إعلم أنّ التخصص عبارة عن خروج شیء عن موضوع حکم آخر تکویناً کخروج زید الجاهل عن قولک «أکرم العلماء» وکخروج العلم الوجدانی عن أدلّة الاُصول العملیّة.
والتخصیص عبارة عن خروج شیء عن حکم دلیل آخر مع حفظ موضوعه کخروج زید العالم عن قولک «أکرم العلماء».
وأمّا الورود فهو عبارة عن خروج شیء عن موضوع حکم آخر حقیقة ولکن بعد ورود دلیل شرعی، نظیر خروج غسل الجمعة فیما إذا دلّ على وجوبه خبر الثقة، عن موضوع قبح العقاب بلا بیان، فإنّه خرج عن موضوع اللاّبیان حقیقة ولکن بالتعبّد الشرعی.
والحکومة عبارة عن أن یکون دلیل ناظراً إلى دلیل آخر ومفسّراً له وموجباً للخروج عن الموضوع (أو المتعلّق أو الحکم) ولکن تعبّداً لا حقیقة، کقولک: «زید لیس بعالم» بالنسبة إلى قولک: «أکرم العلماء»، وکذلک دخول موضوع فی أحدهما توسعة بالتعبّد.
فنلاحظ أنّ الورود شبیه التخصّص فی کون کلّ منهما خروجاً عن الموضوع حقیقة، والفرق بینهما أنّ الخروج فی أحدهما تکوینی وفی الآخر بعد ورود الدلیل الشرعی، کما أنّ الحکومة شبیه التخصیص فی کون کلّ منهما إخراجاً للموضوع تعبّداً إلاّ أنّ أحدهما (وهو التخصیص) إخراج للموضوع بلسان المعارضة، بینما الحکومة إخراج له بلسان التوضیح والتفسیر، نعم هذا فی ما إذا کان لسان الدلیل الحاکم لسان تضییق لا توسعة، وإلاّ فلا ربط بینهما.
ثمّ إنّ تعابیر الأصحاب فی تفسیر الحکومة مختلفة فقال شیخنا الأعظم الأنصاری(رحمه الله)أنّها عبارة عن أن یکون أحد الدلیلین شارحاً ومفسّراً للدلیل الآخر بمدلوله اللفظی.
وقال المحقّق الخراسانی(رحمه الله): هى أن یکون أحدهما ناظراً إلى بیان کمیّة ما اُرید من الآخر.
وقال المحقّق النائینی(رحمه الله): هى أن یکون أحدهما بمدلوله المطابقی ناظراً إلى التصرّف فی الآخر إمّا فی عقد وضعه إثباتاً أو نفیاً، أو عقد حمله.
أقول: أحسنها هو تعبیر الشیخ الأعظم(رحمه الله) إذا إنضمّ إلیه قید، بأن نقول: الحکومة أن یکون أحد الدلیلین شارحاً ومفسّراً للدلیل الآخر بالدلالة اللفظیّة المطابقیّة أو التضمّنیّة أو الالتزامیّة، وبهذا التعمیم فی الدلالة اللفظیة لا یرد إشکال المحقّق النائینی(رحمه الله) علیه بأن لا یعتبر فی الحکومة أن یکون أحد الدلیلین بمدلوله اللفظی مفسّراً لمدلول الآخر وشارحاً له بحیث یکون مصدّراً بأحد أداة التفسیر أو ما یلحق بذلک، فإنّ غالب موارد الحکومات لا ینطبق على هذا الضابط.
وممّا ذکرنا من التعمیم یظهر عدم ورود هذا الإیراد، إذ إنّه وارد بناءً على انحصار الدلالة اللفظیّة فی المطابقیة کما لا یخفى.
وبما ذکرنا یتّضح أیضاً أنّ فی تمام موارد الحکومة یوجد للدلیل الحاکم نظر إلى الدلیل المحکوم ویکون هو مفسّراً له ولو فی حدّ الدلالة الالتزامیة کما فی أدلّة الأمارات کمفهوم آیة البناء بالنسبة إلى أدلّة الاُصول کما مرّ فی بعض الأبحاث السابقة.
کما یتّضح وجه تقدیم الدلیل الحاکم على الدلیل المحکوم، حیث إنّه مفسّر للدلیل المحکوم، ولا إشکال فی أنّ المفسّر (بالکسر) یقدّم على المفسَّر (بالفتح).
وظهر بما ذکرنا أیضاً أنّ الحکومة على أقسام: فتارةً یکون الدلیل الحاکم ناظراً إلى التصرّف فی موضع الدلیل المحکوم توسعة أو تضییقاً، ومثال الأوّل قول المولى: «العادل عالم»، ومثال الثانی قوله: «إنّ العالم الفاسق لیس عندی بعالم» .
واُخرى یکون ناظراً إلى التصرّف فی متعلّق الدلیل المحکوم نظیر قول المولى فی مثال «أکرم العلماء»: «إنّ الإطعام لیس بإکرام» وقوله: «السلام إکرام».
وثالثة یکون ناظراً إلى التصرّف فی حکم الدلیل المحکوم کما إذا قال: «إنّما عنیت من وجوب إکرام العلماء وجوب إکرام الفقهاء خاصّة».
