سمعت من أصحابک الحدیث وکلّهم ثقة فموسّع علیک حتّى ترى القائم(علیه السلام) فتردّ إلیه»(2).
ودلالة هاتین الروایتین تامّة على المقصود وإن أُورد على سندهما بالارسال.
3 ـ ما رواه علی بن مهزیار قال: «قرأت فی کتاب لعبدالله بن محمّد إلى أبی الحسن(علیه السلام)اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبدالله (علیه السلام) فی رکعتی الفجر فی السفر، فروى بعضهم صلّها فی المحمل، وروى بعضهم لا تصلّها إلاّ على الأرض فوقّع(علیه السلام): موسّع علیک بأیّة عملت»(3).
ولکن یرد علیه: بأنّ مورده هو التخییر فی نافلة الفجر المستحبّة فیحمل على التخییر
بین مراتب الفضیلة فلا یمکن التعدّی عنه إلى الواجبات، لأنّ حکم المتعارضین فی المستحبّات غیر حکمهما فی الواجبات کما مرّ.
4 ـ ما رواه الطبرسی فی الإحتجاج فی جواب مکاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحمیری إلى صاحب الزمان(علیه السلام)وهو(4) ما مرّ ذکره سابقاً من روایة التکبیر حین الانتقال من حالة إلى حالة اُخرى، ولکن قد مرّ أنّ مورده أیضاً هو التخییر فی المستحبّات.
5 ـ مرسلة الکلینی حیث قال: وفی روایة اُخرى: «بأیّهما أخذت من باب التسلیم وسعک»(5). ولکن لعلّها مأخوذة من الروایات السابقة.
6 ـ معتبرة سماعة عن أبی عبدالله قال: «سألته عن رجل اختلف فیه رجلان من أهل دینه فی أمر کلاهما یرویه: أحدهما یأمر بالأخر والآخر ینهاه، کیف یصنع؟ قال(علیه السلام): یرجئه حتّى یلقى من یخبره، فهو فی سعة حتّى یلقاه»(6).
وهى أیضاً قابلة للمناقشة حیث إنّ دلالتها على المطلوب مبنیّة على أن یکون المراد من «سعة» فیها هو التخییر مع أنّه یحتمل أن یکون المراد منها الرجوع إلى الأصل، أی البراءة.
لا یقال: إنّها مغیّاة بملاقاة الإمام فتکون الروایة مختصّة بعصر الحضور، لأنّا نقول: إنّ عصر الغیبة أولى بالسعة لعدم إمکان الوصول إلى قول المعصوم(علیه السلام).
7 ـ ما رواه أحمد بن الحسن المیثمی: «أنّه سأل الرض(علیه السلام) یوماً ... إلى أن قال: وبأیّهما شئت وسعک الاختیار من باب التسلیم والإتّباع ...»(7).
ولکن موردها أیضاً المستحبّات حیث ورد قبل الفقرة المذکورة: «وما کان فی السنّة نهی إعافة أو کراهة ثمّ کان الخبر الأخیر خلافه فذلک رخصة فیما عافه رسول الله (صلى الله علیه وآله) وکره ولم یحرّمه، فذلک الذی یسع الأخذ بها جمیعاً وبأیّهما شئت ...».
8 ـ ما رواه فی عوالی اللئالی عن العلاّمة بقوله: «وروى العلاّمة مرفوعاً إلى زرارة بن أعین قال: سألت الباقر (علیه السلام) فقلت: جعلت فداک یأتی عنکم الخبران أو الحدیثان المتعارضان فبأیّهما آخذ؟ فقال: یازرارة ... فقلت أنّهما معاً موافقان للإحتیاط أو مخالفان له فکیف أصنع؟ فقال(علیه السلام): إذن فتخیّر أحدهما وتأخذ به وتدع الآخر»(8).
وهذه الروایة صریحة الدلالة على المقصود.
فقد ظهر إلى هنا أنّ التامّ دلالة من هذه الثمانیة إنّما هو الأوّل والثانی، والثامن فیبلغ ما دلّ على التخییر إلى حدّ التظافر وإن لم یبلغ إلى حدّ التواتر کما ادّعاه الشیخ الأعظم، مضافاً إلى تأییدها بمرسلة الکلینی وغیرها خصوصاً بعد ملاحظة ما صرّح به فی دیباجة الکافی حیث قال: «... ولا نجد شیئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلک کلّه إلى العالم (علیه السلام)وقبول ما وسّع من الأمر فیه بقوله(علیه السلام)بأیّما أخذتم من باب التسلیم وسعکم»(9).
