وهو ممّا ذکر فی کلمات الأصحاب بعنوان الخاتمة، مع أنّه لا فرق بینه وبین سائر الاُمور التی ذکرت تحت عنوان التنبیهات، ولذا ألحقناه بها، وکذا ما یلیه من الاُمور المذکورة فی الخاتمة.
وکیف کان، فقد ذهب أکثر المحقّقین إلى أنّ جریان الاستصحاب فرع لبقاء موضوع المستصحب وإحرازه فی الزمان اللاحق، ثمّ تکلّموا بعد ذلک عن أنّه هل اللازم کون ذلک بالنظر الدقیق العقلی أو یکفی بقاءه عند العرف أو لابدّ من ملاحظة ما أخذ موضوعاً فی لسان الدلیل؟
ولکن بعضهم کالمحقّق الخراسانی(رحمه الله) عبّر عن هذا باتّحاد القضیتین المتیقّنة والمشکوکة، ولازمه وحدة کلّ من الموضوع والمحمول فیهما.
واستدلّ لذلک بأنّه ظاهر أدلّة الاستصحاب ولازم قوله (علیه السلام): «لا تنقض الیقین بالشکّ» حیث إنّه لو لم یکن موضوع القضیتین متّحداً کاتّحادهما محمولا لم یکن رفع الید عن الیقین فی محلّ الشکّ نقضاً للیقین بالشکّ، بل لا یکون نقضاً أصلا، فإذا تیقّن مثلا فی السابق بعدالة زید وشکّ فعلا فی عدالة عمرو لا یکون الشکّ حینئذ فی بقاء ما کان، کما لا یکون رفع الید عن الیقین بعدالة عمرو نقضاً للیقین بالشکّ، وکذا إذا علم بعدالة زید ثمّ شکّ فی وکالته مثلا عن عمرو.
هذا مضافاً إلى أنّه لو لم یکن موضوع القضیتین متّحداً کاتّحادهما محمولا لم یصدق الشکّ فی البقاء کما لا یخفى.
أقول: الصحیح فی المقام أن یقال: إنّ المراد من بقاء الموضوع فی کلمات القوم إنّما هو وجود الموضوع فی الزمان اللاحق، أی یعتبر فی الاستصحاب أن یکون الموضوع موجوداً حینما یکون الحکم مشکوکاً، مضافاً إلى اعتبار وحدة القضیتین، ولا ریب فی أنّ أحدهما غیر الآخر.
والشاهد على اعتبار وجود الموضوع نفس أخبار الباب حیث إنّ المشکوک فی موردها إنّما هو بقاء الحکم (کبقاء الوضوء فی حدیث زرارة) مع فرض بقاء الموضوع ووجوده حین الشکّ.
إن قلت: إنّه ینتقض باستصحاب وجود الأشیاء عند الشکّ فی بقائها، حیث إنّ الشکّ حینئذ إنّما هو فی وجود الموضوع فی الزمان اللاحق على نحو مفاد کان التامّة، ومع إحراز وجود الموضوع فی الزمان اللاحق لا معنى لهذا الشکّ.
قلنا: إنّ معنى وجود الموضوع هو تحقّق الموضوع فی اللاحق على نحو تحقّقه فی السابق، فإن کان تحقّقه فی السابق تحقّقاً ماهویاً کما فی مفاد کان التامّة، نحو «زید کان موجوداً» بأن کان الموضوع (وهو زید فی المثال) بتقرّره الماهوی موضوعاً للاستصحاب کان المعتبر تحقّقه فی الزمان اللاحق کذلک، وإن کان تحقّقه فی السابق خارجیاً بأن کان بوجوده الخارجی موضوعاً للاستصحاب، کما فی مثل قولک: «کان زید عادلا» وشککنا الآن فی عدالته فیعتبر وجوده فی اللاحق خارجاً، وإن کان تحقّقه فی السابق فی عالم الاعتبار کالملکیّة والزوجیّة فیعتبر وجوده فی اللاحق فی عالم الاعتبار أیضاً.
وکیف کان، یعتبر فی حجّیة الاستصحاب بقاء الموضوع بمعنى وجوده فی الزمان اللاحق على نحو وجوده فی الزمان السابق، والدلیل علیه ظاهر أخبار الباب کما مرّ، فإنّ المشکوک فیها هو الحکم بعد إحراز وجود الموضوع.
