وهو غیر استصحاب الکتابی الذی سیأتی بیانه، فهل یجوز أن یکون المستصحب حکماً من أحکام الشریعة السابقة کحجّیة القرعة الثابت وجودها فی الشرائع السابقة کما وردت فی قصّة زکریا وقصّة یونس فی کتاب الله العزیز، أو یعتبر فی المستصحب أن یکون حکماً ثابتاً فی هذه الشریعة؟
قد یقال: إنّ أرکان الاستصحاب فیها مختلّة من جهتین:
الاُولى: من ناحیة عدم الیقین بثبوتها فی حقّ المکلّف الذی أراد أن یستصحب بالنسبة إلى نفسه وإن علم بثبوتها فی حقّ آخرین، فإنّ الحکم الثابت فی حقّ جماعة لا یمکن إثباته فی حقّ جماعة اُخرى لتغایر الموضوع، ولذا یتمسّک فی تسریة الأحکام الثابتة للحاضرین أو الموجودین إلى الغائبین أو المعدومین بالإجماع والأخبار الدالّة على إشتراک جمیع الاُمّة فی الحکم، لا بالإستصحاب.
واُجیب عنها: بأنّ الحکم الثابت فی الشریعة السابقة لم یکن ثابتاً لخصوص الافراد الموجودین فی الخارج بنحو القضیة الخارجیة، بل الحکم کان ثابتاً لعامّة المکلّفین بنحو القضیة الحقیقیّة، فإذا شکّ فی بقائه لهم لإحتمال نسخه فی هذه الشریعة استصحب.
الثانیة: من ناحیة الشکّ اللاحق، فإنّا نتیقّن بإرتفاعها بنسخ الشریعة السابقة بهذه الشریعة فلا شکّ فی بقائها حینئذ حتّى یکون من قبیل نقض الیقین بالشکّ فیستصحب، بل إنّه من قبیل نقض الیقین بالیقین.
واُجیب عنها أیضاً: أوّلا: بأنّ نسخ الشریعة السابقة لیس بمعنى نسخ جمیع أحکامها فإنّ کثیراً من أحکام الشرائع السابقة باقیة فی هذه الشریعة أیضاً کحرمة الزنا والغیبة وغیرهما.
وإن شئت قلت: إن اُرید من النسخ نسخ کلّ حکم إلهی من أحکام الشریعة السابقة فهو ممنوع، وإن اُرید نسخ البعض فالمتیقّن من المنسوخ ما علم بالدلیل، فیبقى غیره على ما کان علیه ولو بحکم الاستصحاب.
إن قلت: إذا علمنا بنسخ بعضها إجمالا صار جمیعها من أطراف العلم الإجمالی فلا یمکن الاستصحاب فیها.
قلنا: إنّ العلم الإجمالی هذا ینحلّ إلى علم تفصیلی وشکّ بدوی، فإنّ مقدار المعلوم بالتفصیل ینطبق على مقدار المعلوم بالإجمال.
وثانیاً: إنّا نفرض الشخص الواحد مُدرکاً للشریعتین، فإذا إستصحب هو بالنسبة إلى نفسه تمّ الأمر فی حقّ غیره من المعدومین بقیام الضرورة على إشتراک أهل الزمان الواحد فی الشریعة الواحدة، وقد اُجیب عن هذا الجواب بأنّ ذلک غیر مجد فی تسریة الحکم من المدرک للشریعتین إلى غیره من المعدومین، فإنّ قضیّة الإشتراک لیس إلاّ أنّ الاستصحاب حکم کلّ من کان على یقین فشکّ، لا حکم الکلّ ولو من لم یکن کذلک.
وإن شئت قلت: قاعدة الاشتراک تجری بالنسبة إلى موارد الوحدة فی الموضوع لا ما إذا اختلف الموضوع، فإذا کانت أرکان الاستصحاب الذی هو حکم ظاهری تامّة فی حقّ أحد دون آخر یجری الاستصحاب فی حقّه فقط دون غیره.
أقول: التحقیق فی المسألة یستدعی تحلیل ماهیة نسخ الشریعة، فنقول: لا إشکال فی أنّ نسخ الشریعة لیس بمعنى نسخ الاُصول الإعتقادیة فیها، کما لا إشکال فی أنّه لیس عبارة عن تغییر جمیع الأحکام بل یدور النسخ مدار معنیین:
أحدهما: رفع بعض الأحکام الفرعیة وجزئیات الفروع ککیفیة الزکاة والصّلاة، وثانیهما: إتمام أمد رسالة النبی السابق وانقضاء عمرها، ولازمه تشریع جمیع الأحکام من جدید، وحینئذ لیس هو من قبیل تغییر الدولة فی حکومة خاصّة وتبدیلها إلى دولة اُخرى، بل هو فی الواقع من قبیل تبدیل أصل الحکومة إلى حکومة جدیدة ونظام آخر بحیث لابدّ فیه من تقنین قانون أساسی جدید، وبالجملة أنّه بمعنى تدوین جمیع القوانین العملیّة والأحکام الفرعیة من أصلها، وإن إشترکت الشریعتان فی کثیر من أحکامهما.
الصحیح فی ما نحن فیه هو المعنى الثانی، فإنّ هذا هو حقیقة نسخ الشرائع والدیانات وظهور شریعة اُخرى جدیدة، ویشهد على هذا المعنى أوّلا: تکرار تشریع بعض الأحکام فی الإسلام مع وجوده فی الشریعة السابقة کحرمة شرب الخمر وحرمة الزنا ووجوب الصیام والصّلاة وکثیر من المحرّمات والواجبات، کما یدلّ علیه بالصراحة التعبیر بالکتابة فی مثل قوله تعالى: (کُتِبَ عَلَیْکُمْ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ).
وثانیاً: جریان أصالة الإباحة بالنسبة إلى الشبهات الوجوبیّة عند الأخباری والاُصولی معاً، وفی الشبهات التحریمیّة عند الاُصولی فقط، فإنّه أیضاً شاهد على نسخ جمیع الأحکام السابقة ورجوع الأشیاء إلى الإباحة، وعلى عدم وجود حکم إلزامی إلاّ بعد ثبوت تدوینه وکتابته ثانیاً.
والذی یستنتج من هذا المعنى للنسخ هو عدم جواز استصحاب الشرائع السابقة فإنّه فرع احتمال بقاء بعض أحکام الشریعة السابقة، مع أنّک قد عرفت إنّا نعلم بنسخ جمیع أحکامها وتشریع أحکام جدیدة، وافقها أو خالفها.
کما یظهر منه عدم تمامیة ما اُجیب به عن الإشکال الأوّل الذی أورد على استصحاب الشرائع السابقة (وهو جعل الأحکام على نهج القضایا الحقیقیّة) فإنّا لا نقبل جعل أحکام شریعة موسى(علیه السلام) مثلا على نحو تشمل الأفراد بعد انقضاء شریعته، بل إنّما شرّعت لاُمّة موسى(علیه السلام) فقط.
وکذا الجواب الثانی عن الإشکال الثانی (وهو قضیّة المدرک للشریعتین) فهو أیضاً فاسد لأنّه بعد العلم بنسخ جمیع أحکام الشریعة السابقة لا یبقى شکّ لمُدرک الشریعتین فی عدم بقاء تلک الأحکام، حتّى تتمّ أرکان الاستصحاب بالنسبة إلیه فیستصحبها.
هذا تمام الکلام فی أصل جریان استصحاب أحکام الشریعة السابقة، وقد ظهر من جمیع ما ذکرنا عدم جریانه حتّى بناءً على جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة فضلا عن عدم جریانه فیها کما هو المختار.