ومضافاً إلى ما إدّعاه شیخنا الأعظم(رحمه الله) فی رسائله من «أنّ علیه المشهور وجمهور المجتهدین حیث قال: فهل یحکم بالتخییر أو العمل بما طابق منهما الاحتیاط أو بالاحتیاط وجوه، المشهور وهو الذی علیه جمهور المجتهدین الأوّل للأخبار المستفیضة بل المتواتر» (انتهى) وکفى بذلک جبراً لسندها حتّى ولو کانت روایة واحدة.
بل هذا هو ما نشاهده عملا فی الفقه وعلیه سیرة الفقهاء، فمن العجب جدّاً ما قال به بعض الأعلام فی مصباح الاُصول: «إنّ التخییر بین الخبرین المتعارضین عند فقد المرجّح لأحدهما ممّا لا دلیل علیه، بل عمل الأصحاب فی الفقه على خلافه فإنّا لم نجد مورداً أفتى فیه بالتخییر واحد منهم»(10).
هذه کلّه فی الطائفة الاُولى من الأخبار.
أمّا الطائفة الثانیة: (وهى ما تدلّ على لزوم الأخذ بأحوط الخبرین) فهى نفس مرفوعة زرارة المذکورة آنفاً حیث ورد فیها: «قلت: ربّما کانا معاً موافقین لهم أو مخالفین، فکیف أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فیه الحائطة لدینک واترک ما خالف الاحتیاط».
ولکن غایة ما یستفاد من هذه الروایة کون موافقة أحد الخبرین للاحتیاط من المرجّحات لا أنّ مآل الأمر إلى الأخذ بالأحوط بل مآله هو التخییر کما وقع التصریح به فی
ذیل الروایة، وحیث إنّ هذا المرجّح لا دلیل علیه إلاّ هذه الروایة وقد عرفت الإشکال فی سندها، فلا یمکن المساعدة على جعل الأحوطیة مرجّحة أیضاً.
وأمّا الطائفة الثالثة: (وهى ما تدلّ على لزوم العمل بأحوط الاحتمالات) فهى أیضاً روایة واحدة، وهى مقبولة عمر بن حنظلة حیث ورد فیها: «قلت: فإن وافق حکّامهم الخبرین جمعیاً؟ قال: إذا کان ذلک فارجئه حتّى تلقى إمامک فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الإقتحام فی الهلکات»(11).
ولکنّها أیضاً غیر تامّة من جهتین:
الاُولى: أنّ مفادها هو التساقط لا الأخذ بأحوط الاحتمالات، فإنّ المراد من الأرجاء هو التوقّف وهو خلاف الإجماع لأنّه قام على عدم التساقط کما مرّ.
الثانیة: أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى عصر الحضور ولا تعمّ زمان الغیبة إذ إنّ الحکم بالإرجاء فیها مغیّى بلقاء الإمام(علیه السلام)، وبعبارة اُخرى: إنّها إنّما تدلّ على لزوم الاحتیاط فی الشبهات قبل الفحص أو حال الفحص.
وأمّا الطائفة الرابعة (وهى ما تدلّ على لزوم الأخذ بالأحدث منهما) فهى عدیدة:
منها: ما رواه الحسین بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «أرأیتک لو حدّثتک بحدیث «العام» ثمّ جئتنی من قابل فحدّثتک بخلافه بأیّهما کنت تأخذ؟ قال: کنت آخذ بالأخیر. فقال لی: رحمک الله»(12).
ومنها: ما رواه معلّى بن خنیس، قال قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): «إذا جاء حدیث عن أوّلکم وحدیث عن آخرکم بأیّهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتّى یبلغکم عن الحیّ فإن بلغکم عن الحی فخذوا بقوله، قال ثمّ قال أبو عبدالله(علیه السلام): إنّا والله لا ندخلکم إلاّ فیما یسعکم»(13).
ومنها: مرسلة الکلینی فإنّه قال: «وفی حدیث آخر: خذوا بالأحدث» ولکنّه من المستبعد جدّاً کونها غیر الروایات السابقة.
