وقد أشار المحقّق الخراسانی(رحمه الله) إلى خمسة منها: قاعدة التجاوز، قاعدة الفراغ (بناءً على الفرق بینهما)، أصالة الصحّة، قاعدة الید، قاعدة القرعة.
ولا إشکال فی وجوب تقدیم هذه القواعد على الاستصحاب، وإنّما الکلام فی وجهه.
قال المحقّق الخراسانی(رحمه الله) بأنّ الوجه أخصّیة دلیلها من دلیل الاستصحاب، وکون النسبة بینه وبین بعضها عموماً من وجه لا یمنع عن تخصیصه بها، وذلک لوجهین:
أحدهما: الإجماع على عدم التفصیل فی جریان هذه القواعد بین موارد جریان الاستصحاب وغیرها، فکما أنّه یعمل بالید مثلا فیما إذا لا یکون فی موردها استصحاب، فکذلک یعمل بها فیما إذا کان هناک استصحاب على خلافها.
ثانیهما: أنّ مورد افتراق الید (مثلا) عن الاستصحاب نادر قلیل جدّاً، فلو خصّصنا الید بالإستصحاب وجعلنا مورد الاجتماع تحت الاستصحاب لزم التخصیص المستهجن بلا إشکال، بخلاف ما إذا خصّصنا الاستصحاب بالید وجعلنا مورد الاجتماع تحت قاعدة الید.
أقول: الصحیح من هذین الوجهین هو الوجه الثانی لأنّ الإجماع فی مثل هذه الموارد لا أقلّ من کونه محتمل المدرک.
إن قلت: إن کانت النسبة العموم من وجه، فما هو موضع إفتراق هذه القواعد عن الاستصحاب؟
قلنا: قد ذکر له موردان: أحدهما: موارد توارد الحالتین، فلا یجری الاستصحاب فیما إذا توارد الحدث والطهارة على مکلّف واحد مثلا وشکّ فی السابق منهما بعد إتیان الصّلاة، بل تجری قاعدة الفراغ بلا معارض.
ثانیهما: موارد الشکّ فی طروّ المانع فیما إذا کان الاستصحاب موافقاً لأصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ والتجاوز، کما إذا شککنا فی إتیان رکوع زائد بعد التجاوز عن المحلّ أو بعد إتمام الصّلاة، فإنّ استصحاب عدم إتیانه برکوع زائد موافق لقاعدة الفراغ فی إثبات صحّة الصّلاة، فتجری قاعدة الفراغ بلا جریان استصحاب معارض، بل الاستصحاب موافق له.
إن قلت: یجری استصحاب بقاء إشتغال الذمّة بالصلاة الصحیحة وهو یعارض أصالة الصحّة.
قلنا: أوّلا: لا تصل النوبة إلى استصحاب الاشتغال مع جریان قاعدة الإشتغال (الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة) فی جمیع موارد الشکّ فی براءة الذمّة، کما قرّر فی محلّه، ولا یخفى الفرق بینهما، فإنّ قاعدة الاشتغال لیست محدودة بموارد سبق الحالة السابقة للاشتغال.
وثانیاً: أنّ استصحاب عدم إتیان الرکوع الزائد حاکم على استصحاب الاشتغال، لکونه سبباً واستصحاب الإشتغال مسبّبیاً، فالشکّ فی بقاء الاشتغال ینشأ من الشکّ فی إتیانه بالرکوع الزائد وعدمه، فإذا ارتفع هو باستصحاب عدمه ارتفع الشکّ فی بقاء الاشتغال أیضاً.
فظهر ممّا ذکر أنّ الوجه فی تقدیم القواعد على الاستصحاب قلّة موارد الافتراق فتقدّم علیه من باب تقدیم الخاصّ على العام.
أقول: والصحیح فی منهج البحث فی المقام تعیین کون هذه القواعد من الأمارات أو الاُصول أوّلا، حیث إنّها إذا کانت من الأمارات کان وجه تقدیمها على الاستصحاب نفس وجه تقدیم سائر الأمارات علیه، وهو کون أدلّتها واردة على أدلّة الاستصحاب أو حاکمة علیها ببیان مرّ تفصیله، ولا إشکال فی أماریة هذه القواعد فتکون واردة على الاستصحاب، ولا أقلّ من کونها حاکمة علیها کما هو مقتضى بعض أدلّتها کقوله (علیه السلام) فی مورد قاعدة التجاوز: «بلى قد رکعت»(1) أی أنّک على یقین من إتیان الرکوع فلا تعتن بشکّک وامض.
هذا کلّه فی بیان النسبة بین الاستصحاب والقواعد الخمسة غیر القرعة.