ثمّ إنّ الشکّ قد یکون من قبیل الشبهات الموضوعیّة وقد یکون من قبیل الشبهات الحکمیّة، والشبهات الموضوعیّة قد تکون على نحو مفاد کان التامّة، کما إذا کان الشکّ فی وجود زید، وقد تکون على نحو مفاد کان الناقصة، کما إذا کان الشکّ فی بقاء کرّیة الماء، والشبهات الحکمیّة أیضاً على قسمین: تارةً یکون الشکّ فی الحکم بوجوه الإنشائی، واُخرى یکون الشکّ فیه بوجوده الفعلی.
هذه أقسام أربعة.
ولا إشکال فی جریان الاستصحاب فی القسم الأوّل، ولا یتصوّر فیه دعوى تبدّل الموضوع کما لا یخفى، بخلاف القسم الثانی، حیث یتصوّر فیه دعوى تبدّل الموضوع، فإذا أخذنا من الکرّ مقداراً من الماء وشککنا فی بقاء کرّیته أمکن أن یدّعی أنّ هذا الماء لیس هو الماء السابق بالدقّة العقلیّة، فیجری فیه ما سیأتی من المدار فی بقاء الموضوع هل هو العقل أو العرف أو غیرهما؟ فانتظر.
وأمّا الشبهات الحکمیّة ففی القسم الأوّل منها، أی ما إذا کان الشکّ فی بقاء الحکم الإنشائی وبالمآل فی نسخه وعدمه فقد یقال: لا یتصوّر فیه أیضاً تبدّل الموضوع نظراً إلى رجوع إلى الشکّ فی وجود الإنشاء وعدمه (ولکنّه غیر خال عن الإشکال کما سیأتی) کما فی القسم الأوّل من الشبهات الموضوعیّة، بخلاف القسم الثانی منها، نظیر ما إذا شککنا فی بقاء نجاسة الماء المتغیّر الذی زال عنه التغیّر، فیجری فیه أیضاً ـ کالقسم الثانی من الشبهات الموضوعیّة ـ ما سیأتی من النزاع فی میزان التبدّل کما لا یخفى.
ثمّ إنّ الشیخ الأعظم الأنصاری استدلّ لإعتبار وجود الموضوع بإستحالة إنتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر (للزوم الطفرة، وهى مستلزمة لکون العرض بلا معروض ولو آناً مّا فی حال الانتقال والتحوّل) وذلک فی المقام من باب إنّ الموضوع بمنزلة معروض للحکم فیلزم من انتقال الحکم من موضوع إلى موضوع آخر ـ کانتقال الحرمة من الماء المتغیّر إلى الماء الذی زال عنه التغیّر ـ انتقال العرض من معروض إلى معروض آخر.
ولکن یرد علیه: أوّلا: أنّ هذا أیضاً من قبیل الخلط بین الحقائق والاعتباریات، فإنّ إستحالة انتقال العرض إنّما یتصوّر فی الاُمور التکوینیّة لا الاعتباریّة کالوجوب والحرمة لأنّها لیست من الأعراض فی الحقیقة.
وثانیاً: أنّه لا دلیل على هذه الإستحالة بل أنّه من قبیل الشبهة فی البدیهیات، حیث إنّا نجد بوجداننا إنتقال الأعراض من معروض إلى معروض آخر کانتقال الحرارة من الماء إلى الإناء، وکذلک انتقال البرودة من أحدهما إلى الآخر، مثلا قد یکون مقدار حرارة الماء عشرین درجة ثمّ یصبّ فی إناء یکون درجته على حدّ الصغر فتنخفض درجة الماء إلى عشرة، حینما بلغت درجة حرارة الإناء أیضاً عشرة، فمن أین جاءت هذه العشرة؟ وإلى أین ذهبت تلک العشرة؟ وهل هى إلاّ بانتقالها من أحدهما إلى الآخر، بل المنظومة الشمسیّة لا تزال محلا لهذا الانتقال فی جمیع آنات اللیل والنهار، فکیف یکون إنتقال العرض محالا؟
ثالثاً: سلّمنا، ولکنّه أخصّ من المدّعى لأنّ جمیع موارد الاستصحاب لیست من قبیل العرض والمعروض، بل قد تکون من قبیل الوجود والماهیّة، کما فی مفاد کان التامّة (کان زید) ولا إشکال أنّ الوجود لیس من عوارض الماهیّة.
إلى هنا قد ظهر ممّا ذکرنا أنّه یعتبر بقاء الموضوع (إمّا بمعنى وجود الموضوع أو بمعنى اتّحاد القضیتین کما أفاده المحقّق الخراسانی(رحمه الله) أو کلیهما کما هو المختار) فی جریان الاستصحاب.