ومنها: ما رواه أبو عمرو الکنانی قال: قال لی أبو عبدالله (علیه السلام): «یاأبا عمرو أرأیت لو حدّثتک بحدیث أو أفتیتک بفتیا ثمّ جئتنی بعد ذلک فسألتنی عنه فأخبرتک بخلاف ما کنت أخبرتک أو أفتیتک بخلاف ذلک بأیّهما کنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر. فقال: قد أصبت یاأبا عمرو أبى الله إلاّ أن یعبد سرّاً أما والله لئن فعلتم ذلک إنّه لخیر لی ولکم أبى الله عزّوجلّ لنا فی دینه إلاّ التقیّة»(14).
ولکن لا یخفى أنّ مورد هذه الروایة هو التقیّة، ولا إشکال فی أنّ المعتبر فی هذا المقام إنّما هو آخر ما یصدر من صاحب التقیّة فإنّها على قسمین: تقیّة القائل، وهى ما إذا کان الإمام(علیه السلام)فی شرائط خاصّة تقتضی بیان الحکم على خلاف الواقع، وتقیّة السائل وهى ما إذا کان للمسائل ظروف وشرائط خاصّة کذلک فإنّ الإمام(علیه السلام) کالطبیب ینظر إلى حاجة المأمورین فی الظروف المختلفة من لزوم التقیّة أو رفضها، ومن الواضح أنّ المیزان فی تعیین الحکم والوظیفة العملیّة إنّما هو ما مرّ علیه فی الحال من الشرائط الجدیدة، ولازمه لزوم الأخذ بأحدث الخبرین.
بل یمکن أن یقال: إنّ هذه الروایة وکذلک ما ورد فی ذیل الروایة السابقة (وهو قوله (علیه السلام): «والله لا ندخلکم إلاّ فیما یسعکم») الظاهر فی مقام التقیّة أیضاً یرفع النقاب عن وجه هذه الطائفة من الروایات بأجمعها، ویبیّن لنا جهة صدورها وأنّها غیر قابلة الإعتماد من هذه الجهة وتکون خارجة عن محلّ النزاع.
وممّا یؤیّد هذا المعنى (أی خروجها عن محلّ النزاع) یقین السائل فیها بأصل الصدور وأصل مجیء الحدیث عن جانب الإمام (علیه السلام) وإنّما الکلام فی جهة الصدور بینما محلّ البحث هو ما إذا کان الصدور ظنّیاً، هذا کلّه أوّلا.
وثانیاً: سلّمنا کون الأحدثیة میزاناً فی الأخذ بأحد الخبرین، ولکن غایتها أنّها إحدى المرجّحات، فلا دلالة لهذه الروایات على صورة فقدان هذا المرجّح، فتکون أخصّ من المدّعى.
وثالثاً: أنّها محمولة على عصر الحضور بقرینة ما ورد فی روایة معلّى بن خنیس «خذوا به حتّى یبلغکم عن الحی».
ولکن قد یقال: لابدّ من ردّ علم هذه الروایات إلى أهلها لأنّه کما جاز أن یکون الأوّل للتقیة والثانی لبیان حکم الله الواقعی جاز بالعکس أیضاً، فلا یمکن العمل بالروایة على کلّ حال، ولذا لم یعمل بها أحد من الأصحاب.
ولکن الإنصاف أنّ معنى هذه الطائفة معلومة معقولة، فإنّ المراد منها هو الأخذ بالأحدث لمن کان معاصراً له فإنّ هذا هو حکمه الشرعی فی ذلک الزمان سواء کان تقیّة أو ابطال تقیة سابقة.
أمّا الطائفة الخامسة: فهى ذیل مقبولة ابن حنظلة حیث قال: إذا کان ذلک (أی کان الخبران متساویین فی المرجّحات السابقة) فارجئه حتّى تلقى إمامک فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الإقتحام فی الهلکات»(15). وذیل روایة المیثمی عن الرض(علیه السلام) حیث قال: «وما لم تجدوه فی شیء من هذه الوجوه فردّوا إلینا علمه»(16).
ومن الواضح أنّ هذه الطائفة مختصّة بزمن الحضور وإمکان الوصول إلى الحجّة(علیه السلام).
فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الطریق الصحیح فی المقام إنّما هو ما ذهب إلیه المشهور وهو التخییر.
بقی هنا اُمور:
الأمر الأوّل: فی أنّه هل الحکم بالتخییر فی الخبرین المتعارضین تعبّد محض فیکون حکماً مخالفاً للقاعدة، أو أنّه کاشف بالدلالة الالتزامیّة عن أنّ الصحیح من بین المبانی الخمسة السابقة هو مبنى السببیّة السلوکیّة (التی لیست من قبیل التصویب الباطل) فیکون حکماً مطابقاً للقاعدة، أو أنّ المبنى الصحیح هو الطریقیّة، ولکنّه أیضاً مطابق للقاعدة لخصوصیّة فی المقام؟ وجوه.