وأمّا القرعة فحاصل ما أفاده المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی وجه تقدیم الاستصحاب علیها وبیان النسبة بینهما وجوه ثلاثة:
الوجه الأوّل: أنّ دلیل الاستصحاب أخصّ من دلیل القرعة لأنّ الاستصحاب ممّا یعتبر فیه سبق الحالة السابقة دون القرعة.
إن قلت: إنّ النسبة بین الاستصحاب والقرعة هى العموم من وجه لا العموم المطلق، فکما أنّ الاستصحاب أخصّ من القرعة لاعتبار سبق الحالة السابقة فیه فکذلک القرعة تکون أخصّ من الاستصحاب لاختصاصها بالشبهات الموضوعیّة بالإجماع بل بالضرورة.
قلنا: المدار فی النسبة بین الدلیلین هو نسبتهما بحسب أنفسهما قبل تخصیص أحدهما بشیء، فتخصیص القرعة بالشبهات الموضوعیّة بالإجماع والضرورة لا یوجب خصوصیة فی جانبها بعد عموم دلیلها بحسب اللفظ.
الوجه الثانی: أنّ عموم دلیل القرعة موهون بکثرة تخصیصه حتّى صار العمل به فی مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل الأصحاب بخلاف الاستصحاب فیکون عمومه باقیاً على قوّته فیقدّم على عمومها.
الوجه الثالث: أنّ الموضوع فی جریان القرعة کون الشیء مشکلا بقول مطلق (واقعاً وظاهراً) لا فی الجملة، وعلیه یکون دلیل الاستصحاب وارداً على دلیل القرعة، رافعاً لموضوعه (أی الإشکال) ولو تعبّداً وظاهراً، لا حقیقة وواقعاً.
أقول: الحقّ عدم تمامیة الوجه الأوّل والثانی (وقد أخذهما صاحب الکفایة عن الشیخ الأعظم(رحمه الله)).
أمّا الوجه الأوّل فإنّ دلیل القرعة لیس عاماً من أوّل الأمر، لأنّ الإرتکاز العقلائی والمتشرّعی الموجود على اختصاصها بالشبهات الموضوعیّة یوجب انصرافها إلى الشبهات الموضوعیّة کما لا یخفى، وحینئذ لا یلزم انقلاب النسبة، بل النسبة بین دلیلها ودلیل الاستصحاب عموم مطلق من الأوّل.
وأمّا الوجه الثانی، فیرد علیه: أیضاً أنّ القرعة لم تخصّص فی مورد فضلا عن کونها موهونة بکثرة التخصیصات، لأنّ موضوعها کلّ أمر مجهول، وهو لا یعنی کلّ أمر مشکوک، بل إنّما هو بمعنى سدّ جمیع الأبواب والطرق، کما هو کذلک فی مثال ولد الشبهة أو الغنم الموطوءة وغیرهما ممّا ورد فی أحادیث الباب، ففی مورد المثال الأوّل لا بیّنة تعیّن بها خصوص الموطوءة، ولا استصحاب لعدم سبق الحالة السابقة، ولا تجری أصالة الاحتیاط للزوم الضرر العظیم، وفی مثال ولد الشبهة لا طریق لإحراز أمر الولد وتخییر القاضی مظنّة التشاحّ والتنازع، فلا یبقى طریق إلاّ القرعة.
والحاصل: أنّ القرعة إنّما تجری فی موارد سدّ الأبواب جمیعاً من الأمارات والاُصول.
فالصحیح فی المقام هو الوجه الثالث، وهو أنّ أدلّة الاستصحاب واردة على أدلّة القرعة لأنّ بها یرتفع المجهول موضوعاً، کما أنّها کذلک بالنسبة إلى أدلّة سائر الاُصول وجمیع الأمارات والقواعد.
ثمّ إنّ شیخنا الأعظم(رحمه الله) قد فرّق بین الاُصول الشرعیّة کالاستصحاب وبین الاُصول العقلیّة، فقال بورود الاُصول الشرعیّة على القرعة خلافاً للاُصول العقلیّة کالبراءة العقلیّة فإنّ القرعة واردة علیها لأنّ موضوعها «لا بیان» والقرعة بیان.
وبما ذکرنا ظهر ضعف هذا الکلام لأنّ موضوع القرعة ـ کما قلنا ـ هو المجهول المطلق، وهو لیس حاصلا حتّى فی موارد البراءة والاحتیاط العقلیین، ولذلک لا یتمسّک حتّى الشیخ(رحمه الله) نفسه بذیل القرعة فی أطراف العلم الإجمالی، مع أنّ وجوب الاحتیاط فیها من الاُصول العقلیّة.
وتمام الکلام فی مسألة القرعة وتحقیق مثل هذه المباحث یحتاج إلى رسم اُمور (وإن کان استیفاء البحث فیها موکولا إلى محلّ آخر)(2).