ورابعة یکون ناظراً إلى التصرّف فی النسبة کقوله «إکرام الفاسق لیس بإکرام العالم».
بقی هنا شیء:
وهو أنّ المحقّق النائینی(رحمه الله) قسّم الحکومة إلى قسمین: ظاهریّة وواقعیّة، وقال فی توضیحه ما حاصله: أنّ الدلیل الحاکم قد یکون فی مرتبة الدلیل المحکوم فتکون الحکومة واقعیّة، کما فی حکومة قوله(علیه السلام): «لا شکّ لکثیر الشکّ» على أدلّة الشکوک، حیث إنّه یوجب اختصاص الأحکام المجعولة للشاکّ بغیر کثیر الشکّ فی الواقع، وقد لا یکون فی مرتبته بل یکون موضوع الدلیل الحاکم متأخّراً رتبةً عن موضوع الدلیل المحکوم، فتکون الحکومة حینئذ ظاهریّة، کما فی حکومة الأمارات على الأدلّة الواقعیّة، فإنّها لا توجب اختصاص الأحکام الواقعیّة بغیر من قامت عنده الأمارة على خلافها، بل غایتها هو الاختصاص فی مقام الظاهر.
ثمّ یستنتج فی ذیل کلامه أنّه لا یعتبر فی الحکومة تأخّر تشریع الدلیل الحاکم عن تشریع الدلیل المحکوم بحیث یلزم لغویة التعبّد بدلیل الحاکم لولا سبق التعبّد بدلیل المحکوم فإنّ من أوضح أفراد الحکومة حکومة الأمارات على الاُصول، مع أنّه یصحّ التعبّد بالأمارات ولو لم یسبق التعبّد بالاُصول، بل ولو مع عدم التعبّد بها رأس(1).
أقول: فی کلامه مواقع للنظر:
أوّلا: أنّ الحکومة لها قسم واحد من دون فرق بین مواردها فإنّها واقعیّة فی جمیع الموارد، وجمیعها ترجع إلى التخصیص واقعاً وحقیقة، غایة الأمر الدلیل المحکوم قد یکون من الأحکام الواقعیّة، وقد یکون من الأحکام الظاهریّة، وهذا غیر کون الحکومة ظاهریاً فی بعض الموارد وواقعیاً فی بعض الموارد الاُخرى، وبعبارة اُخرى: التخصیص واقعی وإن کان المخصّص أو المخصِّص ظاهریاً.
ثانیاً: أنّ رتبة الدلیل الحاکم والدلیل المحکوم واحدة فی جمیع موارد الحکومة، وإلاّ لم یکن توضیحاً وتفسیراً، وأمّا فی مورد الأمارات بالنسبة إلى الأحکام الواقعیّة فالصحیح أنّه لا معنى لحکومة الأمارات على الأحکام الواقعیّة، بل إنّها طرق إلى الواقع، وکما أنّ العلم طریق إلیه تکویناً تکون الأمارات طرقاً إلیه تشریعاً.
وثالثاً: أنّا نعترف بلغویة التعبّد بدلیل الحاکم لولا سبق التعبّد بدلیل المحکوم، لأنّ الدلیل الحاکم ناظر إلى الدلیل المحکوم ومفسّر له، ومن الواضح أنّه لا معنى للتفسیر مع عدم سبق دلیل بعنوان المفسّر (بالفتح)، وهذا صادق حتّى بالنسبة إلى حکومة الأمارات على الاُصول، لما مرّ من أنّها ناظرة إلیها ومفسّرة لها ولو فی حدّ الدلالة الإلتزامیة اللفظیة.
ومن هنا یظهر حال الأمارات فی مقابل الاُصول وأنّ الصحیح کونها واردة علیها.
توضیح ذلک: یحتمل فی وجه تقدیم الأمارات على الاُصول أربعة وجوه: حکومتها علیها، ورودها علیها، إمکان الجمع والتوفیق العرفی بینهما، وتخصیص الاُصول بالأمارات.
ذهب المحقّق الخراسانی(رحمه الله) هنا إلى الوجه الثالث (التوفیق العرفی) مع أنّه صرّح فی أواخر الاستصحاب بالورود، وأراد من التوفیق العرفی ما یقابل الحکومة.
ولکنّه فی غیر محلّه، لأنّ المراد من الجمع العرفی إمّا کون الأمارات خاصّة بالنسبة إلى الاُصول مطلقاً فقد مرّ عدم کونها کذلک، أو أنّ أدلّتها أظهر من أدلّة الاُصول، ولا دلیل علیه.
وبهذا ینتفی الوجه الثالث والرابع، ویدور الأمر بین الحکومة والورود، وقد مرّ أنّ الحقّورود الأمارات على الاُصول لأنّ الأمارة طریق إلى الواقع فیوجب رفع الحیرة والتردّد الذی هو معنى الشکّ المأخوذ فی موضوع الاُصول، ولو تنزّلنا عن ذلک فلا أقلّ من الحکومة، لما مرّ أیضاً من أنّ أدلّة الأمارات ناظرة إلى أدلّة الاُصول ولو بمدلولها الالتزامی.