وجه الاحتمال الأوّل: ما مرّ سابقاً من أنّ القاعدة تقتضی التعارض فیکون الحکم بالتخییر تعبّداً محضاً وحکماً مخالفاً للقاعدة.
وجه الاحتمال الثانی: ما ورد فی بعض الروایات من التعبیر بـ «أیّهما أخذت من باب التسلیم وسعک» حیث إنّه یستشمّ منه أنّ نفس التسلیم فی مقابل الأئمّة وسلوک الطریق الذی فتحوه أمامنا یکون ذا مصلحة.
ولکن هذا التعبیر ورد فی ثلاث روایات:
إحدیها: مکاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحمیری.
وثانیها: ما رواه أحمد بن الحسن المیثمی عن الرض(علیه السلام).
وثالثها: مرسلة الکلینی، وقد مرّ أنّ الأوّلیین واردتان فی المستحبّات وهى خارجة عن محلّ الکلام، والثالثة مرسلة.
هذا ـ مضافاً إلى ما ورد فی صدر بعضها (وهو روایة المیثمی) من لزوم أعمال المرجّحات أوّلا: حیث إنّ أعمال المرجّح بین الخبرین إنّما یتصوّر فیما إذا کان خصوص أحدهما طریقاً إلى الواقع وأردنا تعیینه من بینهما بالمرجّح، وإلاّ إذا کان لسلوک کلّ منها مصلحة فلا حاجة إلى ترجیح أحدهما على الآخر والأخذ بخصوصه، فإذا کان الصدر کذلک یحمل علیه الذیل أیضاً، بل الإنصاف أنّ قوله «من باب التسلیم» لیس له ظهور فی السببیّة وإن کان له دلالة علیها، فهى فی حدّ الإشعار، فلا تکون دلیلا على شیء.
ووجه الاحتمال الثالث: إنّا نعلم بصدور أحد الخبرین وصدقه، ولا إشکال فی أنّ مقتضى القاعدة فی موارد دوران الأمر بین المحذورین مع العلم بصدق أحدهما هو التخییر.
وفیه: أنّه مبنى على حصول العلم بصدور أحدهما، وأنّى لنا بإثباته؟
بل المفروض العلم بکذب أحدهما فقط، وأمّا الآخر فهو دلیل ظنّی فی نفسه یحتمل الکذب أیضاً، وقد عرفت أنّ أدلّة الحجّیة لا تشمل شیئاً منهما بعد فرض التعارض.
الأمر الثانی: فی أنّ التخییر فی المقام واقعی أو ظاهری؟
فإن کان واقعیاً کان نظیر التخییر بین خصال الکفّارات والتخییر بین الحمد والتسبیحات الأربعة فی الرکعتین الأخیرتین، وإن کان ظاهریاً کان نظیر التخییر بین الوجوب والحرمة عند دوران الأمر بین المحذورین فی الحکم الظاهری.
والصحیح فی ما نحن فیه هو الثانی، لأنّ المختار فیه هو مبنى الطریقیّة والعلم بکذب أحد الخبرین لأنّ المصلحة حینئذ لو کانت فإنّما هى فی واحد منهما، فلا یتصوّر حینئذ التخییر الواقعی لأنّه إنّما یتصوّر فیما إذا وجدت المصلحة فی کلّ من الأطراف.
الأمر الثالث: فی أنّ التخییر فی المقام هل یکون فی المسألة الاُصولیّة، أو فی المسألة الفقهیّة؟ وبعبارة اُخرى: هل التخییر یکون للمجتهد فقط فی اختیار الأدلّة، أو له وللمقلّد فی العمل؟
قال شیخنا الأعظم الأنصاری(رحمه الله): «المحکی عن جماعة بل قیل أنّه ممّا لا خلاف فیه أنّ التعادل إن وقع للمجتهد فی عمل نفسه کان مخیّراً فی عمل نفسه، وإن وقع للمفتی لأجل الإفتاء فحکمه أن یخیّر المستفتی فیتخیّر فی العمل کالمفتی ... (إلى أن قال): ویحتمل أن یکون التخییر للمفتی فیفتی بما اختار ... (إلى أن قال) والمسألة بعد محتاجة إلى التأمّل وإن کان وجه المشهور أقوى» انتهى.
واستدلّ لقول المشهور أی القول الأوّل بوجهین:
الأوّل: أنّ خطابات الأمارات عامّة تشمل المجتهد والمقلّد، إلاّ أنّ المقلّد عاجز عن القیام بشروط العمل بالأدلّة من حیث تشخیص مقتضاها ودفع موانعها، فإذا ثبت للمجتهد جواز العمل بکلّ من الخبرین المتکافئین المشترک بین المقلّد والمجتهد تخیّر المقلّد کالمجتهد.
الثانی: إنّ إیجاب مضمون أحد الخبرین على المقلّد تعییناً لا دلیل علیه، فهو تشریع محرّم.
واستدلّ للقول الثانی أوّلا: بما ورد فی مرفوعة زرارة قلت: «إنّهما معاً موافقان للاحتیاط ومخالفان فکیف أصنع؟ فقال(علیه السلام): إذن فتخیّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» حیث إنّه وارد بعد اعمال المرجّحات ولا إشکال فی أنّه من عمل المجتهد لا المقلّد مضافاً إلى أنّ قوله: «فتخیّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» کالصریح فی اختیار أحد الحجّتین ورفض الآخر، ولیس ذلک إلاّ للمجتهد.
وبعبارة اُخرى: لم یخیّره الإمام بین مضمون الخبرین بل أمره بالأخذ بأحد الدلیلین تخییراً.
وثانیاً: بأنّ التخییر حکم للمتحیّر والمتحیّر، إنّما هو المجتهد لا المقلّد.
أقول: الأولى فی المقام ملاحظة روایات التخییر، ولا إشکال فی أنّها ظاهرة فیما ذهب إلیه المشهور فإنّ من جملتها ما رواه سماعة عن أبی عبدالله (علیه السلام) «قال: سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من أهل دینه فی أمر کلاهما یرویه، أحدهما یأمر بأخذه والآخر ینهاه عنه کیف یصنع؟ قال: فهو فی سعة حتّى یلقاه»(17).
ولا إشکال فی أنّه ظاهر فی التخییر بین مدلولی الخبرین فی العمل.
ومنها: مرسلة الکلینی المذکورة سابقاً (فإنّه قال: «وفی روایة اُخرى بأیّهما أخذت من باب التسلیم وسعک»(18)).
وهکذا روایة الحسن بن الجهم(19). وروایة الحارث بن المغیرة(20) المذکورتان فی السابق أیضاً.
نعم المستفاد من مرفوعة زرارة کما عرفت هو التخییر فی المسألة الاُصولیّة، ولکن الکلام بعد فی سندها.
وأمّا الاستدلال للقول بکون التخییر فی المسألة الاُصولیّة بأنّ التحیّر حاصل للمجتهد فقط، فیمکن الجواب عنه بأنّ الموضوع فی روایات التخییر هو الخبران المتعارضان لا المتحیّر، فإنّه لم یرد هذا العنوان فی شیء من هذه الروایات، فإذن الأظهر هو ما ذهب إلیه المشهور.
ثمّ إنّه لو شککنا فی المسألة ولم نعلم أنّه هل التخییر للمجتهد أو للمقلّد فمقتضى الأصل هو الأوّل ببیانین:
أحدهما: أنّه من قبیل دوران الأمر بین التعیین والتخییر، لأنّ لازم کون التخییر فی المسألة الاُصولیّة أن یفتی المجتهد بأحد الخبرین تعییناً، ولازم التخییر فی المسألة الفقهیّة أن یفتی بالتخییر بینهما، فعلى القول بأنّ مقتضى القاعدة فی دوران الأمر بینهما هو التعیین تکون النتیجة کون التخییر فی المسألة الاُصولیّة.
ثانیهما: إنّا نعلم بحجّیة ما اختاره المجتهد منهما قطعاً ونشکّ فی حجّیة الآخر، وقد ثبت فی محلّه أنّ مجرّد الشکّ فی الحجّیة کاف لإثبات عدمها.
الأمر الرابع: هل التخییر بدوی أو استمراری؟ والمراد من التخییر البدوی أنّه لو اختارمثلا وجوب صلاة الجمعة (عند تعارض الأخبار) لابدّ من العمل بها ما دام عمره، ومعنى التخییر الاستمراری أنّ له فی المثال المذکور اختیار الجمعة فی کلّ جمعة أراد، واختیار صلاة الظهر کذلک طول عمره.
والأقوال فی المسألة ثلاثة:
1 ـ ما حکی عن جماعة من المحقّقین من أنّ التخییر استمراری.
2 ـ ما یظهر من بعض کلمات شیخنا الأعظم(رحمه الله) من أنّه بدوی.
3 ـ بناء المسألة على المسألة السابقة، فإن قلنا بأنّ التخییر فی المسألة الاُصولیّة یکون التخییر هنا بدویاً، وإن قلنا بأنّ التخییر فی المسألة الفقهیّة یکون التخییر هنا استمراریاً، وهذا ما ذهب إلیه المحقّق النائینی(رحمه الله) فی فوائد الاُصول.
واستدلّ للقول الأوّل بوجهین:
أحدهما: إطلاقات أخبار التخییر، فإنّ التعبیر بـ «فموسّع علیک» أو «إذن فتخیّر» ظاهر فی السعة الاستمراری والتخییر الدائمی.
ثانیهما: استصحاب التخییر الثابت فی بدو الأمر على فرض الشکّ.
واستدلّ للقول الثانی أیضاً بوجهین (وهما فی الواقع جواب عن ما استدلّ به للقول الأوّل):
أحدهما: أنّ الموضوع فی أخبار التخییر هو التحیّر، وهو یرتفع بعد إختیار أحد الخبرین فلا یکون بعده مشمولا لها، کما أنّه لا یجوز حینئذ استصحاب التخییر لتبدّل الموضوع.
ثانیهما: لزوم المخالفة القطعیّة التدریجیة العملیّة من استمرار التخییر فإنّ المفروض کون التخییر ظاهریاً فیکون أحدهما مخالفاً للواقع قطعاً.
أقول: یمکن المناقشة فی الوجه الأوّل بأنّ الموضوع فی أخبار التخییر لیس هو عنوان المتحیّر بل الموضوع وجود خبرین متعارضین، ولا إشکال فی أنّ التعارض دائمی.
وأمّا الوجه الثانی فهو تامّ فی محلّه، وقد ذکرنا فی محلّه أنّ المخالفة القطعیّة العملیّة للعلم الإجمالی حرام سواء کانت دفعیّة أو تدریجیّة، ولازم هذا الوجه کون التخییر بدویاً کما تشهد به مرفوعة زرارة لأنّها تأمر بالأخذ بأحد الخبرین وطرد الآخر حیث تقول «فتخیّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» ولا إشکال فی أنّ ظاهر طرد الآخر طرده مطلقاً، کما أنّ ظاهر الأخذ بأحدهما أخذه دائماً.
وأمّا القول الثالث فاستدلّ المحقّق النائینی(رحمه الله) له بأنّ التخییر إذا کان فی المسألة الفقهیّة کان کالتخییر بین القصر والإتمام فی المواطن الأربعة، فللمکلّف أن یعمل بمضمون أحد المتعارضین تارةً، وبمضمون الآخر اُخرى، إلاّ أن یقوم دلیل على خلاف ذلک، وأمّا إذا کان التخییر فی المسألة الاُصولیّة فإنّ معناه هو التخییر فی جعل أحد المعارضین حجّة شرعیة وأخذ أحدهما طریقاً محرزاً للواقع، ولازم ذلک وجوب الفتوى بما اختاره أوّلا وجعل مؤدّاه هو الحکم الکلّی الواقعی المتعلّق بأفعال المکلّفین فلا معنى لإختیار الآخر بعد ذلک(21).
أقول: الحقّ أنّه لا ملازمة بین القول بالتخییر فی المسألة الاُصولیّة وکونه بدویّاً، لإمکان جعل المجتهد مخیّراً فی هذه المسألة مستمرّاً، کما أنّ الأمر فی المسألة الفرعیة أیضاً کذلک، إنّما الکلام بحسب مقام الإثبات وظواهر أدلّة التخییر، فإن کانت هى إطلاقات السعة فهى ظاهرة فی الاستمرار، وإن کانت هى مرفوعة زرارة فهى ظاهرة فی التخییر البدوی، ولو شکّ فی ذلک فقاعدة الاحتیاط حاکمة بالتخییر البدوی لعین ما مرّ فی المسألة السابقة التی دار أمرها بین التعیین والتخییر، هذا کلّه مع قطع النظر عمّا عرفت من لزوم المخالفة القطعیّة العملیّة التدریجیة من التخییر الاستمراری.